12/11/2021 - 13:38

بؤس المشهد وبعض من الأُفق

هذا الإنجاز كما الدور الجماهيري الشعبي، قد فرض ذاته على الحالة السياسية الإسرائيلية، فمن ناحية هناك اعتراف غير مسبوق بالوزن السياسي لهذا الجمهور والذي انتزع شرعيته ضمن مسيرة كفاحية متراكمة

بؤس المشهد وبعض من الأُفق

من تظاهرة في حيفا ("عرب 48")

شاهدت التصويت في الكنيست على إقامة مستشفى في منطقة البطوف، وفي رأيي؛ إنّ المقترح جدير، والمطلب ضروري بإقامة أول مستشفى حكومي في بلدة عربية فلسطينية، وتحية للقائمة المشتركة ورئيسها ونوابها على الجهود في هذا الصدد. صحيح أن القرار لا يزال في طور القراءة التمهيدية وقد تجري إعاقته، لكن بمجرّد اتخاذه، فقد بات مرجعية يُراكَم عليها النضال الشعبي والسياسي مستقبلا حتى إنجازه.

كان على القائمة الموحّدة أن تدعم الاقتراح، وأن تحذو حذو النائب مازن غنايم الذي لاعتباراته دعم الاقتراح، بدلا من التصرف غير اللائق بل البائس لنوابها، والذي لا يمسّ بهم وحدهم، بل يمسّ بصدقية العمل السياسي والتمثيل البرلماني العربي.

كان من واجبها أن تدفع بالحكومة لإقرار اقتراح القانون الذي قدمه رئيس المشتركة أيمن عودة، حتى ولو رأت في الأمر إحراجا لها كما تقول، فالمطلب مطلب حق، كما كان عليها أن تُصرّ على دعمه كي تكسب -من منطلقاتها- وزنا أكبر في الحكومة التي تدعمها، فالمسألة ليست سياسة مبدئية بالنسبة للحكومة الإسرائيلية إلا من باب التمييز البنيوي والعنصرية، كما أن إقامة المستشفى لا تتعارض حتى مع الخطوط العريضة للحكومة أو أي قانون، والواقع السكاني يتطلب ذلك، ومن باب الحق بالعدالة في توزيع موارد الدولة ومرافقها المدنية.

غنيّ عن القول إن المشروع الصهيوني بكل تياراته، لا يتعامل مع أي طرف فلسطيني باحترام حقيقي، إلا بقدر ما يتمسك هذا الطرف بحقه ويناضل من أجله ويضحي من أجله.

إنني على ثقة بأنّ القائمة الموحدة ليست ضد إقامة مستشفى في البطوف أو سخنين كموقف، لكن عليها أن تدرك أن وجودها في الائتلاف الإسرائيلي الحاكم؛ يتطلب منها ثمنا لا تستطيع حمل أوزاره لا سياسيا، ولا في أخلاقيات السياسة، ولا مطلبيًّا حتى، وهذه الحالة شكلت دليلا.

إلا أن إشكالية المشهد المُعاش قد تكون في التحوّل الحاصل في الثقافة السياسية التي شاهدنا انعكاسها يوم العاشر من تشرين الثاني/ نوفمبر.

إن دخول حزب عربي وفي هذه الحالة القائمة الموحَّدة إلى الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، ليس مسألة تكتيكية، أو مسألة حدثت بالصدفة أو لمرة واحدة، بل هي تأسيس لواقع سياسي جديد -إشكالي في رأيي- وقد كُتِب في هذا الصدد. بل هو تحوّل جوهري في الثقافة السياسية التي قامت على المواجهة والكفاح والصراع ليحضر حاليا نموذج "الشراكة" والاندماج السياسي في الحكم وفي خطاب الحكم وفي الثقافة السياسية الإسرائيلية النقيضة لثقافتنا في هذا الصدد، وهذا ناتج بسبب الموقع والوضعية وطبيعة النظام الإسرائيلي الصهيوني بكل تجلياته، وبسبب تمسّكنا بالحق الفلسطيني. كما أنّ ما بانَ في جلسة الكنيست هو أن جبهة الصراع والمواجهة قد تنتقل إلى داخل القوى السياسية العربية بدلا من مواجهة الدولة وسياساتها. وسوف تنقسم القوى السياسية الصهيونية الحاكمة -ليس انقساما جوهريا- بناء على اعتباراتها وأهدافها البعيدة عن أهدافنا، إلى داعمة أو معارضة لهذا الطرف العربي أو ذاك، ومن أجل أهدافها هي، ومن أجل إجماعها جميعها على التخلص من الوزن النوعي الوحدوي للتمثيل البرلماني العربي.

