11/06/2019 - 18:50

أميركا هي العدو... لغة خَشبية؟

قد يبدو العنوان أعلاه عبارة عن "كليشيه" يعود إلى زمن الحرب الباردة، وهي واحدة من المقولات، التي كانت تُطلقها الأحزاب الشيوعية عادةً، أو حركات التحرر الوطني، ضدّ الاستعمار الغربي. تُسمّى هذه المقولة من قبل المعتدلين أو الواقعيين العرب "خشبية"

أميركا هي العدو... لغة خَشبية؟

قد يبدو العنوان أعلاه عبارة عن "كليشيه" يعود إلى زمن الحرب الباردة، وهي واحدة من المقولات، التي كانت تُطلقها الأحزاب الشيوعية عادةً، أو حركات التحرر الوطني، ضدّ الاستعمار الغربي. تُسمّى هذه المقولة من قبل المعتدلين أو الواقعيين العرب "خشبية"، لا أدري لماذا استُخدم الخشب للتعبير، وربما لن أدري مُطلقًا، فالخشب والسياسة لا تجمعهما علاقات مباشرة!

ومن قالها، لم يُفسّرها، لكنّها أصبحتْ عُرفًا وعبارة متداولة، وكُرّست كوصف، لكلِ حديثٍ أو إشارةٍ إلى الحتميّات الثورية، مثل القضاء على الاستعمار، وتحرير كل فلسطين، وزوال كيان الصهاينة... وغيرها. ومع ذلك، وفي ظلِّ غياب علاقة مباشرة ومنطقية، بين الخشب والسياسة، أظنُّ أحيانًا -ومن غير إثم- أنّ الخشبَ لا روح فيه، وأنّه هشٌ وقابلٌ للكسر، فالقصد أنّها شعارات لا تصمُد وتتآكل مع مرور الوقت، بفعل الظروفِ المناخية؛ لأن هذا هو مصير الخشب.

الشعب الفلسطيني هو الوحيد، الذي قبلَ أن يتقاسم أرضه مع محتلّيه، إذ وصلتْ قياداته إلى درجة من الواقعية السياسية -بقناعة أو غير قناعة- أنّ المطالبة بكل فلسطين أصبحتْ غير ممكنة، والكفاح المُسلّح غير مُجدٍ، لكن في مأزقها الراهن ربما ستتراجع عن تلك الواقعية، وربما ستواجه شعبها ذات صباح أو مساء قريب، لتخبرهم -كما أخبرهم ياسر عرفات ذات يوم، بعد فشل اجتماعات كامب ديفيد الثانية- أنّ السلام والدولة مُجرد سراب، فالصهاينة لا يريدون سلامًا.

المؤكّد أنّ القيادة الفلسطينية (عرفات-عباس)، دُفِعتْ للقبول بأقلّ القليل من الحقوق، لحقن دماء أبناء شعبهم، وللوعود الفضفاضة الّتي قُدمت لهم من قبل السعودية، بأنّ القبول بحق إسرائيل في الوجود، هي الطريق إلى الدولة وباقي الحقوق، وبالطبع ليست هذه العوامل وحدها هي السبب، بل عجز حركة التحرّر الوطني الفلسطينية أيضًا، عن تحرير شبر واحد من الأرض، بعد كلِّ جولات القتال مع العدو، لم يكن هذا القبول رغم ذلك محل إجماع وطني، ولن يكون.

