31/10/2010 - 11:02

السيْر بين الألغام: واقعُ اليسار النقديّ القوميّ العلمانيّ ‏في لبنان../ سماح إدريس*

السيْر بين الألغام: واقعُ اليسار النقديّ القوميّ العلمانيّ ‏في لبنان../ سماح إدريس*
سُئل أبو تمّام يوماً: «لِمَ تَكتبُ ما لا يُفهم؟» فأجاب: «لِمَ لا ‏تَفهمون ما يقال!». وحال الكتّاب والناشطين النقديين اللبنانيين، القوميين ــ اليساريين خاصّة، شبيهة بحال أبي تمّام في زمنه. ‏إلا أنّ مشكلة أولئك الكتّاب والناشطين مع مجتمعهم اليوم لا تعود ‏إلى صعوبة لغتهم، كما كان وضعُ أبي تمّام، بل إلى دقّة المواقف ‏التي يتّخذونها..
____________

ثمة قرّاء كثيرون لا يَفهمون، وبعضُهم يسيئون الفهم عمداً، أين ‏نحن! فإذا كنا ضدّ إسرائيل وأميركا والرأسماليّة، ومع المقاومة ‏والعروبة، فلماذا لا نكون مع 8 آذار؟ وإذا كنّا ضدّ ممارسات النظام ‏السوريّ داخل سوريا، وضدّ سياساته في لبنان، وضدّ الهيمنة ‏الإيرانيّة على العراق، ومع مجتمع مدنيّ لا سلطة ثيوقراطيّة تستبدّ ‏به، ومع الحريّة والسيادة والاستقلال، فلماذا لا نؤيّد معسكر 14 ‏آذار أو نتقاطع معه في الأقلّ؟ وينسى أو يَجْهل قرّاءٌ كثيرون أنّ ‏مقاربات اليساريين النقديين العلمانيين لمفاهيم المقاومة والهويّة ‏والوحدة العربيّة تختلف (وأحياناً تتناقض تناقضاً تاماً) مع مقاربات ‏حزب الله والنظام السوريّ مثلاً، وأنّ مقارباتهم لمفاهيم الحريّة ‏والسيادة والاستقلال تتناقض دائماً مع مقاربات تيّار المستقبل ‏والقوات اللبنانيّة.‏

فعلى سبيل المثال، فإنّ المقاومة التي ننادي بها تشْمل مقاطعة ‏الشركات الداعمة للعدوّ الإسرائيليّ، مهما كانت جنسيتها؛ وهو ما يغْفله ‏حزب الله للأسف حين لم يتبنَّ مقاطعة شركات أوروبيّة تدعم ‏إسرائيل مثل "نستله"، على الرغم من أنّ حملتنا (حملة مقاطعة داعمي «‏إسرائيل») قدّمتْ لعدد كبير من عناصره وكوادره معلومات موثّقة ‏عن دعم هذه الشركات لدولة العدوّ (يمكن مراجعة وثائق الحملة ‏على موقع مجلة الآداب).

كما أننا لا نوافق على تحويل الصراع ‏ضدّ الصهيونيّة والإمبرياليّة إلى صراع طائفيّ (ضدّ اليهود) أو ‏عنصريّ/ «حضاريّ» (ضدّ أميركا والغرب)، لا لأننا لا نرى قسمة ‏العالم إلى فسطاطيْن على الطريقة البنلادنية/البوشيّة أمراً لاأخلاقياً ‏فحسب، بل لأنّ في «أميركا» وبين «اليهود» أيضاً منْ هم أكثر تأييداً ‏لقضايانا من آلاف المسلمين والعرب (ينبغي القول، مع ذلك، إنّ ‏خطاب حزب الله تطوّر تطوّراً مذهلاً في الأعوام الخمسة الأخيرة ‏على صعيد الوعي بالفوارق الواضحة داخل اليهود والأميركيين). ‏

