14/10/2022 - 12:09

ركوب "الإسلام" لنظام الأبارتهايد

الحركة الإسلامية الجنوبية، المتحالفة مع أحد جناحي اليمين الصهيوني، قد تنجح في الانتخابات (و قد لا تجتاز نسبة الحسم)، لكن حتى لو نجحت، ستبقى وصمة العار تلاحقها... لأن قاعدتها من المصوتين، ستكتشف عبثية ولاأخلاقية هذا النهج عاجلا أو آجلا

ركوب

النائب منصور عباس (Getty Images)

قبل ثلاثة أشهر تواصلتُ مع أحد قادة الحركة الإسلامية الجنوبية، وهو أحد الرافضين للنهج الذي يقوده منصور عباس وزملاؤه، في محاولة لفحص إمكانية فرملة هذا النهج المدمّر، فأَنْ تصبح حركةٌ عربية وإسلامية، جزءًا من حكومة صهيونية، قاتلة ومجرمة، هو أمرٌ كان غير متخيَّل.

لم أُخفِ شعوري بالمرارة الشديدة والغضب عندما التقينا، وأوضحتُ له أنني أتحدث معه كمواطن فلسطيني، مستقلّ، تعبيرا عن غضب شعبي وطني عام، ولاستياء شرائح واسعة من المؤمنين، لكون هذا الانحراف يتمّ تحت ادعاء خدمة مصالح شعبنا، وتحت عباءة الإسلام. وقلتُ إن ما تفعله الحركة الجنوبية لا يضرّ الحركة فحسب، بل يضرّ مجتمعنا وقيَمه وتماسكه الداخلي، بل يلطّخ صورة هذا الجزء من شعبنا، في فلسطين والشتات. وأضفتُ أن ما يهمني هو أن يتم محاصرة هذا النهج الذي يُدمر الوجه الأخلاقي والوطني والجماعي لمجتمعنا، تحت استخدام تبريرات دينية إسلامية، والذي يستثمر ضائقة الناس الاقتصادية والسياسية التي ولّدها نظام الفصل العنصري. وحقيقةً، لم أُفاجأ بموافقته على هذا التحليل، بل كان هو أيضا مستاء جدا، كغيره من أعضاء أقلية في قيادة الإسلامية الجنوبية، رافضة لهذا النهج، ولكن وجدته عاجزا عن القيام بأي شيء، هو وزملاؤه المعترضون.

لقد أوضح لي أن أغلبية القيادة متمسكة به، وماضيةٌ فيه دون إدراك حجم الخطر والضرر الديني والأخلاقي والوطني الذي يلحق بمجتمعنا، وبسمعته. بل ذهب إلى انتقاد بعض شرائح الطبقة الوسطى، التي تقبل هذا النهج، التي لا يهمها إلا المصالح المادية الشخصية، على حساب المبادئ والقيم، على حدّ قوله. وقلت بدوري إن دور القيادة أن توجِّه الناس؛ تنزل إليهم وتقودهم، لا أن تكون مَقودة.

لقد كان لي في السابق علاقات طيبة جدا مع العديد من قيادات الحركة الجنوبية، وكانت لي حوارات مطوّلة معهم، ومنها جرى في بيتي، حول قضايا دينية وديمقراطية وسياسية، وكان يعجبني اعتدال آرائهم الدينية، مع أني لم أتوقف عن نقد ميوعة مواقفهم السياسية، ومجادلتهم بشأن ضرورة تصليب موقفهم تجاه الحُكم في إسرائيل. ولكني كغيري، لم أتخيّل يوم ما، أن يصل الدرك بهذه الميوعة السياسية إلى نسج تحالف مع الصهيونية، وأن يصبحوا جزءًا من تيار عربي متصهين تقوده أنظمة عربية، كالإمارات والبحرين والمغرب.

أنا لستُ متدينا، لكنني أحترم وأقدر أهمية الدين، وأعتقد اعتقادا عميقا بوحدة مصدر الأديان التوحيدية، كمنظومة أخلاقية موجهة. وأنا عروبي وديمقراطي، أومن بضرورة نهضة الأمة العربية المرتبطة بتراثها وحضارتها العريق، وبالتعددية، واحترام الحريات الفردية، ضمن ضوابط قانونية، وأخلاقية، أي بالدولة الديمقراطية المدنية. وبالنسبة لي، فإن الأديان التوحيدية؛ اليهودية، والمسيحية، والإسلامية، التي نشأت في بلادنا وليس في الغرب، مصدرها ورسالتها واحدة، وإن اختلفت أشكال التواصل مع الله، ومع ما يمثله من قيم العدالة، والمحبة، والتسامح والتعاضد.

لقد انشقت الحركة الإسلامية الجنوبية عن الحركة الأم، قبل عقدين ونصف، على خلفية المشاركة في الكنيست، وعلى خلفية قضايا أخرى. مع ذلك، تعايشتْ الحركات السياسية في ما بينها؛ الدينية والعلمانية، سواء التي تشارك في انتخابات الكنيست أو التي تقاطعها، ضمن لجنة المتابعة العليا، وفي إطار النشاطات الميدانية المشتركة في مواجهة المصادرة، والهدم، والإجراءات القمعية والقوانين العنصرية. وجلب هذا التعاون، ضمن تعددية حزبية وعقائدية، إعجاب أبناء شعبنا الذي يعيش تحت نير الاحتلال، وفي بؤس الشتات. وزاد العجاب والاحترام بعد إقامة القائمة الانتخابية المشتركة عام 2015، وذلك قبل أن تبدأ الصراعات الداخلية، وقبل أن تبادر الجنوبية بالانشقاق عنها، وخوض الانتخابات لوحدها.

