22/02/2024 - 12:25

المعركة الدوليّة مستمرّة

إنّها فقط البداية، بداية مسار من الجهد القانونيّ والأخلاقيّ والسياسيّ، وتدشين لمرحلة جديدة عنوانها الحقّ الفلسطينيّ، ولكن أيضًا معركة من أجل العدالة الكونيّة وحقوق الشعوب والمقهورين أينما كانوا...

المعركة الدوليّة مستمرّة

طفل نازح إلى رفح جراء العدوان الإسرائيليّ المستمرّ (Getty)

كان الفلسطينيّون يتمنّون لو أنّ محاكمة إسرائيل في محكمة لاهاي الدوليّة، ولأوّل مرّة في تاريخ نظام التطهير العرقيّ، جرت قبل ارتكاب جريمة العصر المهولة الحاليّة، الّتي يشهد العالم من أقصاه إلى أقصاه فظاعاتها بالصورة الحيّة. فلو أخضعت إسرائيل للمحاسبة من قبل، لما تجرّأت على ارتكاب هذه الجريمة، ولمّا واصلت تحدّي منظومة القانون الدوليّ بهذه الصلافة والغطرسة.

والأمر الصادم، خاصّة لمن يطحن تحت آلة الإبادة الصهيونيّة والتجويع، هو أنّ الفعل الإجراميّ غير متوقّف، حتّى بعد أن عقدت المحكمة جلستها الشهيرة، في 26 كانون الثاني/ يناير الماضي، وأصدرت حكمها القاضي باتّخاذ تدابير لوقف حرب الإبادة، واصلت إسرائيل، ضرب هذا الحكم بعرض الحائط، وكأنّها حاكم العالم أجمع. ما معناه أنّه رغم أنّ جلب إسرائيل إلى المحكمة الدوليّة الّذي من المفروض أن يكون خبرًا سارًّا للضحايا، ومصدرًا للفرج، فهو أضاف إلى معاناتهم أثقالًا أخرى وإحباطًا فوق إحباط، وجرحًا فوق جرح، إذ فقدوا ما تبقّى من بصيص أمل بإمكانيّة أن يصحو ضمير الداعمين لنظام الإبادة. فمنذ صدور قرار المحكمة لم يتوقّف الذبح لدقيقة، وظلّت صور الضحايا تتوالى من تحت الأنقاض، وظلّ صوت الناجين، الأحياء الموتى، يصمّ آذان المجرمين والداعمين لهم دون فائدة.

هكذا أعادنا الحدث الرهيب، إلى تاريخ الجماعات والأمم الّتي تعرّضت للإبادة، دون أن يسعفها أحد، وتحديدًا في عصر الغزوات الأوروبّيّة الكولونياليّة الإباديّة إلى الأميركيّتين، أو أفريقيا أو جنوب شرق آسيا في القرون الماضية، أو الّتي توانى أو تـأخّر المجتمع الدوليّ عن التدخّل وإنقاذها، كما حصل في القرن العشرين، مع يهود ألمانيا وأوروبا، أو في راوندا، أو في ميانمار ويوغوسلافيا. بل إنّ استعادة تلك المذابح والمحارق المروّعة تدفع المرء إلى تخيّل صرخات وعذابات الضحايا الّذين كانوا يحشرون في مخيّمات التركيز، أو يحشرون في أفران الغاز، أو يبادون بالأسلحة الرشاشة والطائرات، فيتوقّف متأمّلًا بأسى في سلوك الإنسان، أو أولئك البشر الّذين يخطّطون للشرّ، ويعبّئون مجتمعاتهم ويشحنوها بالكراهية ودفعهم للنظر إلى الآخرين بصورة فوقيّة، ويأمرون جيوشهم بارتكاب العنف بأقصى درجاته، دون أن يتّعظوا من دروس التاريخ. وتزداد الدهشة والصدمة عندما تشاهد من ادّعى تمثيل ضحايا الهولوكست، ضحايا الوحش النازيّ، يرتكب جريمة إبادة ثانية، الأولى حين سطا على قطر عربيّ، وحوله إلى بلد يهوديّ استعماريّ وفصل عنصريّ، وشرد أهله، وقطع تطلّعهم إلى دولة مستقلّة، الّتي كانت حتمًا ستحتضن اليهود الوافدين أيضًا، في ظلّ نظام ديمقراطيّ مساواتيّ متطوّر. والثانية، هي الّتي نشهد حاليًّا فصولها الدمويّة، أي بعد 75 عامًا من النكبة، وهي الفترة الّتي واصل خلالها نظام الأبرتهايد الكولونياليّ في ممارسة كلّ أشكال الطمس والقمع والتوسّع الاستيطانيّ. كلّ ذلك يجري بدعم عسكريّ وسياسيّ من قبل الإمبراطوريّة الأميركيّة الإمبرياليّة، وحلفائها الغربيّين، ذوي التاريخ الإباديّ، وهي الدول الّتي صدعت رؤوسنا بشعارات حقوق الإنسان والديمقراطيّة.

