31/10/2010 - 11:02

الإنتفاضة الثالثة، أم كفاح لا عنفي ومدروس؟!../ نبيل بشناق*

الإنتفاضة الثالثة، أم كفاح لا عنفي ومدروس؟!../ نبيل بشناق*
يقتبس معظم المدافعين عن اللاعنف مبادئهم من معتقدات دينية أو أخلاقية أو سياسية. وبذلك تنقسم خلفية العمل اللاعنفي الى فرعين: اللاعنف المبدئي أو الأخلاقي واللاعنف الاستراتيجي أو النفعي (البراغماتي). ومن الشائع أنَّ يتواجد الفرعان في فكر مؤسسة ما أو لدى حركة لاعنفية أو حتى مجموعة من الأفراد.

في الغرب تمَّّ إستخدام الكفاح اللاعنفي بكثرة من أجل حقوق العمال، السلام، البيئة وحركات حقوق المرأة. وهي القطاعات التي لا تدعمها سلطة سياسية رئيسية. وقد لا يعلم البعض أنَّ الكفاح اللاعنفي لعب دورا وما زال في الحدِّ من غطرسة سلطة الأنظمة السياسية الإستبدادية في العالم الثالث وفي بلدان الكتلة الشرقية السابقة، التي أساءت كثيرا بممارساتها لفكر العدالة الاجتماعية. ويقول والتر وينك :

" شهد عام 1989 ما يزيد على مليار ونصف المليار من البشر ثورات لاعنفية حققت نجاحات تفوق التصوُّرَ... وإذا ما جمعنا كل الدول التي تأثرت بأحداث وحركات لاعنفية الى بعضها البعض في القرن الحالي " مثل الفلبين، جنوب إفريقيا، إيران... حركات التحرر في الهند، " فإنَّ الرقم سيزيد عن ثلاثة مليارات، وتزيد نسبة هؤلاء عن خمسين بالمئة من البشر، مما يدحض المقولات المتكررة بأن اللاعنف لا يحقق شيئا في واقع الحياة ".

ويعتقد الباحث جين شارب في كتابه " سياسة العمل اللاعنفي " بأنَّ السبب وراء الغياب المُلفِت للبحوث والدراسات المتعلقة باللاعنف عن الساحة الثقافية الى أنَّ النخب لن تحقق أي منافع من انتشار أساليب النضال اللاعنفي التي تعتمد على القوة الجمعية للمواطنين لا على الثروة والأسلحة.

إنَّ الوضع في فلسطين يدعو فعلا ً للحزن والأسف والألم منذ مدة تعود إلى ما قبل اتفاقات أوسلو.
فقسم كبير من الفريق الحامل للقب "القيادة التاريخية للشعب الفلسطيني" بدأ يترهَّل منذ مدة طويلة، ويبتعد عن خط الكفاح المسلح لصالح الحل الدبلوماسي، الذي تسلق عليه الانتهازيون، وراح يستكين للراحة والارتباط بشكل مباشر مع العدو في محاولة لحل مشاكل البلاد والمواطنين. وهي محاولة أثبتت التجربة أنها فاشلة ووهمية، فلم توصلنا الى أي من حقوقنا.

والفريق الآخر أخذ على عاتقه الكفاح بدل من ترهل واستكان. فكان له أن حاز على ثقة المواطنين الذين لاموا الفريق الآول على فشل سياساته، فساده وسوء إدارته.

وبالرغم من ذلك أرى أنَّ حركتي "فتح" و "حماس " ( وكلاهما أخطأتا في قرارتهما) هما، حاليا ونظرا ً لغياب بديل عقلاني وجدِّي ،ً الممثلان الرئيسيان للشعب الفلسطيني وعليهما مراجعة أنفسهما في الخطأ والصواب والتخطيط لاستراتيجية جديدة، تعتمد الخيار الديموقراطي،وتبتعدان عن التفرّد في السلطة أو القيادة وتبدآن ببناء حكومة مؤقتة تحضِّر لانتخابات جديدة وإعادة بناء منظمة التحرير لجميع الفلسطينيين في الخا رج والداخل، لكي لا تبقى مشكلتنا تدور فقط حول رغيف الخبز والشكوى اليومية من ممارسات المُحتل الاسرائيلي الصهيوني الشرس،الذي ابتلع وصادر معظم الأراضي.

أتطلع إلى تاريخ فلسطين الحديث وممارسات الاحتلال الاسرائيلي الشرس والى الوضع الدولي وبُغض شعوب العالم للحروب وإلى خروج الدول العربية والاسلامية وابتعادها عن "اللعبة" إلى حدٍّ كبير، فأرى وجوب النظر بجدِّية الى موضوع " الكفاح السلمي المدني غير المسلح " كوسيلة بديلة، كما حصل في الانتفاضة الأولى، التي أثرت إعلاميا، في الرأي العام العالمي، العربي والمحلي الفلسطيني، أكثر من كل ما سبق ولحق من الكفاح المسلح، حيث كان جميع أفراد الشعب سويا في الخط الأمامي ولم يكن بيننا سيد آمر أو أفندي متفرج.

