06/11/2022 - 08:28

قول لا في وجه من قالوا نعم

أصبح التجمع تجسيدًا لصوت "لا" في وجه تجار السياسة؛ وصوت "لا" في وجه التهافت على الاذدناب للمؤسسة الصهيونية؛ وصوت "لا" في مواجهة التأتأة أمام الهجوم على الهوية القومية؛ وصوت "لا" أمام الانفصال عن قضية الشعب الفلسطيني وتجزئتها

قول لا في وجه من قالوا نعم

لا يضير الحركة الوطنية، التي تسعى إلى تأسيس نفسها من جديد، تحميلها مسؤولية صعود اليمين الصهيوني المتطرف إلى الحكم. فلا جديد ولا جدّيّة في هذا الاتهام. ففي عام 1996 لامت قيادات حزب العمل جماهيرنا بالتسبب بفوز بنيامين نتنياهو في الانتخابات المباشرة لرئاسة الحكومة رغم حصول شمعون بيرس على ما يزيد عن الـ90 بالمائة من الأصوات العربية. ذلك أن العديد من الناخبين العرب فضّلوا الامتناع عن التصويت بالورقة البيضاء، خاصة وأن بيرس كان قد ارتكب قبل الانتخابات بأسابيع مجزرة قتل المدنيين في قانا في لبنان ضمن العدوان العسكري المسمى "عناقيد الغضب".

أي أنّ التهمة جاهزة، حتى لو انتخبت الغالبية الساحقة من الفلسطينيين في إسرائيل كما يتمنى لهم لابيد وغانتس. لذا هم يجعلون من الأقلية الفلسطينية شمّاعة يعلّقون عليها أسباب فشلهم. ومغزى ذلك أن الأصوات العربية الفلسطينية لا تشكل في نظرهم قوة ذات إرادة مستقلة وهوية قومية، بل يطلب منها التيار الصهيوني "الأقل تطرفا" أن تتغاضى عما يفعلون وتسامحهم على تحريضهم عليها، وأن تكون مجرد احتياطي أصوات لهذا التيار ليصل إلى الحكم أو ليحافظ عليه. كما يتوخى منها هذا التيار أن تتعامل مع السياسة بمنطق التجارة لا بمنطق كونها وسيلة وحيّزًا ممكنًا لحماية الهوية من الاندثار، وتأسيس المبادئ ضد المصالح الضيقة، والاحتجاج ضد الظلم والاضطهاد، وتحرير الإنسان الفلسطيني مما يعيق تطوره وحريته، وتنظيم الأفراد لتشكيل إرادة جماعية والتعبير عن صوت جماعي.

وهذه التهمة مرفوضة لأن المطلوب من التنظيم السياسي لأقلية قومية هو تقوية الأقلية، والحفاظ على هويتها، وتمكينها من الصمود إلى أبعد قدر في ظروف تزداد صعوبة مع ازدياد الفقر والجريمة والعنصرية. وليس المطلوب من هذه الأقلية، وليس بمقدورها، إنقاذ الصهيونية من تبعات سيروراتها الداخلية التي تنزاح يمينا وتُفضي إلى نهايتها المنطقية كمشروع مؤسس على الاستعمار والتفوق العنصري. وليس صدفة أن يقوم دعاة الترانسفير من رحبعام زئيفي إلى إيتمار بن غفير بتذكير ناقديهم الصهاينة أنهم هم الورثة الحقيقيون لتيار مباي وبن غوريون ومؤسسي الدولة. وليس صدفة أن يندثر هؤلاء الذين حاولوا الجمع ما بين الليبرالية والصهيونية.