كما أنّ الهوية التي نطمح إليها ليست أمراً حصل وانقضى، بل ‏هي مشروع متطوّر متحرّك غير ناجز، وإنْ كان ذا أصول راسخة ‏في التراث العربيّ ـ الإسلاميّ. ثم إنّ الاستقلال الذي ننادي به إنما ‏هو استقلال عن التبعيّة للمنظومة الرأسماليّة المتوحّشة ككلّ، لا عن ‏النظام السوريّ وحده (على ما ينادي 14 آذار)؛ بل هو سعي إلى ‏ارتباط أكبر بسوريا الشعب والاقتصاد، إذ لا استقلالَ حقيقيّاً للبنان ‏في واقع الأمر إلاّ بمزيد من التكامل الثقافيّ ـ السياسيّ ـ الاقتصاديّ ‏مع محيطه العربيّ.‏

■ ■ ■

‏على أنّ ذلك كلّه لا يعني أننا على الحياد بين المعسكريْن اللذيْن ‏يكادان يشْطران المجتمعَ والدولة في لبنان شطريْن (رغم اتفاقهما ‏‏»تكتيكاً»، كما كان زياد الرحباني سيقول، أي انتهازيّةً ونفاقاً، في ‏محطّات «مفصليّة»، من قبيل قرار السعوديّة وإيران «ترطيبَ ‏الأجواء»). فنحن، كعلمانيين قوميين نقديين، أقرب إلى معسكر 8 ‏آذار بالطبع في ما يخصّ قضايا المقاومة والعداء للصهيونيّة ‏والسياسات الأميركيّة (رغم التحفّظات الجذريّة التي أوردنا بعضها ‏أعلاه). لكنّه يَصْعب، في القضايا التي تخصّ بناء الوطن وعلمنة ‏الدولة تحديداً، أن نميّز كثيراً ما بين 8 آذار و14 آذار، وإنْ كانت ‏مطالب 8 آذار وحلفائه في التيّار الوطنيّ الحرّ تأتي من قيادات ‏يُفترض أن تمثّل فئات تعرّضتْ للقمع والحرمان السياسيّ ‏والاجتماعيّ والدولتيّ عقوداً طويلة، بما يجعل أنصار التحرّر ‏والعدالة الاجتماعيّة أقرب موضوعيّاً إلى 8 آذار وحلفائه.‏

‏ نعم، إنّ «المعارضة» (وأفضّل أن نضيف إليها صفة «الملتبسة») ‏لا تختلف كثيراً عن القوى الطائفيّة والمذهبيّة الأخرى في ما يخصّ ‏معظم الأمور الداخليّة. فطموحها الأبرز، في قطبيْها الأساسيّيْن، أي ‏حزب الله والتيّار الوطنيّ الحرّ، هو «المشاركة». والمشاركة، يا ‏سادة يا كرام، تعبير ملتو نوعاً ما عن المحاصصة، أو عن تقاسم ‏الغنيمة الطائفيّة، عبر الثلث الضامن، على أساس أنّ هذه هي صيغة ‏لبنان منذ الأزل، وأنّ «لبنان هيك» أو «هيْدا لبنان» كما قال السيّد ‏حسن نصر الله غير مرّة. لاحظوا، بالمناسبة، أنّ حزب الله يخيّرنا ‏بين «الواقعيّة» السياسيّة (أي الاستسلام للصيغة اللبنانيّة ‏المحاصصاتيّة الأبديّة) والعنف، وكأنْ لا إمكانية لتغيير النظام ‏عبر آليّات نقابيّة وشعبيّة، ناهيكم بالآليّات الدستوريّة، من قبيل ‏إرساء قانون انتخابيّ جديد يقلّص الطائفيّة ويعطي تمثيلاً أكبر ‏للشباب والنساء، بدلاً من القانون الحاليّ الذي يمهّد لاصطدامات ‏طائفيّة جديدة ولحروب أهليّة جديدة.

صحيح أنّ خطاب المعارضة ‏الملتبسة، في قطبيْها الأساسييْن، مطعّم بتعبيرات العدالة الاجتماعيّة ‏والمساواة والحرمان (صدقاً أحياناً على أساس أنّ الشيعة أكثر ‏المحرومين الاجتماعيين، والعونيين أشدّ المحرومين السياسيين، ‏على امتداد عشرات السنين الماضية). إلا أنّ تلك التعبيرات تحاول ‏أن تطمس حقيقة التفكير الطائفيّ/المحاصصاتيّ عند المعارضة ‏المذكورة، وهو تفكير لا يبني بلداً جديداً بل يرقّع صيغة متهرّئة ‏أظهر التاريخ وجوب زوالها نهائيّاً لمصلحة صيغة قائمة على ‏المواطنيّة.‏

