26/03/2023 - 14:50

قاموس إسرائيلي مستجد

الشرخ المجتمعي والسياسي العميق الذي كشفته الاحتجاجات الأخيرة لن يندمل في الوقت القريب، إذ إن الصراع ليس على الديمقراطية والنظام السياسي فحسب، بل على قيادة المشروع الصهيوني في المرحلة المقبلة.

قاموس إسرائيلي مستجد

مظاهرات تل أبيب، أمس السبت (Getty Images)

دخل أخيرًا للقاموس الإسرائيلي المستجد مصطلحان يجري تداولهما في النقاش السياسي الدائر حول التغييرات القضائية، وهما "الانقلاب العسكري" و"إخفاق 1973"، وقد جرى استخدامهما في السابق لكنهما يستحدثان في الأسابيع الأخيرة، وذلك فيما يذهب البعض، عربيًا تحديدًا، إلى حد المبالغة عند الحديث عن "حرب أهلية" في إسرائيل، وكذلك الحديث عن "دولة عميقة".

لا توجد ومن المستبعد أن تقع في إسرائيل حرب أهلية بالمعنى المعهود، إذ غالبًا ما تحصل هذه الحروب في دول فاشلة، أي غير قادرة على حماية سيادتها وأمنها، خارجيا وداخليا. فإسرائيل دولة مؤسسات راسخة، وجيشها وأجهزتها الأمنية توفر الأمن للدولة والمواطنين، فحتى أولئك المتمردين من الاحتياط في الجيش، سيلتزمون بالخدمة في ساعة الجد. لا تشكيك في ذلك إسرائيليًا.

ولا توجد "دولة عميقة" في إسرائيل، فهذا ادعاء اليمين الشعبوي الذي يروج لنظريات مؤامرة كأن الجيش والمحكمة العليا يديران الدولة. في إسرائيل مؤسسات بيروقراطية تخضع للحكومة، وجهاز قضائي مستقل، لكنه لا يتدخل بشؤون إدارة الدولة بشكل عام. الدولة العميقة هو مصطلح أطلق على هيمنة الجيش في تركيا في النصف الثاني من القرن الماضي، بحيث كان بمقدوره إسقاط حكومات وتغلغل في مفاصل الدولة إلى حد كبير.

في موازاة "الدولة العميقة" التي يروج لها اليمين الشعبوي، يجري استخدام مصطلح "حراس العتبة" ("شومري هساف" في العبرية)، مراقب الدولة والمستشارين القضائيين في الحكومة وباقي المؤسسات، حتى في السلطات المحلية، ووظيفتهم منع سوء الإدارة والفساد، وضمان سلامة الإجراءات القانونية والإدارية. في الدولة الديمقراطية هؤلاء هم "حماة الديار"، بالإضافة إلى الإعلام والمجتمع المدني وغيرهم.

أما في ما يخص "الانقلاب العسكري" الذي يروج له أنصار نتنياهو واليمين، فيقصد به موقف الأجهزة الأمنية بما فيه الجيش تجاه "الإصلاحات القضائية"، كما عبر عنه أمس السبت وزير الأمن (حاليًا!) يوآف غالانت. فموقف الأجهزة الأمنية والجيش ليس موقفًا إيديولوجيًا لجهة الديمقراطية، بل هو نتيجة حالة تمرد أو عصيان بدأت من القاعدة وصعدت إلى القيادة، والقاعدة هي عناصر في قوات الاحتياط يرفضون تأدية خدمة الاحتياط احتجاجًا ورفضًا للتغييرات القضائية، ومن بينها قاعدة مركزية وأساسية مهمة، عناصر سلاح الجو والاستخبارات العسكرية، أي فرق النخبة، إذ يقوم هذا الجيش على قدمين، الاستخبارات العسكرية وسلاح الجو، الأول معلوماتي استخباري والثاني سلاح هجومي، وهذان يقعان في لب العقيدة الأمنية الإسرائيلية منذ وضعها دافيد بن غوريون: حرب استباقية في أرض العدو (معلومات استخبارية دقيقة ومسبقة) وتحسم بسرعة (التفوق الجوي الهجومي).

