19/02/2023 - 11:20

إسرائيل لم تكن يوما ولن تكون بفعل الاحتجاجات "دولة ديمقراطية"

جاءت حكومة نتنياهو السادسة لتعيد المسار الذي دخلته إسرائيل وتعزيز استمرار اليمين بإحكام سيطرته على مفاتيح السلطة، الذي ترسخ منذ أواسط السبعينيات، وإعادته إلى مساره الأصلي بعد أن حقق سيطرة ملحوظة في الحكومة والكنيست.

إسرائيل لم تكن يوما ولن تكون بفعل الاحتجاجات

(Getty Images)

إسرائيل كدولة ونظام جاءت تجسيدا ماديا للفكر الصهيوني وقامت عمليا على قاعدة الاستعلاء والتفضيل العنصري الذي يمثل جوهر الفكر الصهيوني، الذي نشأ في أوروبا، (كما الاستعمار الغربي لشعوب العالم) وفرضت نتائجه الاستعمارية الكارثية على الشعب الفلسطيني.

ويحمل جوهر فكرة "الدولة اليهودية" قيما عنصرية بمفرداتها وقوانينها وممارساتها، ويقوم على التفوق العرقي/ الديني (اليهودي) على "الأغيار" (الغوييم- الأغيار أو غير اليهود)، وعلى الرغم من أن الفكرة قامت على تعابير ومفردات دينية، لكنها حملت ترجمات سياسية وقانونية منذ التطهير العرقي لفلسطين عام 1948 وفي ممارسات الحكم العسكري الذي رسخ فكرة الأبرتهايد وتطبيق القانون وفق الانتماء القومي/ الديني على اليهود و"غير اليهود". وبقيت عناصر هذا التمييز وتبعاته مستمرة في الفترة التي تلت إنهاء الحكم العسكري، وظاهرة للعيان على الرغم من محاولات تغليفها بحقوق مدنية وأساسية لم تتجرأ على المساس بالجوهر القانوني الذي فرضته تطبيقات "الدولة اليهودية" بالفعل (سياسة مصادرة الأراضي، قوانين وسياسات التهويد، قانون العودة وغيرها).

وجاء احتلال باقي الأراضي الفلسطينية عام 67 ليوسع من نطاق الاستعمار والفصل العنصري وممارساته المنافية لكل ما هو ديمقراطي ومخالفة لقواعد القانون الدولي على أنواعه لتصل حد تطوير نظام قانوني واضح المعالم في فلسطين التاريخية بين النهر والبحر على شكل نظام أبرتهايد وتطبيق قوانين وسياسات تفرضها على الشعب الفلسطيني، وتتحكم بها إسرائيل وفق احتياجاتها الأمنية والسياسية.

القضاء جزء من منظومة القمع

وفق تلك الاحتياجات نرى أن السلطة والسيطرة الإسرائيلية وضعت أنظمة قضائية وإجراءات أمنية وقرارات سياسية (بتسميات مختلفة) برزت بأشكال تحكم مختلفة على قطاع غزة الذي أبقت بيدها التحكم الفاعل والكامل بالحصار المفروض عليه، وسياسات التحكم وانظمة التمييز والاقتلاع ضد الفلسطينيين من أهل القدس المحتلة، فيما تم تقسيم الضفة لثلاث مناطق تملك فيها إسرائيل كل الصلاحيات الأمنية، وتركت في جزئها الأصغر بعض الصلاحيات المدنية لسلطة "تحكم" الناس دون أن تملك أي صلاحيات مستقلة فعلية على الأرض، بالإضافة إلى إبقاء مساحة الصلاحيات الأساسية والكبرى لـ"الإدارة المدنية" التابعة لجيش الاحتلال، لتخطط للاستيطان المتزايد، وتهدم للفلسطينيين وفق احتياجات خارطة الاستيطان التي ترسمها وتحددها شهوة التوسع وبرامج "الدولة اليهودية".

وطورت إسرائيل نظاما قانونيا يقوم على التمييز والعنصرية داخل فلسطين 48 بين اليهود والعرب (قانوني مباشر، مثل العودة وحق المواطنة- وقانوني غير مباشر مثل سياسات التهويد، ولجان القبول وتوزيع الأرض، وتمييزا مؤسساتيا مثلما يحصل في الميزانيات وتوزيع الموارد، وممارسات الشرطة ومؤسسات الدولة المختلفة).