‏والحق أنّ ذروة ما يطمح إليه حزب الله تحديداً في هذا المجال ليس ‏تغيير الصيغة الطائفيّة من أساسها، بل «تظبيطها» عبر استبدال ‏رموز برموز: فالحزب يفضّل أن يأتي الأفندي (رشيد) مكان الشيخ‏‏ (سعد)، وربما المفتي الطرابلسيّ (الشعّار) محلّ المفتي البيروتيّ ‏‏(قبّاني)، والجنرال (عون) مطرح الشيخ (أمين) والحكيم (سمير)، ‏والمير (طلال) بدلاً من البيك (وليد). وقد لا يمانع الحزب في أن «‏يتنازل» لليسار في الانتخابات النيابيّة المقبلة عن حصّة ضئيلة من ‏مقاعده، قد لا تتجاوز مقعداً واحداً؛ فيتحوّل النائب اليساريّ العتيد «‏لاجئاً سياسيّاً» (والتعبير الموفّق هو لنجاح واكيم) عند حزب الله، ‏يكون بمثابة إلياس عطا الله شيعيّ (يوازي إلياس عطا الله اللاجئ ‏السياسيّ المارونيّ الحاليّ عند سنّة الحريري).

المهمّ أن تبقى ‏الصيغة «زيّ ما هيّ» (باستعارة عبارة شهيرة لرفيق الحريري، ويا ‏للمفارقة، أوردَها في معرض آخر). وهذا ما تعبّر عنه إحدى أغاني ‏المعارضة الملتبسة أيّام الاعتصام الشهير، الذي أدّى في النهاية إلى ‏مشاركة المعارضة في الحكومة فعلاً، ولكنه أسهم في بلوغ البلاد ‏وضعاً كارثيّاً أيضاً: ألا وهو استعداء عشرات آلاف السُّنّة، ونقلهم ‏‏(موقّتاً كما نرجو)، وبمساعدة المال السياسيّ، من الولاء للمقاومة ‏وفلسطين والعروبة (الملتبسة بالإسلام السنّيّ الأكثريّ على ما ينبغي ‏أن نضيف)، إلى خانة السعوديّة والرجعيّة العربيّة.

تقول الأغنية: «كِلّتنا لِبنانيّة/بالدّمِ وبالهويّة/شيعة وسنّية ودروزْ/إسلام ومسيحيّة». ‏وهذه الأغنية، كما يتبين لكلّ ذي عين بصيرة، لا تختلف قيد أنملة ‏عن أغاني ثورة الأرز، ولا عن المغزى الكامن في صور تعانُقِ ‏الصليب والهلال في تظاهرات هذه الثورة: ففي الحاليْن يُختزل ‏المواطن اللبنانيّ إلى طائفته، وتُختزل هويّته إلى رمزيْن دينييْن ‏شهِدا من التصادم والاشتباك والتذابح عبر التاريخ اللبنانيّ أكثر ‏بكثير مما شهداه من العناق... والنفاق!‏

أما في ما يخصّ قضايا داخليّة أخرى، كالقضايا الاقتصاديّة ـ‏ الاجتماعيّة، وفلسطينيّي لبنان، فلا تمييزَ كبيراً يتعدّى مستوى اللفظ ‏بين 8 و14 آذار. خذْ قضيّة الوجود الفلسطينيّ في لبنان مثلاً. فالتيّار ‏العونيّ يكاد يبزّ القوات اللبنانيّة في خطابه المعادي للفلسطينيين. ‏وأذكر أنّ أحد البرامج التلفزيونيّة على الأي. أن. بي. جَمَعَ بين أشدّ ‏غلاة اليمين، السيّد المتعجرف روجيه إدّه، وأحد ممثّلي التيّار ‏العونيّ (وقد فاتني اسمُه للأسف، ولكنّه يَحمل لقبَ دكتور)، فاختلفا ‏في كلّ شيء، نعمْ كلّ شيء... باستثناء اتّفاقهما الحاسم والجازم على ‏أنّ أساس الحرب اللبنانيّة هو الوجود الفلسطينيّ (قال إدّه للعونيّ: «ببصمْلك بالعشرة على موقفك من الفلسطينيّه!»).‏