لا شك في أن هذا التمرد والعصيان في صفوف فرق النخب يقلق قيادة الجيش، والتي تخشى من تغلغل وانتشار ذلك في صفوف القوات النظامية وحدوث انقسام بين الجنود تجاه الخطة القضائية. كما تخشى من الإضرار في أداء الجيش نتيجة العصيان عن تدريبات الاحتياط وتحديدًا في سلاح الجو.

ودفعت هذه الأجواء معظم قادة الأجهزة الأمنية ورؤساء الأركان السابقين إلى إعلان مواقفهم، صراحة وعلانية، الرافضة للخطة القضائية، لخطورتها على وحدة النسيج المجتمعي والعسكري، ووضعوا كل ثقلهم وتاريخهم الأمني في ما يمكن تسميته مجازًا بـ"انقلاب مضاد" على الانقلاب القضائي كما يرونه. وهذا لا يعني إنزال الدبابات إلى الشوارع ومحاصرة مقر الحكومة، بل حشد الرأي العام عبر الإعلام والمشاركة في المظاهرات اليومية.

وقد سبق في إسرائيل الحديث عن "انقلاب هيئة الأركان" في أعقاب حرب حزيران/ يونيو 1967.

أما "إخفاق 1973"، فيقصد به ما وصلت إليه لجنة أغرانات للتحقيق في ما يسمى إسرائيليا إخفاق حرب "الغفران" في العام 1973، وهو إخفاق نتيجة سوء تقييم للمعلومات الاستخبارية قبل الحرب، والتي توفرت من مصادر متعددة عن نوايا مصر، والإصرار على الاعتقاد بأن مصر لن تبادر إلى الحرب بعد هزيمة 1967، وليس بمقدورها هزيمة إسرائيل، وكذلك بما يتعلق بفشل الهجوم الإسرائيلي المضاد في سيناء، في الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر ذاك العام.

ومؤخرًا استخدم هذا المصطلح رئيس شعبة الاستخبارات العسكرية السابق، عاموس يدلين، في مقال حذّر فيه من "إخفاق" شبيه ولجنة تحقيق ستحمّل بنيامين نتنياهو المسؤولية عن الفشل الاستخباري والعسكري، نظرًا لما يراه أخطار أمنية راهنة، وتأثر جهوزية الجيش نتيجة الانقسام تجاه الخطة القضائية. وذهب محللون عسكريون للادعاء بأنه من وراء دعوة غالانت لوقف تشريع الخطة القضائية، إنذارات أمنية واقعية من تصعيد محتمل في عدة جبهات، أو ما أطلقوا عليه "معركة متعددة الجبهات"، خصوصًا بعد عملية مجدو و"الرد الإسرائيلي المؤجل" حتى الآن، الذي قد يتسبب بفتح جبهة شمالية تلتحق بها الجنوبية بالإضافة للتصعيد الحاصل في الضفة الغربية والقدس. وأكثر ما يقلق إسرائيل في الحروب هو جبهتها الداخلية وجهوزيتها للقصف الصاروخي نتيجة مساحتها الضيقة جغرافيا، لينضاف إليها خطر لم يكن بالحسبان، وهو الانقسام أو الشرخ المجتمعي طويل الأمد.

لا يمكن التكهن بما ستؤول إليه التطورات في إسرائيل، فنتنياهو ماضٍ حتى اللحظة نحو تشريع قانون لجنة اختيار القضاة بحيث يسيطر عليها الائتلاف، وهو محاصر من اليمين بأعضاء كنيست من الليكود وشركائه في الائتلاف من جهة، ومحاصر من الشخصيات الأمنية والعسكرية وكذلك الاقتصادية من جهة أخرى، بالإضافة للموقف الدولي الغربي. لكن شيئًا مؤكدًا هو أن الشرخ المجتمعي والسياسي العميق الذي كشفته الاحتجاجات الأخيرة لن يندمل في الوقت القريب، إذ إن الصراع ليس على الديمقراطية والنظام السياسي فحسب، بل على قيادة المشروع الصهيوني في المرحلة المقبلة.

التعليقات