ومن أجل تنظيم سيطرتها ونظامها العنصري طورت جهازا قضائيا متطورا يمثل "الدرع الواقي للدولة" (كما أسماه بعض المدافعين عن النظام القضائي)، ومجموعة من القوانين والسياسات التي فتحت مجال التقاضي أمام المؤسسات القضائية في حدود قبول التفوق العرقي واللعب في ملعبه ووفق قواعده المرسومة (المتاحة أمام كل المساحة الجغرافية التي يتحكم النظام بها)، مع وضع ضوابط قانونية لضمان بقاء السيطرة الفعلية لدولة اليهود، وحماية مصالحها الأمنية والسياسية الإستراتيجية، حتى في الحالات التي تم تحقيق "بعض الفوز" التكتيكي في بعض القضايا المتعلقة بالحقوق المدنية والإدارية.

الفاشية أكبر من بن غفير وسموتريتش

استندت كل الممارسات والقوانين العنصرية إلى رأي عام ينحو منذ عقود إلى اليمين، وحتى اليمين الفاشي بخطوات شعبوية متسارعة وواضحة. تمثل نتائج الانتخابات دليلا واحدا عليها، وكانت تمر محطاتها بسيطرة تدريجية لليمين الفاشي والتيارات الدينية الاستيطانية والصهيونية - على أنواعها - على مفاتيح الحكم ومؤسساته في الدولة، والتي هيئت الظروف والمناخ (خلال عدة عقود) لنشوء قاعدة شعبية شعبوية جلبت الحكومة الحالية للحكم، والتي تعتبر التمثيل الأفضل والحقيقي للواقع السياسي والاجتماعي الذي يعيشه المجتمع الإسرائيلي، اليوم.

مع التذكير إلى أن انتخابات تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي كانت خامس جولة انتخابية، جاءت بعد ثلاث جولات فشلت نتائجها بالسماح لأي من الأطراف تشكيل ائتلاف حكومي على الرغم من فوز اليمين بغالبيتها - بسبب الانقسامات الحاصلة داخل "معسكر اليمين"، فيما أدت الانتخابات الرابعة لإنجاب حكومة هجينة مثلت "طفرة" وحالة مؤقتة كمحاولة لإنقاذ إسرائيل من ذاتها ومن تبعات أزمتها - وفق تصريحات قياداتها - وجمعت الحركة الإسلامية مع بينت مدير مجلس الاستيطان، وأييلت شكيد، حلفاء سموتريتش في تلك الجولة الانتخابية، وليبرمان وغانتس مع ميرتس والعمل.

وجاءت حكومة نتنياهو السادسة لتعيد المسار الذي دخلته إسرائيل وتعزيز استمرار اليمين بإحكام سيطرته على مفاتيح السلطة، الذي ترسخ منذ أواسط السبعينيات، وإعادته إلى مساره الأصلي بعد أن حقق سيطرة ملحوظة في الحكومة والكنيست، ومشاركة في مؤسسات الجيش، والإعلام، والمجتمع المدني، ونجاحه في إحداث تغييرات بارزة في تركيبة المحكمة وتمثيل التيار اليميني المحافظ، وحتى الاستيطاني، في المحاكم والجهاز القضائي (عبر صفقات نجحت وزيرة القضاء، شكيد، بعقدها مع رئاسة المحكمة العليا في لجنة تعيين القضاة- حينها).