ليس المقاطعون وناخبو التجمع مسؤولين عن الإعلام الإسرائيلي الذي رعا بن غفير وأمثاله؛ وليسوا مسؤولين عن محاولات لابيد وغانتس المستمرة للتقرب من اليمين المتطرف والعزف على أنغامه مما أدى إلى تقوية اليمين الأكثر تطرفا؛ وليسوا مسؤولين عن اندثار حزب بينيت - شاكيد وميرتس؛ وليس متوقعا منهم أن ينقذوا حكومة فاقت، في غضون سنة واحدة في الحكم، حكومات نتنياهو كلها في معدل بناء المستوطنات وهدم بيوت الفلسطينيين في الضفة الغربية. ومن الغريب، في سياق تحمل المسؤولية، أن مهاجمي ناخبي التجمع والمقاطعين يتناسون أن القائمة المشتركة في انتخابات آذار 2020 حصلت على أفضل نتائجها (15 مقعدا) وقامت بالتوصية على الجنرال غانتس، وهو الذي قاد العدوان الهمجي على غزة في عام 2014، ورغم ذلك كانت النتيجة... قيام حكومة وحدة صهيونية بقيادة نتنياهو.

أوهام التأثير وتبعاته

إن نغمة "التأثير" التي عزف عليها أقطاب القائمة المشتركة منذ قيامها تتماشى مع رغبة التيار الصهيوني الذي يختزلنا إلى احتياطي أصوات لا مفر له من دعمهم. فهي تحوّل الفلسطينيين في الداخل من مجموعة قومية إلى مجموعة ضغط لتحقيق مجموعة من المصالح ("لوبي"). ويعني هذا التحويل محو السياق التاريخي الذي تكونت فيه هذه المجموعة القومية لتصبح مجموعة لها قائمة من المطالب تعلنها لتساوم عليها. ويتجلى ذلك بطبيعة الحال في موضوع التوصية على المرشح المكلف بتشكيل الحكومة. واللوبي كما نعلم هو الردهة حيث يضغط ممثلو المجموعة على صانعي القرار قبل اتخاذهم القرار. ففي حقيقة الأمر، يعرف أقطاب اللوبي أنهم لن يتجاوزوا الردهة إلى غرفة صنع القرار، وأن سقف مطالبهم محدود جدا، ولذا لا تتعدى مطالبهم الأمور المطلبية اليومية كالميزانيات. ذلك أن السقف السياسي محدود من الناحية الدستورية والبنيوية (لا مساواة في دولة يهودية قائمة على التفوق العنصري) ومن ناحية الإجماع الصهيوني (لا حق تقرير مصير للشعب الفلسطيني، ولا دولة، ولا حق عودة، ولا تحرير للقدس الشرقية، ولا وقف للاستيطان، ولا وقف للحصار على غزة، ولا لمّ شمل للعائلات الفلسطينية داخل إسرائيل، ولا حقوق جماعية للمواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، ولا سيطرة لنا على منهاجنا التربوي، ولا تعديل لقانون أساس الدولة القومية للشعب اليهودي، إلخ).

وفي مواجهة هذه الحدود البنيوية، قانونا وإجماعًا، نرى أن القائمة العربية الموحدة تتعايش مع الحدود البنيوية لا تتعداها أو تتحداها (انظروا مثلا تصريحات منصور عباس بخصوص قبول يهودية الدولة، ومثلها تصريحاته في انتخابات سابقة عن وجوب تنازل المقاطعين للانتخابات عن جنسيتهم التي تسمح ببقائهم في وطنهم). ذلك أن منطق التجارة يزدري الشعارات المجرّدة مثل المساواة. فهذه المبادئ، عدا عن كونها "غير واقعية" في نظر التاجر، تشكل عائقا أمام حرية التاجر على المناورة والمساومة. لذا، فإن نقطة الانطلاق عند هذا التيار الاندماجي هي أن العربي غير متساوٍ مع اليهودي، وأن الغالبية اليهودية لن تقبل اعتبارنا متساوين معهم في الحقوق، أو أن نكون جزءًا من إرادة الشعب الذي تعبر عنه الدولة. لذا فإن الاندماج هو اندماج في إطار من الدونية، والواقعية هي رضوخ لعلاقات قوة غير متساوية، والمساومة لا تتعدى استكساب الفتات من موقع القبول بالهزيمة وتكريسها.