وفي الوقت الّذي يجب أن تستمرّ الضغوط والجهود لوقف المجزرة الكبرى الّتي تتجلّى في شكلين؛ الإبادة بالنار، والإبادة بالتجويع، فإنّ المعركة الدوليّة الدائرة ضدّ نظام الإبادة سواء في المحكمة الدوليّة، أو في شوارع مدن العالم خاصّة في الدول الغربيّة، تمثّل امتدادًا للمعركة الّتي يخوضها شعب فلسطين، في غزّة والضفّة وبصورة أقلّ في تجمّعات أخرى، من أجل الصمود على أرضه وتحقيق تحرّره. هي معركة قانونيّة وأخلاقيّة لا تزال في بداياتها، ولكنّها أطلقت ديناميّات في غاية الأهمّيّة. وإذا أخذنا بعين الاعتبار فتح جبهة قانونيّة ثانية منذ بداية هذا الأسبوع في المحكمة الدوليّة ضدّ الاحتلال وموبقاته، فإنّ قضيّة فلسطين تكون قد اخترقت جدار التجاهل والانحياز والعداء، وتحوّل الموقف إزاءها معيارًا للأخلاق والإنسانيّة عامّة، بل يمكن القول بفضل كفاح الشعب الفلسطينيّ، وبسبب الوحشيّة الصهيونيّة، تتحدّى قضيّة فلسطين وبواسطة غزّة، الهيمنة الغربيّة الكولونياليّة على العالم، وعلى القانون الدوليّ.

إنّها فقط البداية، بداية مسار من الجهد القانونيّ والأخلاقيّ والسياسيّ، وتدشين لمرحلة جديدة عنوانها الحقّ الفلسطينيّ، ولكن أيضًا معركة من أجل العدالة الكونيّة وحقوق الشعوب والمقهورين أينما كانوا. ولهذا يقال إنّ قضيّة فلسطين باتت قضيّة عالميّة لما تحمله من ثقل رمزيّ لقضايا الشعوب.

إنّ إسرائيل هي جزء من النظام العالميّ الرأسماليّ المتوحّش والعدوانيّ، وهي تشارك عبر تحالفاتها الأمنيّة وصادراتها العسكريّة وتكنولوجيا القمع في قمع شعوب كثيرة، ومنها الشعوب العربيّة. وهذا ما يفسّر حجم الدعم الشعبيّ العالميّ المتعاظم لصالح قضيّة فلسطين الّذي يستبطن احتجاجًا على النظام العالميّ الظالم، الّذي أنشأ جيبًا أوروبّيًّا في فلسطين يسعى دومًا للهيمنة والتوسّع لا التعايش الإنسانيّ، ويواصل تغذية عدوانيّته الوحشيّة دون كلل.

لا يستطيع نظام الأبرتهايد الإباديّ بسبب استحواذ نزعة الانتقام البدائيّة عليه، أن يدرك الآن حجم الضرر الّذي جلبه على نفسه، أخلاقيًّا وسياسيًّا ومعنويًّا. هذا ليس ضررًا مؤقّتًا أو قابلًا للعفو والنسيان، بل هو ضرر إستراتيجيّ عميق الّذي بالضرورة سيولد ديناميّات شعبيّة وأخلاقيّة جديدة لصالح شعب فلسطين والبشريّة، عاجلًا أو آجلًا، وهذا هو مصدر الأمل.

التعليقات