لقاء المصالح

ويبدو أن اللحظة السياسية التي حملت رئيس حكومة يواجه ملفات فساد ورشاوى مع وزراء من "شبيبة التلال" مدانين بدعم الإرهاب، وآخرين سجناء بتهم الفساد، جمعتهم بتيارات لديها حسابات مفتوحة مع "الوضع القائم"، وترى بالحكومة الحالية (حكومة "يمين كامل")، باعتبارها فرصة تاريخية لتغيير قوانين اللعبة للأبد، وفق رؤيتها السياسية، وخدمة لمصالحها، ومصالح قياداتها، وبرامجها. فالصهيونية الدينية، تريد "حسم الصراع" على الضفة الغربية قانونيا وإنهاء إمكانيات طرح حل الدولتين فعلياً بعد أن حسمته بالاستيطان على أرض الواقع؛ والأحزاب الدينية الحريدية تريد فرض بعض قواعد "دولة الشريعة" الدينية، وتوسيع مساحة سيطرتها على الحيز العام؛ وزيادة الميزانيات للمدارس الدينية الحريدية، ومنع تجنيد أتباعها، وبِن غفير يريد تطبيق قواعد اللعبة التي تربى عليها في شبيبة كهانا وشبيبة التلال، من خلال قوانين الدولة الرسمية وممارساتها، فيما يرى "الشرقيون" في اللحظة مناسبة لتغيير وإنهاء القوانين التي أتاحت استمرار سيطرة الطبقة الأشكنازية على موارد الدولة ومفاتيح القوة فيها، على الرغم من نجاح الشرقيين في بلورة ائتلافات أغلبية (بتحالف مع التيارات الدينية الحريدية وتيارات الاستيطان والصهيونية الدينية) تمكنها من السيطرة الفعلية، مسنودين بنجاح انتخابي واضح، فيما تلاقت كل هذه المصالح مع طبقة سياسية شعبوية متجذرة داخل الليكود، ومصلحة نتنياهو الذي يراها فرصة للإفلات من التهم الموجهة له بالفساد وخيانة الأمانة، عبر تغيير النظام القضائي الذي سيقوم بمحاكمته.

في الوقت ذاته فإن المواطن اليهودي العادي، يرغب في تجسيد الشعور الذي ذوتته الغالبية العظمى من المجتمع الإسرائيلي في داخلها، بأن إسرائيل قد انتصرت، وأن الصراع بين الحركة الصهيونية والحركة القومية العربية قد وصل إلى نهايته بهزيمة الأخيرة، وانتصار الدولة الصهيونية، وبالتالي فقد آن الأوان لترجمة هذه الانتصارات إلى إنجازات على أرض الواقع.

وفي خضم هذا الصراع الداخلي الحقيقي تجندت الطبقة الحاكمة والمتسلطة على مؤسسات الدولة منذ تأسيسها، للدفاع عن مصالحها، وعن وجه "مشروعها" أمام العالم، واستعانت في جهودها، بتشكيل ائتلاف واسع بقيادة أحزابها السياسية، وتجنيد قيادات المؤسسات الأمنية، والقوى الاقتصادية التي شملت رؤساء البنوك وقيادات شركات الاستثمار وصناعات الهايتك المتقدمة، والمؤسسات الأكاديمية والنخب الثقافية، بالإضافة لتجنيد الدعم الخارجي من يهود أميركا، وقيادات سياسية أوروبية ضمن المصلحة "والقيم الليبرالية والعلمانية المشتركة".

العرب خارج "الائتلاف"

هذه الطبقات الأشكنازية التي نجحت بتنظيم حركة احتجاج حقيقية، مدعومة بتنظيماتها الاجتماعية والأهلية الغنية بمواردها وخبراتها، حددت منذ البداية شعاراتها وحدود توقعاتها من الائتلاف، ورسمت سقف مطالبها من الاحتجاجات بالحفاظ على الواقع بقوانينه القائمة ومنع التغييرات المقترحة على النظام القضائي، وبرأسها تعيين القضاة وتقييد المحكمة العليا، والعودة "للقوانين الأساسية" و"وثيقة الاستقلال" باعتبارها قواعد أساسية ضابطة لقوانين اللعبة السياسية والاجتماعية في الدولة، حتى تشكيل الحكومة الأخيرة.

أي أن المطالب لم ترق للمطالبة بتغيير "الواقع" أو تغيير "قواعد اللعبة" بما يغير بجوهر الدولة، ولا حتى بمستوى الحقوق الفردية أو الجماعية. أي أنها اكتفت بحماية "الإنجازات" والتمسك بالجوهر التمييزي للدولة اليهودية القائمة منذ 48. بل ومنعت حتى، بتصريحات قيادتها رفع شعارات تتجاوز المطالب المدنية، وسقف المطالب الذي حددته كشرط لمشاركة "عرب إسرائيل" بوصفهم مواطني إسرائيل ومتضررين من التغييرات المقترحة، لا كشركاء متساويين يمكنهم طرح سقف نضالي مختلف، يتطرق لجذور القضية ومسبباتها الحقيقة - وجندت الإعلام لكبت أي حديث عن ارتباط التمييز في القضايا المدنية بالظلم التاريخي الحاصل على الشعب الفلسطيني بأسره، أو الحديث بأن "شعار المساواة المدنية" تم انتهاكه على يد الحكومات المتعاقبة منذ قيام الدولة، لا منذ تولي نتنياهو وسموتريتش سدة الحكم!