‏ وأما في معارك نهر البارد، فالموقف العونيّ كان مخيفاً من حيث ‏التأييد الأعمى الذي مَحَضَه للجيش اللبنانيّ بحجّة محاربة الإرهاب ‏‏(وهذا قبل إبرام صفقة الميغ الروسية... الله يستر) وكأنه لم يكن ‏يمكن التخلّص من «فتح الإسلام»، الذي يمثّل الفلسطينيون أقليةً ‏ضئيلةً فيه، والذي بتنا اليوم نعْلم الكثير عن كيفيّة دخوله إلى لبنان ‏وعن تسليحه وتمويله، إلاّ بتدمير المخيّم.

أما حزب الله فلم يتخطّ ‏التحذيرَ اللفظيّ البليغ الذي أطلقه أمينُه العامّ في أول أيام حرب «البارد» حين اعتبر المخيّمَ الفلسطينيّ والجيشَ اللبنانيّ «خطّيْن ‏أحمريْن» لا يجوز تجاوزُهما. لكنّ المخيّم تجووز عمليّاً، وهُدم على ‏رؤوس أصحابه، وطُليتْ جدرانه بالشتائم والشعارات العنصريّة ‏المقزّزة المعادية للفلسطينيين، وبقي التحذير حبراً على ورق، رغم ‏نوايا نصر الله الحسنة.‏

‏ ولا يختلف موقف المعارضة الملتبسة من معارك «البارد» كثيراً ‏عن موقفها من الحقوق المدنيّة للشعب الفلسطينيّ في لبنان. ‏فالعونيّون، أسوةً بـالأطراف الأشدّ عداءً للفلسطينيين داخل 14 ‏آذار، يشْهرون فزّاعة التوطين خشية أن يؤدّي إقرار تلك الحقوق ‏إليه، مع أنّ الحقوق المذكورة لا تتضمّن تجنيس الفلسطينيين على ‏الإطلاق. كما أنّ حزب الله لم يبادر إلى حشد كتلته النيابيّة ووزرائه ‏وقاعدته الشعبيّة الهائلة من أجل تنفيذ هذا المطلب الإنسانيّ ‏والوطنيّ والقوميّ (والإسلاميّ كما يُفترض في عُرف الحزب) في ‏المؤسّسات التشريعيّة والتنفيذيّة اللبنانيّة، مراعاةً ربما لحليفه «المسيحيّ» (عون) الذي يروِّج أحد مسؤوليه (الوزير جبران ‏باسيل) أنّ الفلسطينيين باعوا أراضيهم لليهود (!)، أو مراعاةً ربما ‏لحليفه «الشيعيّ» (حركة أمل) الذي سبق أنْ خاض حروباً يندى لها ‏الجبين ضدّ المخيّمات الفلسطينيّة في الثمانينيّات.

وبالمناسبة، فإنّ ‏قواعد حركة أمل، وهي أحد أطراف المعارضة المذكورة، لا تزال ‏للأسف، ورغم انقضاء عقديْن على حروب المخيّمات، مشحونةً ‏بالعداء ضدّ الفلسطينيين في لبنان. وأذكر أنّ مسؤولاً طلابيّاً في ‏الحركة حمّل مسؤولية ما حلّ بـ«البارد» للـ«فلسطينيين»؛ وقد ‏حدث ذلك في أحد الاجتماعات الشبابيّة/الطلابيّة التي حضرتُها ‏أثناء حرب البارد بهدف القيام بتحرّك ما تضامناً مع الضحايا ‏المدنيين في ذلك المخيّم.‏

