مرة أخرى تجد حركة فتح نفسها أمام استحقاق تاريخي من الممكن أن يحرفها عن مسارها الأساسي (هذا إذا ما تبقى شيء من هذا المسار) يمت بصلة لأدبياتها ومدرستها النضالية الكفاحية والتي رسختها على مدار العقود الأربعة الماضية وعلى مختلف المستويات السياسية والتكتيكات الدبلوماسية، أو فيما يخص إدارة الصراعات والأزمات على المستوى المحلي والإقليمي، والتي بلا شك متصلة بالشأن الدولي العالمي... وكيفية إدارة الشؤون العامة فلسطينيا، أو حتى إدارة الأزمات الداخلية على المستوى الفتحاوي ومتى من الممكن أن يكون الحزم سيد الموقف، ومتى من الممكن توظيف الممكن في خدمة القضايا العامة والكبرى.. ومتى يكون استيعاب الآخر في إطار الفهم الموضوعي العام وظرفية المرحلة السياسية على كافة المستويات والصعد الذي لطالما حكمت التوجهات الفتحاوية.
مما لاشك فيه أن حركة فتح هذه الأيام وهي تحاول معالجة أوضاعها الداخلية تحكمها التجاذبات المتناقضة والتيارات المتصارعة داخلها، وتحاول جذبها وحرفها عن حقيقة وطبيعة منطلقاتها الأساسية، حيث أصبح مشهد فتح اليوم أقرب الى حزب سياسي ليبرالي عربي يتساوق والنشاط السياسي الإقليمي والدولي كأولوية من أولويات فعل فتح، والتي تراعي بالأساس تلك الحسابات المسماه إقليمية، الأمر الذي أبعدها وقبل وكل شيء عن حقيقتها وجوهرها الفعلي، مما يعني أن من يحاول جذب فتح إلى جهة أخرى وجبهة أخرى، إنما يهدف إلى تغير لغة الأبجديات الوطنية في فتح.
وقبل أن ندخل في جوهر المسألة التي نحن بصدد تناولها وإلقاء الضوء على مضمونها لا بد من تفسير وتوضيح المقصود بأبجديات العمل الوطني أو النضال الوطني بهدف منع التزييف والديماغوجيا بتلاوينها المختلفة. إن الأبجديات كما هو معروف لغوياً تعني الأسس الأولى لكل بناء وهي مرتبطة من حيث المنشأ بالأحرف المكونة للغة وعلم الكلام ، وفي حالتنا التي نتناول تعني أسس العمل ومرتكزاته البديهي منها والمستنبط . ومن هنا يمكننا فهم حقيقة المسار الفتحاوي هذه الأيام والحكم فيما اذا كان يبتعد عن تلك الأبجديات أو أنه يلتزم بها... (وهذا ما سنأتي عليه لاحقا)...
لعل أولى الأبجديات وأكثرها وضوحاً وتأسيساً الالتزام النظري والعملي ببذل جهد حقيقي من أجل رفع الظلم والمعاناة عن شعبنا عبر إعادة حقوقه المغتصبة، وهذا يتطلب الانخراط العملي والفعلي ضمن الأطر الوطنية سواء كانت منظمات وفصائل مقاتلة أو منظمات أهلية وجمعيات ونقابات وغيرها من أشكال العمل المنظم، وذلك على قاعدة عملية التأطير لجماهير الشعب التي تتوق لتحقيق أهدافها بالخلاص من الاحتلال وإقامة الدولة الديمقراطية والتي تلبي رغباته أولا وتؤسس لفعل سيادته الفعلية على الأرض وتحقق هدف العودة وتقرير المصير. وهذا بحد ذاته التزام يرتقي إلى مستوى العقد الإجتماعي ما بين الجماهير الفلسطينية وما بين تلك الأطر والفصائل ينعقد على أسس برامجية واضحة المعالم، وعليه كان الإلتفاف الجماهير الشعبي حول حركة فتح وحول كافة أطرها العاملة ما بين جماهيرها....
وثاني هذه الأبجديات تتمثل بالاستعداد للتضحية ودفع ثمن هذا الالتزام وما يعنيه ذلك من شجاعة وإقدام وتحمل للصعاب والأكلاف المترتبة على هذا النشاط بكافة أشكاله وفي كل أماكنه المتوقعة وغير المتوقعة.
وثالث هذه الأبجديات هي القناعة بوحدة هذا الشعب والعمل على ترسيخ هذه الوحدة ودرء الأخطار التي قد تصيب هذه الوحدة بمقتل أو إضعافها تحت أي ذريعة كانت، وذلك بمحاربة كل الأساليب والممارسات المؤدية للمس بهذه الوحدة .
رابع هذه الأبجديات هي القناعة بجذرية التناقض مع المُحتل الإسرائيلي والانطلاق منها في الممارسة على الصعيد التكتيكي ارتباطاً بالاستراتيجي ومن أجل تحقيقه.
وخامس هذه الأبجديات الالتزام والانطلاق من عروبة فلسطين وموقعها في صلب الأهداف القومية، ومن ثم التعامل في الممارسة على هذا الأساس لبناء أوثق الجسور مع الأمة العربية وقواها الحية، وعلى خلفية الفهم الصحيح وغير المخادع لموضوع القرار الوطني المستقل.