وليس الاختلاف بين الجبهة - التغيير والموحدة إلا اختلافا في الدرجة لا النوع، أي أنه اختلاف في الثمن المقبول دفعه لا في المنطق. ونهج الموحدة الحالي هو النهاية المنطقية لنهج القائمة المشتركة. فهذه الهرولة إلى سلوك اللوبي تأتي في نفس الوقت الذي تصعّد فيه منظمات حقوق الإنسان العالمية من نقدها للنظام الإسرائيلي على أنه نظام يعتمد على الفصل العنصري والفوقية اليهودية. فهذه المنظمات تعترف الآن أن انتقاداتها السابقة للممارسات الإسرائيلية، من تمييز عنصري ضد المواطنين الفلسطينيين، واحتلال دائم للضفة، وحصار قاس لغزة، ورفض عودة اللاجئين، لم تكن كافية في تشخيص المشكلة. وذلك لأن مدى بشاعة النظام لا تتجلى عند معاينة هذه الممارسات كل على حدة، بل عند النظر إلى النظام كوحدة لا تتجزأ.

في مثل هذا الوقت بالذات، وعلى خلفية انزياح الخارطة السياسية الإسرائيلية المستمر نحو اليمين وازدياد قوة مستوطني الضفة الغربية، حتى في القضاء، يطلّ علينا تجار السياسة الذين يبشروننا بأنهم يعرفون من أين تؤكل الكتف وأنهم يريدون العنب لا مشاكسة الناطور.

ولكن جماهيرنا جربتهم وسيتضح آجلا أم عاجلا أنّ إنجازاتهم لا تعدو كونها هباء منثورا. ذلك أنهم يرفضون مواجهة الأسباب التي تنتج الظواهر التي تعاني منها جماهيرنا، ومطالبهم لا تتعدى الفروع ولا تعنى بالجذع أو الأصول (ومثال ذلك المطالبة المتكررة باستخدام الشرطة للجم العنف، ولكن تجربة الشعوب في هذا المضمار أثبتت مرة تلو الأخرى أن استخدام القوة لن يحلّ مشكلة العنف والجريمة، بل سيزيد من عدد القتلى. فكم بالحريّ عند الحديث عن شرطة تتعامل مع العرب بمنطق العداء والاستعمار. لذا، فإن مواجهة التربة الاجتماعية التي تنتج العنف، عن طريق الاستثمار في الموارد والتعليم، أهم من القبضة الحديدية على المدى البعيد. ومثل هذا الاستثمار في بناء المواطن الحر والكريم لا يستقيم مع التمييز العنصري الذي يشكل هوية الدولة). لذا لن تنفك هذه الإنجازات، إن تحققت، أن تتلاشى لأنها آنية وهامشية الأثر. كما أن المكاسب ستزداد ضآلة لأن سقف المطالب سينخفض مع انكماش رقعة المناورة بازدياد التطرف الصهيوني. بالمقابل، يدفع دعاة التأثير ثمن شرعنة سياسات الحكومة كافة، بما فيها استشراس الاستيطان والعدوان المتكرر على غزة والضفة. ولا يستطيع هؤلاء أن ينسبوا لأنفسهم الإنجازات فحسب ويتناسوا مسؤوليتهم عن الجرائم التي ترتكب ضد شعبنا، بما في ذلك الهدم المستمر للبيوت والقرى في النقب وغيرها. قد ترتكب الحكومة هذه الجرائم في كل حال، لكن شرعنتها بأصوات عربية يزيدها سوءًا، لأنها توفر الحماية للحكومة من النقد الدولي.