■ ■ ■

وبالعودة إلى المقاومة ضدّ إسرائيل، وهي العامل الأبرز الذي يَجمع ‏العلمانيين الوطنيين إلى حزب الله، فإنه من البدهيّ القول إنّ‏ حزب الله هو المرحلة الأكثر انتصاراً في مقاومة الشعب اللبنانيّ ‏للاحتلال الإسرائيليّ، والأبلغ تحقيقاً للنتائج المرجوّة، ليس فقط على ‏صعيد تحرير الأرض والأسرى، بل أيضاً على صعيد بناء توازن ‏رعبٍ يدفع العدوّ الصهيونيّ إلى التفكير مئة مرة قبل تكرار ‏غزواته. لكنْ، فليسمحْ لنا بعض المعارضين بتذكيرهم بأنّ مقاومة ‏إسرائيل بدأتْ قبل المقاومة الإسلاميّة الباسلة بسنوات: هل ننسى ‏الفدائيين اللبنانيين الذين انخرطوا في صفوف المقاومة الفلسطينيّة، ‏وعلى رأسهم سمير القنطار؟ هل ننسى الحرس الشعبيّ (اليساريّ)؟ ‏هل ننسى الشهيديْن إيّاد نور الدين المدوّر (إيهاب) وراجي من «جبهة المقاومة الشعبيّة لتحرير الجنوب من الاحتلال والفاشيّة» ‏اللذيْن استُشهدا على يد القوات الفرنسيّة عام 1978 أثناء توجّههما ‏لقتال العدوّ الإسرائيليّ في الجنوب؟ وهل ننسى جبهة المقاومة ‏الوطنيّة اللبنانيّة، المكوّنة أساساً من تحالف أحزاب اليسار العلمانيّ ـ ‏القوميّ، وننسى شهداءها (يسار مروّة وسناء محيدلي وجمال ساطي ‏ومهدي مكاوي ونزيه قبرصلي...) وأسراها، لمجرد أنّ اليسار ‏اللبنانيّ (والعالميّ) انكفأ في نهاية الثمانينيّات أو قُمع (بل اغتيل ‏بعض قادته الميدانيين والإيديولوجيين أمثال محمد سليم وحسين ‏مروّة ومهدي عامل وكمال خير بك) على يد أطراف (مدسوسة؟) ‏داخل المقاومة نفسها أو في حروب صغيرة مشينة، أو لمجرد أنّ ‏النظام السوريّ شجّع حصر المقاومة في حزب واحد؟ هل ننسى ‏عمليّة بسترس في 20/9/82، وعمليّة الويمبي في 24/9/ 82 التي ‏قُتل فيها ضابط إسرائيليّ وجُرح جنديّان آخران باعتراف العدوّ، ‏وهما من العمليّات التي دشّنت مسار التحرير اللاحق؟ وهل ننسى ‏عمليّة كامد اللوز في21/12/82 (3 قتلى و3 جرحى)؟ وعمليّة ‏الحدث في 5/1/83 (قُتل جنديّان)؟ ووادي الزيْنة في 13/3/83 (4 ‏قتلى من العدوّ)؟ وكاليري سمعان في 8/6/83 (3 قتلى ‏إسرائيليين)؟ وعمليّة عاليه في 3/10/83 (6 قتلى إسرائيليين و22 ‏جريحاً)؟ ومئات العمليّات التي دفعت العدوّ إلى الانسحاب من ‏بيروت والجبل وصيدا، وأسهمتْ في إسقاط اتفاق 17 أيّار؟

والحديث يطول في هذا المضمار. والهدف ليس الحنين إلى أيام ‏مضت وانقضتْ، ولا مجرد الالتزام بالتوثيق الذي كان لـ«أنصار ‏جبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة» شرفُ استهلاله عبر كتابيْن صدرا ‏بلغات وطبعات عدّة: «سنتان» (1984)، «والاحتلال والمقاومة» ‏‏(1986). بل إنّ مغزى الحديث هنا هو أنّ تأييدنا، كنقديين قوميين ـ ‏يساريين، لمقاومة حزب الله العظيمة كان ويبقى في أساس تفكيرنا ‏وعملنا ووفائنا لتضحيات شهدائنا القوميين واليساريين والعلمانيين، ‏اللبنانيين والفلسطينيين (نعم، لا تنسوا الشهداء الفلسطينيين الذين ‏قضوا بين عامي 1982 و2000 دفاعاً عن المقاومة وعن عروبة ‏لبنان، والجبل خاصّة، من غير أن نرى ملصقاً واحداً يحمل ‏صور أكثرهم!).