وسادس هذه الأبجديات أن للشعب ولقواه النضالية الكفاحية خيارات مفتوحة في معركته التحريرية ولا يمكن حذفها أو شطبها لمجرد رؤية فردية هنا أو هناك أو لمجرد اجتهاد شخصي لربما يكون متساوق وأطروحات سياسية مرتبطة في سياق أجندات دولية تفرض نفسها على الساحة هنا أو هناك...
إن من أبجديات الفعل الوطني العام وفي ظل مرحلة التحرر الوطني محاولة الجمع ما بين كافة القوى العاملة ضد الاحتلال ومحاولة التواصل وكافة اللغات والأطروحات التي ترى في الاحتلال التناقض الرئيس، وبالتالي من الأهمية القصوى أن يتم التوصل الى لغة استراتيجية واحدة موحدة وواضحة في مواجهة المخططات الإحتلالية التي تفرض نفسها وهي من أولويات القضايا الوطنية، والتي اعتقد أن حركة فتح كانت وعلى مدار سني عمرها ان تؤسس لها، وذاك من خلال التأكيد على الثوابت الوطنية للشعب الفلسطيني والتي شكلت الخطوط الحمراء التي لا يمكن تجاوزها.. كما أنه وبصرف النظر عن اتفاقنا أو عدم اتفاقنا وتاريخها واطروحاتها السياسية عبر هذا التاريخ، إلا أنها لم تسقط في يوم اي خيار من الخيارات الوطنية الشعبية لمواجهة ومجابهة السياسات الإسرائيلية وعدوانيتها وهو ما أكده المسار التاريخي لحركة فتح... وتحديدا خلال سنوات الإنتفاضة السابقة (مع الأخذ بعين الإعتبار العديد من الملاحظات النقدية لهذا المسار ومحطاته المفصلية...وتحديدا فيما يخص مسارات عمل وفعل المقاومة الفتحاوية على الأرض....) فمسألة إسقاط الحق بالمقاومة المسلحة من برنامج الحكومة الفلسطينية (حكومة فياض) التي ترعاها حركة فتح يعتبر برأيي اسقاطة من الإسقاطات الإستراتجية لفتح الذي يتناقض أولا وقبل كل شيء ونهجها وبرامجها ومسار تاريخها.... الأمر الذي اعتبره تزويرا فاضحا لحركة فتح... فاللغة الفتحاوية الأصيلة لا تجيد هذا النوع من الكلام ولا يمكنها أن تستوعب هكذا أطروحات، إلا إذا ما اعتبرنا ان حركة فنح المعاصرة قد انجزت أهداف التحرير والتحرر.
إن النهج الفتحاوي البراغماتي بالأساس والقائم على المصلحة الوطنية قد احتكم وقبل أي شيء للمصالح الوطنية العليا ولا خطوط حمر بهذا الصدد، وهو الأمر الذي أدى بفتح إلى إعادة تسليح ذاتها والعمل بجهوزية المقاومة بعد فشل السياسة التفاوضية مع الطرف الإسرائيلي، الأمر الذي يعني أن فتح كانت تأخذ بعين الإعتبار طبيعة الحسابات المحلية والوطنية أولا، ولم تسقط من خياراتها أيا من برامجها الفعلية على الأرض... وهو ما يتناقض مع ما نراه ونشاهده اليوم على مسرح الأداء لقيادات وزعماء فتح الجدد.... الذين لم يتوانوا عن إسقاط كافة الخيارات الإستراتيجية المتاحة والشرعية بالعرف القانوني الدولي في ظل مراحل التحرر الوطني وأحقية الشعب بكفاحه بكل الوسائل والسبل المتاحة بما فيها خيار المقاومة المسلحة وهو الحق المكفول قانونا ولا يحق لكائن من كان إسقاط مثل هكذا حق.. فإسقاط الحق بالمقاومة لا يتناقض ومسار حركة فتح فحسب، وإنما يتناقض وأسس الفهم الدولي العام لمجابهة ومواجهة الاحتلال وأحقية الشعوب بتقرير مصيرها وتحقيق سيادتها على أرضها.
إن حركة فتح وهي تعاود ترتيب أوضاعها الداخلية تحاول أن تقفز عن الكثير من الحقائق الراسخة والثابتة، وأكثر من يمكن أن يلفت الإنتباه في ظل ما يسمى بمرحلة إعادة ترتيب وضع البيت الفتحاوي هو ما يمكننا أن نسميه بسياسة الترقيع وبشكل علني، ترقيع يقوم على الحسابات المصلحية لأمراء القبائل الفتحاوية ليعزز بذلك نهج الممالك القائمة ببيت فتح وتعزيز مفهوم محاصصة فتح جغرافيا ومنهجيا.. والأدهى أن كل ذلك يدور وكأن الدولة قد أصبحت حقيقة قائمة، أي أن كل هذا يدور في فتح أمام الإعلام وأمام كاميرات التلفزة دون أي شكل من أشكال السرية التي لطالما تمتعت بها حركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح)، ومن اسمها اعتقد أنها ما زالت تعتبر نفسها في هذه المرحلة المسماة تحرر وطني ولا اعتقد أن مسار فتح اليوم يؤشر بشيء من فعل التحرر على الأرض لا أسلوبا أو ممارسة أو حتى منهجا.... وهو ما يتناقض وأبجديات العمل الوطني....
التعليقات