13/04/2020 - 13:29

حول ما افتقدته المقابلة مع د. الهزيّل

أزعجني بشدة، العنوان الذي تصدر المقابلة المنشورة في موقع "عرب ٤٨" بتاريخ 28 آذار/ مارس الماضي، مع الصّديق الدكتور عامر الهزيل، بقوله الصارم: "إسقاط مخطط برافر كذبة كبيرة ومخطط الاقتلاع يُنفّذ بحذافيره".

حول ما افتقدته المقابلة مع د. الهزيّل

أزعجني بشدة، العنوان الذي تصدر المقابلة المنشورة في موقع "عرب ٤٨" بتاريخ 28 آذار/ مارس الماضي، مع الصّديق الدكتور عامر الهزيل، بقوله الصارم: "إسقاط مخطط برافر كذبة كبيرة ومخطط الاقتلاع يُنفّذ بحذافيره".

طبعا اعتراضي ليس على القسم الثاني من التصريح بخصوص مواصلة نظام الأبرتهايد الصهيوني في فرض الوقائع الاستعمارية الإحلالية في النقب، ومواصلة التنكيل بأبناء شعبنا، من فلسطينيي النقب، دون رحمة، حتى في ظل كابوس وباء كورونا. فالدكتور الهزيل، الذي شغل وظائف غير رسمية ورسمية، آخرها منصب القائم بأعمال بلدية رهط، هو من أكثر المطّلعين على حيثيات وتفاصيل المخططات الاستعمارية التي تمارسها إسرائيل منذ النكبة، وعلى مدار اللحظة، وله إسهامات معروفة في معارك انتزاع الاعتراف بقرى فلسطينية قائمة في النقب قبل الغزو الاستعماري الصهيوني لبلادنا وإقامة إسرائيل.

لقد تركز جُلّ حديثه على إعادة شرح مجمل تلك المخططات، وهو أمر لا غضاضة فيه، إذ نحتاج جميعا لتذكيرنا ولموافاتنا من قبل الخبراء بآخر مستجدات السياسات والمخططات الإسرائيلية العدوانية. ولكنه أغفل معاني ودروس تجربة مقاومة مخطط برافر الاقتلاعي على المستوى الشعبي، وأهمية التنظيم المجتمعي. كما لم يخض في سؤال ما العمل أو في شرح دورنا كمؤسساتٍ وأطر وأفراد، في ما اعتبره زيف الانتصار على برافر، ولماذا لم يجر تطوير هذه التجربة.

وهو، بذلك، دون أن يقصد، يُغيّب تجربة مقاومة شبابية طليعية، غير مسبوقة، كانت تتحول تدريجيا إلى مقاومة شعبية، لولا أن المؤسسة الصهيونية اضطرّت، تحت الضغط الشعبي، إلى التراجع وإلغاء قانون برافر الذي كان سُنَّ في الكنيست. هو يذكر تلك التجربة بصورة عابرة، دون إدراك الحاجة، في هذا الظرف بالذات، إلى الخوض في معانيها وتكتيكاتها وطرق تنظيمها واسترجاع سيرورتها، والتوقف، تحديدًا، عند من يتحمّل المسؤولية عن وأدها أو عدم تطويرها. ويكتفي بتوجيه نقد للقيادات التي تركت الجنود جرحى في المعارك من قبل غالبية القيادات، وهو بالفعل أمر حصل، بحق معتقلي النقب. وفي هذا السياق، يُمكن، أيضًا، الإشارة إلى القصور الفاضح في وعي نموذج النضال الذي يجسّده الشيخ صياح الطوري، وغياب الرغبة والإرادة عند القيادات في تطويره والعمل على اشتقاق نموذج عام منه لعموم النقب، وفي بقية أرجاء الوطن دفاعًا عن الأرض والبيت والحياة.