قد يكون في التعارض الحزبي الإسرائيلي الداخلي فرصة لهامش تمرير قوانين، ومن المغري استغلالها، لكن في المقابل وعلى النقيض من ذلك، وهذا ما يتطلب الحذر الشديد، فإن لهذا الأمر استحقاقات لا نريدها لو عرفناها مسبقا، فلا نريد أن نكون جزءا من كتلة فيها اصطفاف للكتلة الصهيونية اليمينية الحاكمة أو للكتلة الصهيونية اليمينية المعارضة التي تريد أن تسقطها لتحكم بدلا منها. وأعتقد أن تصويت المشتركة ومحاججاتها في مسألة ميزانية الدولة كان الأسلم سياسيا، فقد أعاد الاعتبار نوعا ما إلى الجوهر السياسي الحقوقي الذي افتقدته الحلبة السياسية الداخلية بعد قيام المشتركة وتهميش الاختلافات في التوجهات، هذا من جهة، كما أعاد الاعتبار للسياسة بمفهوم الموقف من جوهر السياسات في المؤسسة الصهيونية الحاكمة، بغض النظر عن من يقف على رأسها.

لن أتوقف هنا عند تحليل التحولات الاجتماعية - الاقتصادية في المجتمع العربي الفلسطيني والتي تحمل بعض المناحي التي تدعم هذا التحوّل السياسي، لكن كما يتضح فإن ما نحن بصدده اليوم في الحلبة البرلمانية هو نتاج ما جرى في جولة الانتخابات قبل الأخيرة، حين حصلت القائمة المشتركة على 15 مقعدا، وبذلك عوّقت رتابة تشكّل السلطة الحاكمة، واعتبرت المؤسسة الصهيونية الحاكمة أن ذلك فائض قوّةٍ غير مجاز، ولا ينبغي أن يُتاح مستقبلا.

هذا الإنجاز كما الدور الجماهيري الشعبي، قد فرض ذاته على الحالة السياسية الإسرائيلية، فمن ناحية هناك اعتراف غير مسبوق بالوزن السياسي لهذا الجمهور والذي انتزع شرعيته ضمن مسيرة كفاحية متراكمة طويلة المدى وحالية، لتجد الحالة السياسية الإسرائيلية أنها أمام وضع لا يمكنها تجاوز هذا الواقع ولا يمكنها التسليم به، ونتيجة لذلك بتنا اليوم أمام حالتين متناقضتين، فمن ناحية اعتراف إسرائيلي بشرعية الدور السياسي العربي الفلسطيني. وفي المقابل ازدياد وتصعيد في منسوب العنصرية والدموية والتحريض الشعبي والسياسي والإعلامي، والعداء القضائي، الإسرائيليين. يضاف إليه سهولة التحريض العنصري في الكنيست ذاته.

على المشتركة أن تتحاشى وضعا يستند فيه أي اقتراح لها بدعم اليمين الفاشي، حتى ولو من باب المصادفة، لأن ذلك قد يدفع نحو العبث بالسياسة ويجعل كل شيء مباح، كما يلغي الفروقات بين التوجهين (المشتركة والموحدة) في الكنيست، ليس لأنهما تتبنيان ذات المواقف، بل لأنه رغم تعارضهما فإنهما تتبنيان قواعد اللعبة ذاتها، أو هكذا يبدو الأمر.

لقد دفع انضمام الموحدة للائتلاف إلى وضعية مفصلية ليس فقط للموحدة، بل للمشتركة كذلك، ومجمل العمل السياسي البرلماني العربي.