وشرط نجاح هذا التوجه وهذه النظرة هو أن يوافق الفريقان الرئيسيان ويتبنيا هذا التوجه فكرا وممارسة لتصبح ثقافة المقاومة المدنية اللاعنفية هي الثقافة السائدة فعلا ً.علينا أن نضع صوب أعيننا من البداية ما نريد تحقيقه وأن نستبدل الكلاشنيكوف بكاميرات الفيديو وعباقرة الفيلم والاعلام الفلسطينيين بدل الانسان المعد لحمل الأحزمة الناسفة. أدرك عنجهية الاحتلال، شراسته وغطرسته واستهتاره وبلادة حسِّ الأوساط الحاكمة ولامبالاتها في أكثرية دول العالم، لكن الاستقامة والمثابرة في هذ النمط من الكفاح المدني اللاعنفي سيوقظ الحسَّ البليد والضمير النائم وسيؤتي ثمره بعد حين، ويجنب شعبنا التفريط بقواه التي على القيادة عدم التفريط بها "بكل كرم يصل أحيانا حدا مذهلا".

أنظر حولي فيذهلني كم قصَّرنا جدا في موضوع الإعلام في عرض قضيتنا. لقد نسينا أنَّ استراتيجية العمل والإعلام ليست موجودة للتأثير على أنفسنا وإرضاء ذواتنا "ايلام العدو متى استطعنا"، بل هي موضوعة وموجودة للتأثير، أولا وقبل كل شيء، على الآخرين : عربا ويهود وأوروبيين وأمريكان والرأي العام العالمي لبلوغ أهدافنا.

.إنَّني أتوقَّعُ مشاركة قطاعات كبيرة من الشعب الفلسطيني في الكفاح اللاعنفي، بأشكاله المختلفة من مظاهرات وعصيان مدني. إنني على قناعة أنَّ ذلك سيظهر أنّ طبيعتنا ليست عنيفة مثل الأكثرية الساحقة للإسرائيليين والأوروبيين الذين تدربوا على العنف والقتل المنظم، خصوصا في الحربين العالميتين وحروب الاستعمار الأخرى. يجب أن يعود الشعب الفلسطيني من جديد الى الاعتماد، شبه الكلي، على نفسه في الداخل والخارج. وإذا كنا نطالب مواطني الداخل بالعمل الوطني والكفاح، فإننا نرى أنَّ معظم ملايين فلسطينيي الشتات يشاركون فقط بالعبارات الكلامية التي يجب أن تتحول الى مساهمات فعالة في الدعم الإعلامي والمادي لكي يؤدوا ضريبة حق العودة.

الإسرائيليون لم ينجحوا في فلسطين فقط لأنَّ الغرب ساعدهم، بل لأنَّهم كانوا شديدي التنظيم والتدريب ومارسوا العمل التطوعي المشترك وسلكوا نهج الفكر العلمي والأبحاث. لقد استطاع الفلسطينيون في فترة السبعينيات أن يكونوا في كفاحهم ولحمتهم وتنظيمهم محط أنظار كل المثقفين والتقدميين العرب، حيث انخرط معهم العديد في الكفاح نحو التحرر والتحرير. وأرى أنَّه من الممكن للفلسطينيين، الذين يملكون إرادةً غاية في الصلابة، أن يبدعوا أيضا في الكفاح الانساني اللاعنفي الراقي ويبدعوا في إظهار المصيبة والنكبة الإنسانية التي حلَّت بهم نتيجة خلق إسرائيل كمعسكر حربي دائم التوسع.

ولا داعي للتذكير بأنَّ ممارسات إسرائيل اليومية تشكل لنا، إن أحسنّا استغلالها بالصوت والصورة وعلم النفس وعلم الإعلام، أفضل مادة للتأثير على مجتمعات العالم المؤثرة في صنع القرارات الغربية منها وحتى على جزء ليس بالقليل من المجتمع الإسرائيلي.

إنَّ من واجبنا إظهار الممارسات الاسرائيلية اللا إنسانية ويجب أن نخاطب ضمير العالم والإنسان أينما كان، وننخز في طبقات وعيه يوميا ليرى صورة إسرائيل الحقيقية، وذلك لتحقيق أهدافنا في التحرر وحق تقرير المصير والدولة المستقلة والعودة والعيش بسلام.. الحقوق لا تعطى ولاتهدى ولا تستجدى ولكن يأخذها من يعمل لأجلها ويحسن إيجاد السبل الكفيلة بالتأثير على أصحاب القرار.

إنَّ نظرة قصيرة الى التاريخ تذكرنا بأنَّ شعوبا عديدة تلاشت واندثرت، فالبقاء هو لمن يأمل ويعمل ويمتلك العزيمة والذكاء لمواجهة التحديات مهما كانت كبيرة وليس لمن يتمنى فقط. ليس من الخطأ التفكير في تغيير طرق الكفاح ولكن الخطأ يكون في الاصرار على متابعة طريقة كفاح ثبت في حالتنا الفلسطينية أنها أرجعتنا، للأسف الشديد بالرغم من التضحيات الكبيرة جدا وآلاف الشهداء، خطوات إلى الوراء أثناء العقود الماضية.