إنّ قضيّة مقاومة إسرائيل لا تحتاج إلى أن نبرّرها ‏اليوم بفتوى دينيّة من أيّ مرجع، أو ببيان سياسيّ من أيّ حزب ‏جديد، أو بتصريح لأحمدي نجاد أو لأيمن الظواهري: إنها في ‏صلب بنياننا، كيسار وقوى وطنيّة ـ قوميّة ترى نفسها امتداداً للثورة ‏الفلسطينيّة ولحركة القوميين العرب وللحركة الناصريّة ولجبهة ‏المقاومة الشعبيّة ولجبهة المقاومة الوطنيّة اللبنانيّة. وتواريخنا ‏تتجاوز 8 (و14) آذار، لتعود إلى الأعوام 1936، و1952، ‏و1965، و1967، و1978، وأيلول 1982... بل إنّ المقاومة هي ‏مبرّر وجود اليسار الوطنيّ ـ القوميّ أصلاً، ولا سيّما ذاك الذي لم ‏يلتحقْ بالأنظمة الممانعة لفظاً والراكدة فعلاً.‏

■ ■ ■

‏ولكنْ، مثلما أنّ المقاومة هي مبرّر وجودنا كوطنيين وقوميين، فإنّ ‏العلمانيّة والحريّة هما مبرّر وجودنا كيساريين. فلا معنى لوجودنا ‏إنْ لم نلتزم مبدأ العمل على الانتقال بأنفسنا من رعايا طوائف ‏وأذيال زعماء، إلى مواطنين أحرار ذوي إرادات حرّة وقامات ‏سامقة. ولا معنى لوجودنا إنْ لم نتنكّب الدفاع الأخلاقيّ الضروريّ ‏عن كلّ معتقلي الرأي وضحايا الاختلاف الفكريّ والإثنيّ والجنسيّ، ‏أيّاً كانوا، يمينيين أو يساريين أو إسلاميين أو مستقلّين، مثليين أو ‏نسويين، رجالاً أو نساءً، وأنّى كانوا، في سوريا أو لبنان أو الضفة ‏أو غزة أو تونس أو الأردن أو السعودية أو غوانتانامو أو مصر أو ‏العراق.

ولا معنى لوجودنا إنْ لم نواجه الفكر السلفيّ التكفيريّ ‏والبطريركيّ من أيّ جهة أتى، وإنْ لم نتصدَّ لكلّ الذرائع التي تبرّر ‏الكبت والاضطهاد: من ذريعة «ضرورات المرحلة» إلى ذرائع «إثارة النعرات» و«المسّ بالذات الملكية أو الإلهية» و«قوانين ‏الطبيعة» و«احترام الكرامات». وفي ذلك كله لا يحتاج اليساريون ـ ‏العلمانيون النقديون إلى تبرير مواقفهم باللجوء إلى منظّمات «آخر ‏زمن»، المنظّمات غير الحكومية التي تفرِّخ كالفطر وتتلقّى تمويلاً ‏سخيّاً (وأحياناً مشروطاً) من الغرب الحرّ هناك (وبدرجات ‏فحسب) /القامع هنا: فالاتجاه الوطنيّ النقديّ العلمانيّ ذو جذور ‏تضْرب عميقاً في الواقع الثقافيّ والنضاليّ العربيّ، من المعلّم ‏بطرس البستاني وشبلي الشميّل، مروراً برئيف خوري وياسين ‏الحافظ، وانتهاءً بعبد الرحمن منيف وسعد الله ونّوس وجوزيف ‏سماحة وسهيل إدريس وعشرات آخرين.‏

■ ■ ■

أدركُ أنّ موقفنا اليوم أشبه بالسيْر بين الألغام: بين تأييد المقاومة ‏ورفض بعض أساليبها وأفكارها وتكتيكاتها؛ وبين تثمين المواقف ‏العونيّة المناصرة للمقاومة وإدانة التصريحات «المسيحويّة» ‏والعنصريّة؛ وبين المطالبة بعلاقات لبنانيّة ـ سوريّة متينة وشجب ‏الاعتقالات وإجراءات القمع في سوريا ولبنان؛ وبين دعوتنا إلى ‏الوحدة العربيّة ورفض السبل القسْريّة لتحقيقها؛ وبين حاجتنا ‏كمجتمع مقاوم إلى حليف استراتيجيّ كإيران وكرهنا للاستبداد ‏الثيوقراطيّ. المشكلة أنّنا قلّة، ولن يُحسب لنا حساب ما لم نتكتّلْ ‏ونوجِدْ قواسمَ مشتركةً بيننا للعمل... لا للتنظير وحده.
"الأخبار" ‏

التعليقات