30/03/2023 - 13:30

الخروج من الغرف الصدويّة

نتوقّف في مرحلة ما عن سماع آراء جديدة، لا نعود بعدها قادرين على الثقة بها، وهو ما يوقعنا في شرك شباكنا المعلوماتيّة الشخصيّة، والتي تتحوّل إلى مبنى عقائديّ مغلق

الخروج من الغرف الصدويّة

(Getty)

مقدّمة المترجم:

صارت مواقع التواصل الاجتماعيّ مؤخّرًا ملجأ للناس لتبادل الآراء وللاطّلاع على الأخبار والأفكار، ولم تعد، كما كانت مسبقًا، ميدانًا ثانويًّا، بل صارت مكانًا محوريًّا للترويج للدعايات السياسة وما يتفرّع عنها، وشكّلت في كثير من الحالات مجالًا عامًّا للناس، حسب تعريف هابرماس، وهو ما عنى أيضًا استخدامها في الدعاية والدعاية المضادّة. يتناول كاتب هذه المقالة، والتي ترجمتها عن الإنجليزيّة، بعض المصطلحات المهمّة في هذا الفضاء الرقميّ، مبتدئًا بـ «الغرف الصدويّة»، والتي تحمل معناها في اسمها، وهي المكان الّذي لا تسمع فيه إلّا صدى لصوتك أو أفكارك او معتقداتك، مشيرًا بذلك تلك الغرف المجازيّة التي نعيش فيها ونحن محاطون بأشخاص وأصدقاء وقادة يحملون أفكارًا تشبه أفكارنا، وتهاجم أيّ أفكار أخرى، وتضرب في جذور الثقة بالمصادر المعرفيّة المختلفة عنّا. يقول بعض الناس أنّنا نعيش في عالم «ما بعد الحقيقة»، قاصدين بذلك أنّ الناس لم يعودوا يهتمّون بالحقيقة، وعلى رغم من دقّة اجتراح المصطلح، إلّا أنّ علينا البحث في أسباب ظهوره، بحيث لجأت الدول والكيانات السياسيّة إلى استخدام الروبوتات والذباب الإلكترونيّ لإغراق الإنترنت بالموادّ العلميّة (اللاعلميّة) والمعلومات والأخبار التي تضرب ثقة المجتمعات ببعضها البعض وبمصادر المعلومات خالقة ما يعرف بحالة «الشكّ الهدّام»، بحيث لا يعود الإنسان قادرًا على تصديق أيّ شيء، إلّا من مصادره الداخليّة، وينبني هذا الشكّ الهدّام على نشر القصص الكاذبة والأخبار الزائفة والمعلومات المضلّلة، والتي تستنزف قدرة الناس على المعالجة، وتقتل قدراتهم على التصديق. يأخذني هذا إلى اقتباس لا أذكر مصدره، ويقول إنّ الاختلاف على الآراء أمر صحّيّ ومطلوب، ولكن حين نختلف حول الحقائق، فهنا تكمن المصيبة، حيث وحين يختلف البشر على الحقائق، يزيد الانقسام بينهم لغياب أيّ أرض مشتركة، ويصير الناس يرون بعضهم بعين العداوة بدلا من النديّة المطلوبة.

***

نلاحظ مؤخّرًا أنّ خللًا قد أصاب تدفّق المعلومات، ولا يقتصر الأمر على أنّ الناس صاروا يستخلصون استنتاجات مختلفة ببراعة من الأدلّة نفسها، بل يبدو أنّ المجتمعات الفكريّة المختلفة لم تعد تتشارك المعتقدات الأساسيّة، وربّما لا يهتمّ أحد حيال الحقيقة من الآن فصاعدا، وهو ما يثير قلق البعض. لعلّ الولاءات السياسة حلّت محلّ مهارات التفكير النقديّ الأساسيّة، وربّما صرنا جميعًا محاصرين في غرف صدويّة من صنعنا، حيث نلّف أنفسنا بطبقة لا يمكن اختراقها فكريًّا من الأصدقاء وصفحات الويب وموجزات الوسائط الاجتماعيّة المتشابهة.