وبكلماتٍ أخرى، إن اختزال تجربة مقاومة مخطط برافر بكلمات قاسية وقاطعة، مثل "إسقاط برافر كذبة كبيرة"، يترك صورة مشوهة في ذهن المتلقي، عن هذه التجربة الهمة، وخاصة لدى الأجيال الجديدة، ولدى جموع الطلائع الشابة، التي خاضت المواجهات الجريئة ضد قوات القمع في شوارع المدن، والشوارع الرئيسية، في النقب والجليل والمثلث. وكان حريّ، وفي هذه الظروف، خاصةً في ظل تغول النظام الصهيوني وتهتّك السياسة العربية في الداخل، أن تُمنح هذه التجربة حقها، علّها تكون مادة للأجيال الجديدة للبناء عليها وتجديد المبادرات الشعبية الخلّاقة. فالسياسة العربية داخل الخط الأخضر، منذ موقعة برافر، لم تشهد أيّة محاولة جديّة، لوضع إستراتيجية عمل شعبي تستأنف هذه التجربة النضالية الشعبية، لتضع حدًا نهائيًا لمخطط الاقتلاع والتهجير والتهويد، الذي بجري تنفيذه بطريقة التنقيط التدريجي بعد أن كان الهدف سابقا تنفيذه بضربة قاصمة واحدة. ليس هذا فحسب، بل إن تجويف السياسة العربية وتفريغها من البعد الوطني وحشرها في خانة الكنيست ساهموا في خلق الاتّكالية عند الناس والأوهام على حفنة من ممثلي الجمهور وسلب مجتمعنا وكالة التغيير وتجريده من دوره في النضال الشعبي.

ماذا حققت تجربة مقاومة مخطط برافر في تلك الفترة؟

أولا: وحدة المجتمع الفلسطيني داخل الخط الأخضر ضد المخطط. والأهمّ، تطوّر وعي جديد خاصة بين الأجيال الشابة، بين فلسطينيي الجليل والمثلث نحو فلسطينيي النقب، الذي لم يعد له تواصل ديمغرافي مع الوسط والشمال، بسبب مخططات المحو والهدم والتهجير منذ النكبة. ما معناه، لم يكن فلسطينيو النقب، حتى ذلك التاريخ، يحظون باهتمام ٍ كافٍ أو حتى بمعرفة كافية من قبل غالبية أهل الشمال والمركز عن تفاصيل نكبة أهلنا في جنوب فلسطين. وقد فاق عدد المعتقلين أثناء المواجهات التي جرت في الشمال والمركز، أضعاف المعتقلين من النقب. ما دلّ على حجم التضامن وتطور التفاعل مع قضية هذا الجزء من شعبنا. ليس هذا فحسب، بل نجح الحراك الشبابي في التشبيك مع حراكات شبابية فلسطينية في بقية أنحاء فلسطين، وكانت هناك تظاهرات في غزة ورام الله وبيروت وفي بعض الدول الأوربية وغيرها. هكذا، عبر التشبيك، يكتشف الجيل الفلسطيني الجديد، فلسطين الواحدة، ويتعزز انتماؤه الجمعي.

