31/10/2010 - 11:02

خبرات المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية وتعقيداتها../ ماجد كيالي

خبرات المفاوضات الفلسطينية ـ الإسرائيلية وتعقيداتها../ ماجد كيالي
أخيرا ظهرت بعض التوضيحات بشأن الاجتماع الدولي، الذي دعت لانعقاده الولايات المتحدة الأمريكية، لإطلاق عملية جديدة للمفاوضات بين الإسرائيليين والفلسطينيين. فالاجتماع سينعقد في أنا بوليس (ولاية ميريلاند)، أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، أو في الشهر الذي يليه، وسيبحث في شكل التسوية المقبلة للقضايا التفاوضية: القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات والترتيبات المائية والأمنية والاقتصادية، في استجابة للمطالب الفلسطينية، ولمطالب العديد من الأطراف الدولية والإقليمية، دون أن يعني ذلك البحث في تفصيلات هذه القضايا، أو في وضع جداول زمنية، في استجابة للمطالب الإسرائيلية، علما أن "الشيطان" يكمن في تلك التفاصيل، كما تفيد التجربة التفاوضية بين الطرفين.

أيضا تفيد التجربة التفاوضية برفض إسرائيل لتدخل أي طرف بشأن مفاوضاتها مع الفلسطينيين، من الأمم المتحدة إلى أوروبا، وحتى أنها مانعت عديدا من التدخلات الأمريكية، التي كانت تجد أنها لا تتلاءم مع تعريفها لأوضاعها ومصالحها. وفي كل ذلك كان الفلسطينيون عرضة لاستفراد إسرائيل، وتحت رحمة ابتزازاتها، فهي التي تقرر ما تعطيه وما لا تعطيه، وما تبحثه أو ما لا تبحثه في المفاوضات؛ فليس ثمة مرجعية قانونية أو دولية، بالنسبة لإسرائيل.

ومن خبرة الفلسطينيين فإن إسرائيل مجنونة بالتفاصيل التفاوضية، بحيث أنها استطاعت تحويل عملية التسوية إلى متاهة يصعب التحرك في دهاليزها، كما يصعب الخروج منها، ودليل ذلك أن هذه التسوية التي يفترض أنها تتطلب إنهاء الاحتلال للضفة والقطاع (نقطة وانتهى)، إذ بها تتطلب مئات من صفحات من اتفاقات ومذكرات وبروتوكولات، ومئات من المفاوضين، والجلسات التفاوضية الطويلة، الثنائية والمتعددة والدولية! وحتى في تفصيل واضح مثل الإفراج عن الأسرى الفلسطينيين، ثمة تصنيف لهؤلاء فثمة من يده نظيفة (إذا لم هو معتقل؟!) وثمة من أيديهم ملطخة بالدماء، وثمة من قاربت فترة سجنهم على الانتهاء وثمة جدد، من دون أن يسأل أحد مثلا عن جدوى هذه التصنيفات طالما أن هؤلاء أسروا على ذمة كفاحهم ضد الاحتلال، علما أن إسرائيل تعتقل يوميا العشرات.

وبالنسبة للأراضي فقد باتت الضفة الغربية في اتفاقات اوسلو (1993) مقسمة إلى مناطق (أ، ب، ج)، وكل منطقة ثمة بروتوكول خاص بها، وثمة أراض فيها مصالح إسرائيلية أمنية أو مائية أو دينية. وبالنسبة للمستوطنات ثمة كتل استيطانية، ومستوطنات أمنية، وأخرى عشوائية، ومستوطنات شرعية وغير شرعية!، من دون أن ندخل إلى قضايا تبدو مستحيلة كقضيتي القدس واللاجئين.

ومن خبرة الفلسطينيين في المفاوضات السابقة أن إسرائيل تتعمد شراء الوقت، وأنها لا تيأس من توليد الاتفاق تلو الاتفاق، والمذكرة تلو الأخرى، والبروتوكول بعد البروتوكول، حول أي قضية، في حين أنها طوال ذلك تتصرف وكأن وجودها الاحتلالي باق إلى الأبد في هذه الأراضي، بدليل مضاعفة المستوطنين والمستوطنات منذ انطلاق عملية المفاوضات (مطلع التسعينيات)، في الضفة الغربية ولاسيما في منطقة القدس، وبدليل تغيير معالم هذه المناطق من خلال شق الطرق الالتفافية والأمنية وإقامة المعابر، على خلافها، وتشييد الجدار الفاصل، الذي يعزل المناطق الفلسطينية ويطوقها من كل جانب، ويفصل أي تواصل بينها.

وبحسب التجربة التفاوضية فإن إسرائيل هي التي عوّقت هذه العملية، وتملصت من استحقاقاتها (أكثر بكثير من الفلسطينيين)، رغم كل الإجحاف الكامن فيها بالنسبة لحقوق الفلسطينيين؛ على خلاف الانطباع السائد، في الساحة العربية، بأن إسرائيل تلهث وراء التسوية، وأن هذه التسوية (على علاتها) مطلب إسرائيلي، ما يؤكد الطابع الملتبس والإشكالي للموقف الإسرائيلي، في هذه القضية.