ولم تترك قيادة الاحتجاج أي فرصة إلا وتحدثت ضد رفع العلم الفلسطيني باعتباره "مسيئا للاحتجاج وأهدافه"، وأن لا علاقة للاحتلال بمظاهراتها "لحماية المحكمة العليا"، وأن "الوقت غير ملائم لانتقاد المحكمة والجهاز القضائي". وتعاملت تلك القيادات باستعلاء قومي معهود حتى مع المشاركين من "عرب إسرائيل" باعتبارهم الاحتياط لأجنداتها، لا كشركاء لها، ولذلك رأت بأعضاء الكنيست العرب، وبضمنهم من شاركوا ويرغبون بالمشاركة بالاحتجاج لأسباب إيديولوجية وسياسية، تابعين واحتياط، لا كشركاء متساوين في صياغة الشعار ورسم السقف السياسي لتلك الاحتجاجات.

باختصار حول بعض المرجعيات المؤسسة للاحتجاج

العودة لقيم "وثيقة الاستقلال" كقيم موجهة للاحتجاج، هي تماما كما هو الحال بالعودة اليها في القوانين الأساسية للدولة، أي باعتبارها قيما قاعدية ومؤسسة، فيما ينظر إليها الفلسطيني باعتبارها تجسيدا للنكبة المستمرة، وتأسيسا لقبول نتائجها والتصرف بدونية وقبولا للاستعلاء القومي الذي يعانيه في كل مناحي الحياة.

و"الثورة القضائية" المقترحة على المحكمة العليا والجهاز القضائي، ليست إلا استمرارا لدور هذا الجهاز وهذه المحكمة التي لعبت دور "الدرع الواقي للدولة" والمبرر لكل جرائمها تجاه الشعب الفلسطيني أمام العالم. هذه المحكمة التي تبنت ما يسمى إسرائيليا "الأمن القومي"- وشرعت بموجبه انتهاكات القانون الدولي ومواثيق "حقوق الإنسان"، حين رأت ضرورته لاستمرار "الطابع اليهودي للدولة"، مشرعة استمرار العنصرية وجرائم الحرب "لاعتبارات أمنية". والمحكمة العليا هي ذاتها التي شرعت تشتيت العائلات بمسميات قانون منع لم الشمل، وإقامة الجدار العنصري، وإلقاء قنبلة بوزن طن على بيت في غزة، وشرعت الإبعاد والاستيطان، وبررت ترحيل القرى العربية في النقب لإقامة المزارع والبلدات اليهودية، ومصادرة الأرض وتهويد الجليل، والهدم في المثلث، وتجريف المقابر لإقامة المتاحف!... وقائمة قرارتها لتبييض صفحة الاحتلال ووجهه تطول وتطول. ولكن باختصار كانت ولا زالت المحكمة هي الأداة الطيعة بيد النخبة (الأشكنازية) الأكثر فاعلية لتبرير العدوان على حقوقنا المدنية الفردية والوطنية الجمعية على السواء.

الغائب الحقيقي

ومما لا شك فيه يبدو وسط هذا الاحتجاج التأثير الواضح لغياب المشروع الوطني الشامل، الذي يعالج المرحلة وتحدياتها بمبادرات تفتح النقاش ومشاركة الناس آرائها والقيام بخطوات حقيقية تشمل الفعل ورد الفعل، دون أن تغيب الرؤية الوطنية بعيدة المدى، مما يفتح الباب أمام مواقف وبرامج تخترق المجتمع الفلسطيني تحت سقف إسرائيلي متماثل مع رغبات قيادة الاحتجاج (في الداخل، وعموم الشعب الفلسطيني) مسنودة بتحاليل وتقييمات المصلحة اللحظية والحزبية الضيقة.


التعليقات