معروف لنا تاريخيا، أن الفتاوى الدينية، أو اعتماد الاجتهادات الفقهيه، للردّ على مستجدات وعلى حاجات الناس في حقب معينة، أمر مشروع وضروري. ولكن أيضا جميعنا يعرف أن بعض الفتاوى أصدرها فقهاء أو رجال دين، لتبرير سياسات ظالمة أو منحرِفة لحكام عرب ومسلمين. ألا تذكرون تسويغ الشيخ المصري الراحل، متولي شعراوي لاتفاقية "كامب ديفيد" الخيانية التي عقدها أنور السادات مع إسرائيل عام 1978، والتي أخرجت مصر من معادلة الصراع وفرّطت بفلسطين؟

بل هناك مثال على حدثٍ حصل منذ عامين فقط، هو إقدام سعيد الدين العثماني، أمين عام حزب العدالة والتنمية الإسلامي، ورئيس الحكومة المغربية، بالتوقيع على اتفاقية التطبيع مع إسرائيل، التي نسجها الملك محمد السادس، في كانون الثاني/ يناير من عام 2020. وللمفارقة، كان للعثماني مقال بعنوان؛ "التطبيع إبادة جماعية"، كتبه قبل سنوات. لقد تم تسويغ التوقيع على اتفاقية التطبيع بأنه يحافظ على مصلحة المملكة المغربية، ووحدتها.

أستحضرُ هذا المثال، لأن بعض قادة الجنوبية، وكما قالوا لي، كانوا مفتونين بحزب العدالة والتنمية المغربي، المصنَّف كتيار إسلامي وسطي. وقد صمتت قيادة ذلك الحزب على مشاركة قائدهم، في التوقيع على "الإبادة الجماعية"، وفقط بعد أن لحقت بالحزب هزيمة نكراء في الانتخابات العامة المغربية العام الماضي، لهذا السبب ولأسباب داخلية، إذْ هبطت مقاعده من 125 إلى 12؛ قام الأمين العام السابق، عبد الله بنكيران بانتقاد اتفاق التطبيع.

الحركة الإسلامية الجنوبية، المتحالفة مع أحد جناحي اليمين الصهيوني، قد تنجح في الانتخابات (و قد لا تجتاز نسبة الحسم)، لكن حتى لو نجحت، ستبقى وصمة العار تلاحقها... لأن قاعدتها من المصوتين، ستكتشف عبثية ولاأخلاقية هذا النهج عاجلا أو آجلا، وتناقضه الصارخ مع قيمهم الإيمانية والوطنية كالعدالة، والمساواة، والتضامن الداخلي، أي مع أبناء شعبنا المحاصَرين في قطاع غزة وفي القدس والضفة، حيث لا يتوقف الاحتلال عن ارتكاب الجرائم.

سيكتشف مصوتو الإسلامية خطورة هذا النهج، بفطرتهم الوطنية وحسِّهم الديني السليم، وسيعودون إلى الانخراط في مسار مشترك مع أبناء شعبهم لإصلاح ما تم تخريبه وإفساده.

سيكتشفون أنك تستطيع الادعاء بأنك مع شعبك، في قطاع غزة، وفي القدس، وفي الضفة الغربية، وفي الوقت ذاته تقبل أن تكون في حكومة ترتكب الجرائم اليومية بحق هذا الشعب المحاصَر والمطارَد.

لم يكنّ التجمع الوطني الديمقراطي، أيّ حساسية تجاه هذه الحركة، بل تعايَش معها لفترة طويلة، ضمن علاقة جيدة واحترام متبادل، قبل وقوع قيادتها بهذا الانحراف المريع، الذي جرى في ظل ظروف قمع الحركة الإسلامية الشمالية، وملاحقة التجمع السياسية، والضعف الذي مرّ به في السنوات القليلة الماضية.

لكن ها هو التجمع يعود بقوة بخطابه الأصيل، وبرصيده الفكري والشعبي الطويل، وبعزيمة المئات من كوادره وتأييد عشرات الآلاف من جمهوره، ومن المـناصرين الجدد. بل ينضم إلى تأييده المزيد من المتعاطفين، ما يؤكّد رفض الناس لهذا النهج، ويؤكد تعطشهم وحاجتهم إلى من يمثّل مشاعرهم الأخلاقية والوطنية السليمة.

ما يشجع تلك العودة، والاستعادة، إلى التجمع -من بين أمور أخرى- ليس فقط المؤامرة الدنيئة التي ارتكبها أيمن عودة وأحمد الطيبي، بل أيضا لأنه يشكل مشروعا سياسيا جامعا لنقيض ممكن في المستقبل القريب، لنظام الأبارتهايد الإسرائيلي، الذي يبسط سيطرته على فلسطين من البحر والنهر. مشروع يجمع بين الهوية الوطنية والمواطَنة الكاملة، وما يترتّب عليها من حقوق.

سُئِل الصحافي الإسرائيلي الجريء، غدعون ليفي، بعد جلسةٍ مع النائب سامي أبو شحادة، من قِبل راديو محلي؛ لماذا أنت مستعد للترشح في قائمة التجمع وليس في أي قائمه أخرى، فأجابه بوضوح تام: لأنّني أرى في التجمع "الحزب الأقرب لمشروع الدولة الديمقراطية الواحدة"، البديل الإنساني لنظام الأبارتهايد.

التعليقات