نحو الرفض

صوت الرفض لهذا النهج الذي يمثله التجمع الوطني الديمقراطي، اليوم، هو الوحيد بين التيارات السياسية الذي لا يرى في البرلمان نهاية المطاف ومنتهى الآمال ويصرّح بالتناقض الكامن في تمثيل أقلية قومية في إطار سياسي تنفي فيه الأكثرية وجود الأقلية الجمعي، وتنكر علاقتها بالوطن، وتعزلها عن شعبها، وتقصيها من أمة المواطنين. فقد طالب التجمع طويلا بتأسيس وتنظيم مؤسسات جماعية خارج برلمانية منتخبة. لكن تيار التأثير والاندماج رفض إعادة بناء لجنة المتابعة، وبعد تأسيس القائمة المشتركة همّشها تمامًا. فمؤسسات جمعية من هذا النوع قد تحجّم من انحدار ممثلي هذا التيار وتقيّد قدرتهم على المساومة. ولكن علينا أن نتذكر أن نصف الناخبين العرب لا يمارسون حقهم بالتصويت، رغم نداءات الاستغاثة والاستجداء في مكبرات الصوت في المساجد في ساعات المساء من كل يوم انتخابات. ورغم أن خطاب التأثير بفرعيه التجاريين حصل على ما يقارب الـ370 ألف صوت، إلا أن غالبية شعبنا، بمقاطعيه ومصوّتي التجمع، لا تنطلي عليهم حيلة نهج التأثير ويعرفون إفلاس هذا الخطاب وبؤس هذا الدرب.

ورغم عدم نجاحه في اجتياز نسبة الحسم، فقد أصبح التجمع تجسيدًا لصوت "لا" في وجه تجار السياسة؛ وصوت "لا" في وجه التهافت على الاذدناب للمؤسسة الصهيونية؛ وصوت "لا" في مواجهة التأتأة أمام الهجوم على الهوية القومية؛ وصوت "لا" أمام الانفصال عن قضية الشعب الفلسطيني وتجزئتها؛ وصوت "لا" أمام أدعياء البراغماتية الذين يزدرون المبادئ بلا وازع ويخالفون الثوابت بلا رادع؛ وصوت "لا" في مواجهة التردي في الخطاب السياسي الذي يهمّش القضية الفلسطينية عمومًا ويتنازل عن المطالبة بالمساواة الحقة في دولة المواطنين؛ وصوت "لا" في وجه لاعبي دور "المعتدل" الذين يقبلون وصم من يصرّ على المساواة والانتماء والكرامة بـ"التطرف"؛ وصوت "لا" في وجه الذين يمتطون الوحدة لتوزيع الكراسي فلا يرون من الوحدة الوطنية إلا المحاصصة ولا يقبلونها إلا اضطرارًا؛ وصوت "لا" في وجه من يقبل شرعنة السياسات الصهيونية بأصوات فلسطينية؛ وصوت "لا" في مواجهة اختزال السياسة إلى البرلمان واختزال التأثير إلى التصويت.

وأهمية هذا الصوت، وهذا الرفض، أنّ عددًا كبيرًا من الأقلية الفلسطينية رفضوا ازدواجية الخيار بين نوعين من التجارة (إما "دعم الحكومة من الخارج" أو "دعمها من الداخل من خلال عضوية الائتلاف"؛ إما "تحالف مع الوسط الصهيوني فقط" أو "تحالف، حتى لو مع الشيطان"). بل أصرّوا على دعم هذا الصوت الرافض والمُحتجّ رغم التهويل بالويل والثبور من عواقب الأمور، ورغم التحريض على "المتطرفين" ودعم "المعتدلين". كما رفضوا محاولات الإلهاء بالتحريض والفتنة، بوصم معارضي الهرولة ورافضي الانتهازية على أنهم يدعمون الشذوذ، لكي يغضّ الناخبون البصر عمن شذوا عن الوطنية والأخلاق عندما منحوا ثقتهم لحكومة دنست الأقصى مرارًا، ورفعوا أيديهم دعما لتفكيك عشرات آلاف العائلات العربية بدون وازع ضمير. كلا، لم يتورعوا عن التحريض لكسب الأصوات، ولم ترتعش أيديهم يوم ارتكبوا الموبقات في حكومة دعم الاستيطان، ولم يخجلوا عندما أهملوا المقدسات، ولم ينبسوا ببنت شفة عند العدوان على أبناء شعبهم، ولكنهم يرفعون صوتهم بعد الانتخابات تعنيفًا وتقريعًا لمن رفض نهجهم، ذلك أنهم لا يستطيعون الآن الاستمرار في التجارة والمساومة بعدما أصبحت بضاعتهم بلا مشترين.

التعليقات