ولكن توجد ظاهرتان مختلفتان للغاية تؤدّيان دورهما في هذه المشكلة، وكلّ منها تعمل على تخريب تدفّق المعلومات بطرق مختلفة جدًّا، ودعونا نسمّيهما الغرف الصدويّة والفقّاعات المعرفيّة. كلاهما هياكل اجتماعيّة تستبعد مصادر المعلومات استبعادًا منهجيًّا، وتزيدان من ثقة أعضائهما في معتقداتهم، ولكنّهما تؤثّران بطرق مختلفة تمامًا، وتتطلّبان أنماطًا مختلفة جدًّا من التدخّل، إذ تتولّد الفقّاعة المعرفيّة عندما لا تسمع أشخاصًا يحملون وجهة النظر الأخرى، أمّا الغرف الصدويّة، فتتولّد عندما لا تثق بأشخاص يحملون وجهة النظر الأخرى.

لقد طمس الاستخدام الحاليّ _للمصطلحين_ هذا التمييز الجوهريّ بينهما، لذا اسمحوا لي أن أقدّم تصنيفًا مصطنعًا إلى حدّ ما للإشكاليّة بين أيدينا. تعرف «الفقّاعة المعرفيّة» على أنّها شبكة معلوماتيّة تستبعد فيها الأصوات ذات الصلة عن طريق الإغفال، والّذي قد يكون هادفًا: أن نتجنّب بشكل انتقائي الاتّصال بآراء مخالفة لأنّها، على سبيل المثال، تجعلنا غير مرتاحين. ويأتي هذا، كما يخبرنا علماء الاجتماع، لأنّنا نودّ انتقاء ما نتعرّض له من آراء، ولأنّنا نبحث عن المعلومات التي تؤكّد وجهة نظرتنا للعالم. لكنّ هذا الإغفال يمكن أن يكون أيضًا غير مقصود تمامًا، حتّى لو لم نحاول بنشاط تجنّب الخلاف، يميل أصدقاؤنا على الفيسبوك إلى مشاركة وجهات نظرنا واهتماماتنا. عندما نوظّف شبكات مبنيّة لأسباب اجتماعيّة، ونبدأ في استخدامها لتغذية معلوماتنا، فإنّنا نميل إلى تفويت وجهات نظر معاكسة، ونواجه درجات اتّفاق مبالغ فيها.

وتعرف «الغرفة الصدويّة» على أنّها بنّيّة اجتماعيّة تشوّه فيها سمعة الأصوات الأخرى ذات الصلة، وعندما تغفل الفقّاعة المعرفيّة وجهات النظر المتعارضة، تجعل الغرفة الصدويّة أعضاءها لا يثقون في الغرباء. تقدّم كاثلين هول جاميسون وفرانك كابيلا في كتابهم «الغرف الصدويّة: رشّ ليمبو ومؤسّسة الإعلام المحافظ (2010)»، تحليلًا رائدًا لهذه الظاهرة، بحيث تصير الغرفة الصدويّة من وجهة نظرهم مثل عقيدة دينيّة مغلقة تعزل أعضاءها عبر إبعادهم عن أيّ مصدر معلومات خارجيّ، ويوصف أولئك الخارجيّون على أنّهم خبثاء وغير جديرين بالثقة، وبذا يضيق أفق ثقة الشخص، وذلك لدفعه للتركيز على بعض الأصوات الداخليّة فقط.

في الفقّاعات المعرفيّة، لا تسمع أصوات أخرى، وفي الغرف الصدويّة، تقوّض الأصوات الاخرى بنشاط. لا تكون طريقة اختراق الغرفة الصدويّة عبر تلويح الحقائق في وجه أعضائها، بل عبر مهاجمة الغرف من جذورها وعبر إصلاح الثقة المهدومة.

(Getty)

ولنبدأ بالفقّاعات المعرفيّة وببعض الكتب المهمّة المنشورة حول الموضوع وأهمّها كتّاب إيلي برايزر «فقّاعة الفلتر (2011)»، وكتاب كاس سنستاين «#الجمهوريّة: الديمقراطيّة المقسّمة في عصر مواقع التواصل الاجتماعيّ (2017)»، والتي تدور رحاها حول هذه الفكرة: نحصل على الكثير من أخبارنا من الفيسبوك ووسائل التواصل الاجتماعيّ. وتحتوي صفحتنا الرئيسة على فيسبوك في الغالب على منشورات من أصدقائنا وزملائنا، ومعظمهم يشاركوننا وجهات نظرنا السياسيّة والثقافيّة، ونزور المدوّنات والمواقع المفضّلة لدينا ذات التفكير المماثل. تعمل الخوارزميّات المختلفة، في الوقت ذاته، والموجودة خلف الكواليس، مثل الموجودة في محرّك بحث غوغل، على تخصيص عمليّات البحث تخصيصًا غير مرئيّ، ممّا يزيد من احتماليّة رؤية ما نريد رؤيته فقط. كلّ هذه العمليّات تفرض عوامل تصفية (فلترة) على المعلومات.