قبِلَ الفلسطينيون على مضض، ما كان يُعتبر في عرفهم خيانة، لكنهم غلّفوها بثوب يُخفف من وطأة الكلمة، واعتبروا الأمر تكتيكًا مرحليًا، مع أنّ الواقع الّذي كان في العلن، والغرف المغلقة، يقول إن هذا القبول، يُمثّل نهاية الطموحات الفلسطينية، ونهاية الصراع، وهذه هي الثوابت لأي الحل. لكن هل ما زالت القيادة ثابتة على الثوابت، بعد وصول ترامب؟

هذا ما صرّحتْ به القيادات، حتّى بعد ضم القدس والاعتراف بها عاصمة موحّدة لكيان الصهاينة، على ما يبدو، أنّ وصول القيادة والنُخب السياسية الفلسطينية إلى تلك القناعات، لن يتغير، بالرغم من أن الظروف خالفتْ توقعاتهم. فمع حلقات الفشل المتكرر لمسلسل التسوية، الذي وضعَ الكلَّ الفلسطيني والعربي والدولي في مأزق، خصوصًا مع صعود اليمين المُتطرّف في إسرائيل، إلّا أنّ القيادة، وفريق كبير من النُخبة السياسية الفلسطينية، اعتبروا ممر التسوية -رغم العقبات- ممرًا إجباريًا، فيه من الحسنات الكثير، فقد جلب اعترافات دولية بالحقِ الفلسطيني، بما في ذلك دولة فلسطينية على حدود العام 1967، وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية عماد الدولة القادمة.

لا تراجع عن التسوية فلسطينيًا، ولا عودة إلى المربع الأول للصراع؛ أي فلسطين كاملة، لأنّ ذلك يُضيّع كل "الإنجازات". الاستسلام للأماني مُريح، لكنّ الأماني لا تخلقُ واقعًا، الأماني والأحلام تتلاشى، عندما يكون العالم ظالمًا، هذا العالم المنحاز للجلّاد، يستغلُّ طيبتك وأخلاقك واستعدادك للتضحية في سبيل المستقبل، كي يقوم بتجريدك من كل شيء تمتلكه، هذا ما يحصل اليوم مع قيادة الشعب الفلسطيني، قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، الّتي منحتْ المحتل كل ما طلب، وورّطتْ شعبها في ما كان مستحيلًا القبول به فلسطينيًا وعربيًا، مقابل أمل، أمل لا أكثر، بأن يمنحها المحتل/العدو وأنصاره، الحدّ الأدنى من الحقوق.

لكن لم يحصلوا على شيء ذي قيمة، وعلى ما يبدو، لن يحصلوا في القريب أيضًا. صفقة أو صفعة أو مهزلة القرن الترامبية، تُنهي كل الآمال والأحلام، تُغلقُ الباب في وجه دعاة التسوية، دون أن تترك لهم مجالًا كما في السابق، أن يجعلوا وهم التسوية سلعة، ممكن استخدامها للاستمرار في التّرويج لمقولات التعايش والسلام، بين الذئب والحمل، بين المُرابي والمدين. لم يعد هناك مجال لبيع الوهم، هذا الدكان أُغلق، أغلقهُ ترامب بقرار رسمي، وبالشمع الأحمر.

يُكرّس ترامب بصفقته -الّتي طُبّقتْ بعض بنودها دون أن تُعلن- واقعًا احتلاليًا، مرفوض دوليًا، إذ لم يعترف به أحدٌ في العالم، لكن ترامب حسمَ الأمر، أقْصى كل حقوق الشعب الفلسطيني، خارج التسوية، الّتي أصبحت تسمى صفقة، وهي صفقة تجارية تمامًا؛ حقوق وأرض ومصير شعب، مقابل المال.

المُضحك المُبكي، أنّ وزير خارجية مملكة البحرين آل خليفة، يقول: "استضافة مملكة البحرين لورشة ’السلام من أجل الازدهار’ في شهر حزيران القادم، تندرجُ ضمن نهجها المتواصل والداعم، للجهود الرامية لتمكين الشعب الفلسطيني، من النهوض بقدراته وتعزيز موارده؛ لتحقيق تطلعاته المشروعة". أليس غريبا هذا الموقف؟ ألمْ يتعهد العرب -كل العرب- بأن يقبلوا ما يقبل به الفلسطيني، ويرفضوا ما يرفضه؟ إذًا، كيف ستدعم البحرين ومعها السعودية والإمارات، ومن سيحضر المؤتمر من العرب، الحقوق الفلسطينية، ما دامت القيادة الفلسطينية والفصائل، ورجال الأعمال الفلسطينيين، ومن خَلفهم كل الشعب الفلسطيني أينما وجد، يرفضون المشاركة، ويعتبرون الورشة مؤامرة؟ أليس الأحرى دعمهم بشكلٍ مباشر من خلال تأمين المظلة المالية التي يطالبون بها، وإلغاء الورشة، والاعتذار عن استضافتها؛ حتى تحافظ البحرين، ومن سيسير مع أميركا من العرب، على تعهداتهم ضمن مقررات الجامعة العربية؟