وما يؤكد ذلك أنه ولا حكومة إسرائيلية، لا العمل ولا الليكود ولا كاديما، استطاعت أن تحقق إنجازات حقيقية للانفصال عن الفلسطينيين، وتمكينهم من الاستقلال وإقامة دولتهم المستقلة، بغض النظر عن حجمها، ومستوى سيادتها، برغم أن مختلف الأطراف السياسية المؤثرة في إسرائيل باتت تجمع على ضرورة الانفصال عنهم، وإتاحة المجال أمامهم لإقامة دولتهم. وسبب هذا التمنّع حقيقة هو الخلاف بين الإسرائيليين على المقابل المتوجّب انتزاعه من الفلسطينيين، إن بالنسبة لحجم الأراضي التي يمكن أن تنسحب منها، وبشأن ماهية الحل المتعلق بقضيتي القدس واللاجئين والعلاقات المستقبلية الثنائية.

ويمكن ملاحظة ذلك بسهولة. فإسرائيل في ظل شامير عارضت مؤتمر مدريد (1991)، وهي شهدت مصرع واحد من أهم رؤساء حكوماتها، وهو اسحق رابين(1995)، على يد متطرف إسرائيلي، لكونه وقع اتفاقا للتسوية مع الفلسطينيين.

وعندما تبوأ بيريز مكانه لم يستطع الحسم في عملية التسوية، وتوجه نحو انتخابات مبكرة (1996)، جلبت بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة، حيث ضيّع ثلاثة أعوام من عمر التسوية في التملصات (1996ـ1999). وحتى عندما وقع نتنياهو مذكرة "واي ريفر" (1998)، المتضمنة انسحابا إسرائيليا متفاوتا من 13 بالمئة من مساحة الضفة، اضطر تحت ضغط المعارضة للتوجه لانتخابات مبكرة أخرجته من الحكم.

وبعده، جاء ايهود باراك الذي طلع ببدعة التحول للمفاوضات على قضايا الحل النهائي، قبل أن تفي إسرائيل بتنفيذ استحقاقات المرحلة الانتقالية، في مراوغة منه للتملص من هذه الاستحقاقات، وتحميل المسؤولية للفلسطينيين. ومعلوم أن هذه السياسة، المدعومة من إدارة كلينتون، أدت إلى إطلاق مفاوضات كامب ديفيد2(2000)، في ظروف غير مواتية، وبشروط وطروحات إسرائيلية، ما أدى إلى تقويض الثقة بين الطرفين، ومن ثم تحول الفلسطينيين نحو الانتفاضة.

وبعد ذلك جاء شارون ليحرر إسرائيل من استحقاقات اتفاق اوسلو، وحتى من تأثيرات خطة "خريطة الطريق" (2003)، بدعوى الانتفاضة والمقاومة ومحاربة الإرهاب. ثم انتقل شارون في أواخر حياته السياسية إلى خطة الانسحاب من طرف واحد من قطاع غزة (2005). وبعد ذلك جاءت حكومة كاديما والعمل، على خلفية انقسامات وتحولات في حزبي الليكود والعمل، حيث طرحت هذه الحكومة فكرة الانسحاب الأحادي من الضفة الغربية (بحسب الرؤى الإسرائيلية)، ثم ما لبثت أن طويت اثر إخفاق حرب لبنان (2006)، لصالح استئنافها، من خلال إيجاد شريك فلسطيني.

في إطار هذه المسيرة لا يبدو أن ثمة مجال لمراهنة فلسطينية على نتائج الاجتماع الدولي، فالظروف الأمريكية والدولية، والتجاذبات الإقليمية الشرق أوسطية، والوضع الداخلي لدى الإسرائيليين والفلسطينيين، لا يشجع على ذلك.

في الحقيقة ثمة ثغرات عديدة تعتور المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية، أهمها، أولا، غياب للتكافؤ في القوى بين الطرفين، لصالح إسرائيل، التي تسيطر على الأرض وتتحكم بمناحي الحياة لدى الفلسطينيين. وبديهي أن هكذا تسوية ستكون مختلة، وغير متوازنة وغير عادلة، ولن تلبي حقوق الفلسطينيين، النسبية طبعا. ثانيا، أن هذه المفاوضات تتم في معطيات دولية وعربية مواتية لإسرائيل، خصوصا في ظل هيمنة الولايات المتحدة على النظام الدولي، وحال العطب والتشتت في النظام العربي، ومناخات الحرب الدولية ضد الإرهاب؛ حيث نجحت إسرائيل إلى حد ما في الخلط بين المقاومة المشروعة ضدها وبين العمليات الإرهابية، خصوصا على المستوى الدولي. ثالثا، أن إدارة الفلسطينيين لهذه المفاوضات تعتورها عديد من النواقص، ضمنها تخلف الإدارة، وضعف مستوى التنظيم، والطريقة الفوقية لصنع القرارات، والانقسام الداخلي، وغياب حالة من الحراك في حقل التفكير السياسي، التي يمكن تولد الأفكار والشعارات السياسية وأن ترشّد العملية التفاوضية، بين مسائل أخرى.

وباختصار فإن هذه المفاوضات التي لا تعترف فيها إسرائيل بمكانتها كدولة استعمارية محتلة، ولا بأية مرجعية دولية وقانونية، وحيث تتمتع بتفوق في القوى، وتسيطر على الأرض وعلى حياة الفلسطينيين، الذين يعيشون تحت رحمة إسرائيل والدول المانحة، هذه المفاوضات لا يمكن أن تجلب سلاما، ولا حتى تسوية متوازنة ونسبية، ولكنها يمكن أن تقدم مجرد تسوية جزئية ومؤقتة وسطحية، هكذا وفقط.

التعليقات