هذه المرشّحات (الفلاتر) ليست سيّئة بالضرورة، فالعالم يحشد بالمعلومات، ولا يمكن للمرء أن يفرزها كلّها بنفسه، وعلى كلّ حال تحتاج المرشّحات إلى الاستعانة بمصادر خارجيّة، ولهذا نعتمد جميعًا على الشبكات الاجتماعيّة عامّة لتزوّدنا بالمعرفة. لكن أيّ شبكة معلومات من هذا القبيل تحتاج إلى النوع الصحيح من الاتّساع والتنوّع لتكون صحّيّة. فشبكة اجتماعيّة مؤلّفة بالكامل من عشّاق الأوبرا الأذكياء والمهووسين ستقدّم لي كلّ المعلومات التي يمكن أن أريدها حول عالم الأوبرا، لكنّها ستفشل في أن تدلّني على حقيقة أنّ بلدي، على سبيل المثال، قد اجتاحته موجة متصاعدة من النازيّين الجدد. قد يكون كلّ فرد في شبكتي موثوقًا به تمامًا بشأن رقعة المعلومات المختصّ بها، ولكن، كهيكل جماعيّ، تفتقر شبكتي إلى ما يسمّيه سانفورد جولدبيرج في كتابه «الاعتماد على الآخرين (2010)» بـ «موثوقيّة التغطية». إذ لا تقدّم لي شبكة الأوبرا الاجتماعيّة تغطية واسعة وتمثيليّة بما فيه الكفاية لجميع المعلومات ذات الصلة.

وتهدّدنا الفقّاعات المعرفيّة بخطر ثان: الثقة المفرطة بالنفس، حيث نواجه في الفقّاعة كمّيّات كبيرة من الاتّفاق ومستويات مكبوتة من الخلاف. نكون ضعافًا لأنّنا، بشكل عامّ، لدينا في الواقع سبب وجيه للغاية للاهتمام بما إذا كان الآخرون يوافقوننا أو يختلفون معنا. يعتبر البحث عن الآخرين لتأييدنا طريقة أساسيّة للتحقّق ممّا إذا كان المرء قد فكّر جيّدًا أو لا. هذا هو السبب في أنّنا قد نقوم بفروضنا في مجموعات الدراسة، ولدينا مختبرات مختلفة لتكرار التجارب، ولكن ليست كلّ أشكال التأييد مفيدة، إذ يقول لودفينغ فيتغنشتاين: تخيّل قراءة كومة من الصحف المتطابقة والتعامل مع كلّ عنوان من عناوين الصحف على أنّه سبب آخر لزيادة ثقتك بنفسك. هذا خطأ قاتل. حقيقة أنّ نيويورك تايمز ذكرت شيئًا ما يعدّ سببًا لتصديقه (لموثوقيّة الصحيفة)، لكن أيّ نسخ إضافيّة من الأخبار حول هذا الموضوع من صحيفة نيويورك تايمز لا ينبغي أن يكون دليلًا إضافيًّا على هذا الأمر.

لكنّ النسخ الصريحة دون تعديل لا تعدّ المشكلة الوحيدة هنا. لنفترض أنّني أعتقد أنّ نظام «باليو» الغذائيّ هو أعظم نظام غذائيّ في العصور كلها. ورحت، فرضا، وأنشأت مجموعة على فيسبوك تسمّى «حقائق صحّيّة عظيمة!» ولم أضف إليها إلّا الأشخاص الّذين يعتقدون بالفعل أنّ «باليو» هو أفضل نظام غذائيّ. حقيقة أنّ الجميع في تلك المجموعة يتّفقون معي بشأن «باليو» لا ينبغي أن تزيد من مستوى ثقتي بأنّ هذا النظام هو الأعظم. فهؤلاء الناس ليسوا إلّا نسخًا، وربّما توصّلوا بالفعل إلى استنتاجاتهم بشكل مستقلّ، ولكن يمكن تفسير موافقتهم بالكامل من خلال طريقة اختياريّ. إجماع المجموعة هو ببساطة صدى لمعيار اختياريّ. من السهل أن تنسى مدى دقّة التحقّق المسبق من الأعضاء، وكيف يمكن أن تكون دوائر وسائل التواصل الاجتماعيّ مهيّأة معرفيًّا.