ثانيًا: نجاح القوى السياسية والشعبية في النقب في الارتقاء بالتنظيم الجماهيري، وتشكيل لجنة التوجيه، والتي نجحت ومن خلال التنسيق مع لجنة المتابعة العليا، ومقرّها الناصرة في حشد الأطر الشعبية، مثل المجلس الإقليمي ورؤساء بلديات ومديري مدارس وطلاب جامعيين وتنظيم حملات تواقيع والإضرابات العامة والمظاهرات الشعبية، وذلك منذ عام 2011، وكذلك تنظيم المحاضرات والندوات الشعبية في الشمال، التي شرحت خطورة المخطط، وبكونه موجهًا ضد جميع المواطنين الفلسطينيّين. في هذه الأجواء نشأ الحراك الشبابي في النقب والمثلث والجليل، هذا الذي كان المبادر إلى نقل النضال الشعبي من حراك ناعم ومُرخّص إلى حراكٍ خشنٍ يتّسم بنوعٍ من العصيان المدني، أي التوقف عن طلب الترخيص من الشرطة والاندفاع إلى الشوارع الرئيسية وإغلاقها والاشتباك مع قوات القمع الإسرائيلية. وقد كان حزب التجمع، الحزب الوحيد، من بين الأحزاب الذي دعا، رسميًا، إلى إغلاق الشوارع، ومشاركا في المواجهات بصورةٍ منهجية ومثابرة من خلال قياداته المركزية، والمئات من شبابه، إلى جانب حراكات شبابية عديدة مستقلّة أو منظّمة، مثل حركة أبناء البلد. وللأسف فقد تراجع دور هذه اللجنة، واختفت كل أشكال التنظيم الشعبي الميداني الجدّي.

ثالثا: أظهرت تلك التجربة القدرة على التنظيم والحشد، وبالذات حين تتوفر الإرادة والوعي بالأهمية الإستراتيجية للنضال الشعبي. واستمرت عملية التحضير والحشد والتركيم على مدار ثلاث سنوات بدون انقطاع، مرورًا بالمواجهات الكبرى، في الشمال والجنوب، ووصولًا إلى المواجهات العنيفة في 29 نوفمبر 2013، حيث كانت مواجهة بلدة حورة النقب أعنفها وأكثرها تأثيرًا في التراجع الإسرائيلي عن قانون الاقتلاع. وبعد أيام فقط، جاء الوزير المكلف بتنفيذ القانون، بيني بيغن، إلي جلسة الحكومة وأعلن فشل تنفيذ القانون، وخصَّ في حملته التحريضية حزب التجمع الوطني الديمقراطي، متهما إياه بأنه الحزب الذي فاق الأحزاب الأخرى في تحريض البدو على رفض الخطط، والدعوة إلى إغلاق الشوارع.

ما العبرة من ذلك كله؟

كان ذلك كله دليلًا قاطعًا على جدوى النضال الشعبي والتنظيم المجتمعي. والأهمّ تأكّد أن إستراتيجية النضال الشعبي تحتاج إلى دراية وإلى إرادة ونفسية مواجهة (مواجهة محسوبة وحكيمة)، وإلى دراية بأهمية عنصر المراكمة، الذي يتطلب منهجية وعملا يوميا وتواصلا مع الناس ومع النشطاء المؤهلين لخوض نشاط ميداني. لكنّ من أدمن على "العمل الكنيستي" واختزل العمل الشعبي في تنظيم مظاهرة هنا وتظاهرةٍ هناك أو في تنظيم مسيرة فولكلورية في المناسبات الوطنية فمن أين تأتيه اليقظة؟ ومن أين يأتيه الوعي بأُسس الحراك الشعبي؟ ومن أين تأتيه هذه المؤهلات؟ إن فاقد الشيء لا يعطيه. هكذا تجري عملية ترويض الناس، وتعويدها على التخلي عن دورها الفعلي في التغيير لحساب التحول إلى مجرّد ناخبين، بلا سياسة وبلا أفق وطني إستراتيجي وغارقين في الأسرلة المتسارعة.

ربّما تشكّل الظروف الصحية العصيبة، ظروف وباء كورونا، وما كشفته من قصورات داخلية، وما أكدته من إفرازات خطيرة للممارسة الاستعمارية اليومية، إذ نشهد حاليا المبادرات الشعبية، التطوعية، والخلّاقة، لتعزيز التكافل الاجتماعي، والتخفيف عن العائلات المحتاجة، فرصة للمراجعة، والتفكير مجددا بإستراتيجية تنظيم المجتمع، بحيث تكون اللجان الشعبية والصناديق المالية، الركائز المحورية في هذه المهمة.

التعليقات