ولا أعتقد أنَّ دخول بضعة آلاف فلسطيني من المنظمة الى الضفة والقطاع غيَّر كثيرا من الواقع. فقد أصبحوا أيضا رهينة للإسرائيليين مثل باقي المواطنين ولا يمكن اعتبار غزة محررة، كما نرى ذلك في كل يوم وما جواز السفر الفلسطيني بأكثر من نسخة عن هوية الاحتلال الإسرائيلي. ليس أنَّ الكفاح المسلح وسيلة سيئة بحدِّ ذاتها، بل هو مشروع حسب قوانين هيئة الأمم. لكنَّ الاختلال العسكري في توازن القوى العسكري يُحَتِّمُ علينا، وقد أصبحنا فعلا وحدنا في الساحة، استخدام طرق أخرى.

استطاعت إسرائيل والحركة الصهيونية أن تحاول استعمال العنف ضد مواطنيها كنوع من الحرب ضد اليهود كعنصر – " اللاسامية " – وبالتالي أصبح شهداؤنا ومقاتلونا الأبطال "مسلحين ومتطرفين وإرهابيين " في معظم قنوات الاعلام الغربية المؤثرة. ساعد في ذلك طبعا سيطرة أمريكا والحركة الصهيونية اليهودية على صناعة الإعلام في العالم ومشكلة الهولوكوست وسياسات أمريكا، ذات النزعة المسيحية المتطرفة، وليس أقل من ذلك سببا هو تصرف حكام العرب ورموز "السلطة" وعدم احترامهم لأنفسهم.

ألا يحق لنا الآن طرح هذا الموضوع لكي يصبح الفلسطينيون أكثر تأثيرا في عالم اليوم ؟
لقد بدت اسرائيل في الإعلام عند إنشائها كدولة صغيرة لشعب مطارد مسكين يدخل حرب تحرير لأرضه التاريخية، بدت وكأنها داوود الصغير الذي يحارب ضد غولييت الجبار (من قصص التوراة) فيجد سبع دول عربية "قاسية الشدَّة" تريد أن "ترميه في البحر"، لكنه استطاع أن يتغلب على غولييت الجبار فصفق له العالم. تكرر الأمر في عام 1967 فصفقَّ العالم مجددا لداوود الصغير، الذكي والواقع تحت "خطر القضاء عليه من قبل العرب". ولكن الواقع يثبت أنَّ داوود – اسرائيل – أصبح رابع أقوى دولة في العالم، يهدد جميع منطقة الشرق الأوسط وتهابه أوروبا وأوساط الكونغرس الأمريكي بقوة فعل اللوبي اليهودي المؤثر، ويمتلك أسلحة نووية ويصدِّر أسلحة عالية التطور الى الكثير من دول العالم. احتل واستعمر كل فلسطين بدعوى الأمن وجنون فكرة اسرائيل الكبرى. بات العالم يعرف أن داوود - اسرائيل - تحول الى غولييت- اسرائيل –الذي يحظى علاوة على ما يملك من أسباب قوة، يحظى بمظلة أمريكية، تعينه في غطرسته وعدم إعارة انتباه للعالم وقراراته في الأمم المتحدة. وبات العالم يعرف أن فلسطين أخذت مكان داوود الصغير. على الفلسطينيين أن يعملوا بذكاء داوود الصغير.

العالم اليوم مشغول بمسألة ضمان معيشته وأين َ يقضي إجازاته، ( أعني سكان العالم، لا سياسييه). وهو يمقت الحروب والعنف ويود لو أن كل المشاكل تحل فقط بالتفاهم وبدون عنف. أصبح البشر في العالم يُعجبون بالكفاح اللاعنفي للتأكيد على مطالب أصحابها.هناك في اعتقادي إمكانية جيدة للنجاح في تطبيق ذلك إن أحسنَّا التصرف ووضعنا الرجل الصحيح في المكان الصحيح. دعونا نتذكَّر أنَّ نهاية حرب فييتنام تقررت في الشارع الأمريكي الذي كان ضد الحرب والموت. وشعوب شرق أوروبا حازت بجانب الظروف العالمية على الحرية والديموقراطية بعد مظاهرات شعوبها في الشوارع. وشعب جنوب افريقيا حصل، بجانب كفاحه، على الاستقلال بتأثير الحملة العالمية للمقاطعة الاقتصادية التي ساهمت فيها الشعوب الغربية. إذا لم نستطع حتى الآن التأثير على حكومات العالم لإنشاء دولة فلسطينية، فعلية و مستقلة، فعلينا مراجعة أنفسنا لجلاء الأسباب الحقيقية والعمل جاهدين للتأثير على شعوب العالم فهي أكثر إحساسا بالعدل والإنسانية (من حكامها) وأعلى قدرة على دفع الظلم عن الشعوب المقهورة وذلك بالتأثير على حكوماته المنتخبة.

إنَّهُ موضوع مطروح للنقاش.
(برلين 2007)

التعليقات