من الواضح، أنّ البحرين لا تملك من الإرادة شيئًا، فهي ليستْ صاحبة القرار، بل إدارة ترامب وحليفيها الأهم؛ بالخليج محمد بن سلمان ومحمد بن زايد (السعودية والإمارات)، قرروا، والبحرين لبّت، لكن أليس من الخطأ أيضًا مقاطعة المؤتمر، من قبل الفلسطينيين؟ كونهم سيخسرون، إذ لم يذهبوا، على حدِّ قول غرينبلات. هل حقًا سيخسرون إن لم يذهبوا؟ الجواب لدى وزير خارجية الولايات المتحدة جورج بومبيو، الذي يقول: "إن هناك رؤيا للسلام لدى البيت الأبيض، وسيتم الكشف عنها في الصيف القادم، إنها تُقدّم فرصة لمستقبل أفضل للفلسطينيين، رغم أنّه لا يمكن التّعهد بتحقيقه بصورة مؤكدة".

إذن كيف سيخسر الفلسطينيون، وبومبيو يقول بعدم ضمان الولايات المتحدة (صاحبة الصفقة) للشعب الفلسطيني أي شيء؟ هذا يعني أنّ الصفقة -كما بتنا نعرف بعض من بنودها- تتضمن إخراج القدس من المفاوضات، واللاجئين، والمستوطنات الكبرى، والأغوار، وتنصُّ على أنّ لا سيادة ولا جيش، ولا انسحاب من الضفة الغربية، إذن لاشيء... خسارة كاملة! وعليه؛ بماذا يَعدُ دُعاة ذهاب الفلسطينيين إلى مؤتمر المنامة؟ لاشيء أيضًا.

يقولُ الخبير الاقتصادي الفلسطيني د. محمد السمهوري: "لا داعي للقلق، مؤتمر المنامة/كوشنر الاقتصادي في نهاية الشهر القادم، سيلقى نفس مصير خطّة جون كيري لإنعاش الاقتصاد الفلسطيني، الّتي قدّمها سنة 2014 في مؤتمر داڤوس البحر الميت. لا شيء سيرى النور منها. في الحالتين، فإن الدرس واحد: ما لم يتم تسوية الجانب السياسي من المسألة الفلسطينية، لا توجد أي إمكانية لتنمية اقتصادية حقيقية في فلسطين، ولن تأتي الاستثمارات الأجنبية إليها.  وفّروا قلقكم لحين ظهور الشق السياسي من صفقة كوشنر/ غرينبلات/فريدمان، هذا إن ظَهر". بينما يقول رجل الأعمال الفلسطيني زاهي خوري، الذي رفض الدعوة لحضور مؤتمر البحرين: "إن البيت الأبيض يُهين الفلسطينيين من خلال التحدّث عن مستوى معيشتهم قبل تلبية تطلعاتهم الوطنية، مقارنًا ذلك بـ"تجميل أظافر امرأة خلال خنقها".

هل سيعود الفلسطينيون للغة الخشبيّة، الّتي استخدموها قبل عقود، أم أنّ الخشب لم يعُد يصلُح للاستخدام، بعد أن نخره السوس، وأن عباراتهم المستقبلية، يجب أن تُصاغ بعد مسلسل الخيبات من الفولاذ؟ عندما تفقد الشعوب الأمل، تعود إلى فطرتها، والفطرة تقول: الحقوق تُنتزع ولا تستجدى.

التعليقات