وهذا كما يبدو سيكون ملازما في هذه المرحلة، حيث لا يوجد مرجعية تبتّ في مثل هكذا صراع، بل إنه صراع يهدد مرجعياتنا وقد ينعكس في لجنة المتابعة إذا تركت الأمور للصدفة، فلو كان في لجنة المتابعة كهيئة مرجعية ميثاق أخلاقي، لربما كان بالإمكان العودة إلى معاييره، لكن ذلك غير قائم ولا يمكن أن يُصاغ في ظل الصراع الحاد القائم اليوم.

لكن رغم هذا النقص هناك حاجة ليس إلى تفاهمات ولو بالحد الأدنى، فالموضعان مختلفان (ائتلاف ومعارضة، ولا تستطيع المشتركة التنسيق كما لو كانت الموحدة قوة ضاغطة أو لوبي داخل الائتلاف الإسرائيلي الحاكم، ولا التسليم بذلك)، فالاختلاف جوهري وليس عابرا وليس مؤقتا، وعليه بالإمكان الاتفاق على تهدئة الأجواء وعلى الكف عن خطاب الإلغاء والتخوين، فمن شأنه أن ينعكس اجتماعيا وعلى أوساط واسعة ليخلق حالة صراع مجتمعي قائمة على التعصب السياسي الغيبي، وهذا يمسّ بالمجتمع الفلسطيني كمجتمع.

إدارة النقاش والخلاف والصراع بين المشتركة والموحدة ينبغي أن يكون سياسيا وفقط سياسيا، وفي المفاهيم الاجتماعية، وهذا يشمل المواقف والسلوكيات السياسية والمجتمعية.

هل تعود السياسة إلى السياسة؟

شهدنا بعض الوقفات الهامة مؤخرا والتي من شأنها أن تضيء الطريق في خلق التوازنات وفي إعادة الاعتبار للسياسة القائمة على التعددية، ومنها تصدي أوساط واسعة في القوى الوطنية لحملة التحريض الإعلامي الإسرائيلية على الحركة الإسلامية الجنوبية والقائمة الموحدة وجمعية الإغاثة 48، بسبب مشاريع الإغاثة للأيتام والمحتاجين في غزة، والسعي الإسرائيلي إلى دمغها بالإرهاب.

وقد شكل الموقف المذكور أساسا أخلاقيا وواجبا أخلاقيا. في المقابل يجدر الإشادة بموقف المشتركة كما ذُكر آنفا في مسألة ميزانية الدولة، كما يجدر الإشادة بتأكيد التمسك بأخلاقيات السياسة الوطنية، والذي جرى التعبير عنه في حدثين ليسا عابرين، بل يشكلان استمرارا للطريق الكفاحي وتعزيزا له، والقصد تصدي النائب أيمن عودة جسديا للنائب الفاشي بن غفير ومنعه بالقوة من دخول مستشفى كابلان والوصول إلى الأسير مقداد القواسمة المضرب عن الطعام، وبحالة صحية حرجة. ويُضاف إلى هذا الموقف، الزيارة التي قام بها نواب المشتركة إلى جانب رئاسة لجنة المتابعة إلى المؤسسات الحقوقية التي أعلنتها سلطات الاحتلال "منظمات إرهابية"، والاجتماع مع هذه المؤسسات في رام الله، ووضع خطة لتوفير حمايتها ونزع شرعية الاحتلال والقرار الإسرائيلي. إنها رسالة بأن كل شأن فلسطيني هو شأننا وفوق أي اعتبار مصلحي، ولا مكان لنهج اللاسياسة في السياسة.

إن هذه الوقفات تؤكد أن الحركة الوطنية قادرة على أن تبقى حامية لكل من يتعرض للملاحقات والترهيب السياسي الإسرائيلي، كما أن هذا أساس تملُّك المقومات لأن تصون الطريق الكفاحي لهذا الجزء من الشعب الفلسطيني، ورفد مجمل قضايا شعبنا وأن تحقق الإنجازات في القضايا المطلبية. كل هذا وارد فقط إذا اعتمدت قوة الشعب وحراك الشعب وحركته ومسيرته التي لا تنضب ولا تخيّب الأمل.

التعليقات