ولكن يمكننا، ولحسن الحظّ، خرق الفقّاعات المعرفيّة بسهولة، بل ويمكننا تفجيرها ببساطة عن طريق تعريض أعضائها للمعلومات والحجج التي فاتتهم، ولكنّ الغرف الصدويّة ظاهرة أكثر ضررًا وكثر صلابة.

يعدّ كتاب جاميسون وكابيلا أوّل دراسة تجريبيّة حول كيفيّة توظيف الغرف الصدويّة، إذ تعمل، حسب تحليلهم، عن طريق إبعاد أعضائها بشكل منهجيّ عن جميع المصادر المعرفيّة الخارجيّة. وتركّز أبحاثهم على رشّ ليمبو، وهو من مثيري الشغب المحافظين الناجحين في الولايات المتّحدة، جنبًا إلى جنب مع فوكس نيوز ووسائل الإعلام ذات الصلة. يستخدم ليمبو طرقًا فعّالة للتلاعب بمن يثق به من المستمعين، وذلك عبر هجماته المستمرّة على «وسائل الإعلام الرئيسة» وهي محاولات لتشويه سمعة جميع المصادر المعرفيّة الأخرى، وهو بذلك يقوّض، منهجيًّا، نزاهة أيّ شخص يعبّر عن آراء مخالفة، ولا يكتفي ليمبو بالقول إنّ المخالفين مخطئون ببساطة، بل إنّهم خبثاء ومتلاعبون، ويعملون بنشاط لتدمير ليمبو وأتباعه. إنّ النظرة الناتجة للعالم هي قوّة معارضة بشدّة، تؤدّي إلى حرب كلّيّة بين طائفتي الخير والشرّ. من الواضح أنّ أيّ شخص ليس من أتباع ليمبو يعارض اليمين، وبالتالي فهو غير جدير بالثقة نهائيًّا.

والنتيجة أنّ ذلك يخلق شيئًا يشبه إلى حدّ ما تقنيّات العزلة العاطفيّة التي تمارس عادة في الطوائف الدينيّة المغلقة. وفقًا لأخصّائيّي الصحّة العقليّة في حالة علاج الخاضعين لتعبئة الطوائف الدينيّة المغلقة، بما في ذلك مارجريت سينجر ومايكل لانجون وروبرت ليفتون، فإنّ التلقين العقائديّ ينطوي على إدخال أعضاء جدد إلى عالم عدم الثقة بجميع الأشخاص غير المنتمين إلى الطائفة (الشكّ الهدّام)، ويوفّر هذا حاجزًا اجتماعيًّا ضدّ أيّ محاولات لانتزاع الشخص الخاضع للتلقين لدفعه للكفر بعقيدة التعبئة.

(Getty)

لا تحتاج الغرف الصدويّة إلى اتّصال ضعيف بالإنترنت أو بالعالم لتكون فعّالة، إذ يتمتّع أتباع ليمبو بإمكانيّة الوصول الكامل إلى مصادر المعلومات الخارجيّة، ووفقًا لبيانات جاميسون وكابيلا، يقرأ أتباع ليمبو بانتظام، لكنّهم لا يقبلون مصادر الأخبار السائدة والليبراليّة. إنّهم معزولون، ليس بسبب التعرّض الانتقائيّ، ولكن من خلال التأثير عليهم فيمن يقبلونهم بوصفهم سلطات وخبراء ومصادر موثوقة. فهم يسمعون أصواتًا معارضة، ولكنّهم يستبعدونها. يمكن أن تنجو نظرتهم للعالم من التعرّض لتلك الأصوات الخارجيّة؛ لأنّ نظام معتقداتهم قد أعدّهم لمثل هذه الهجمة الفكريّة.

قد يؤدّي التعرّض لآراء مخالفة في الواقع إلى تعزيز وجهات نظرهم عن أفكارهم. قد يقدّم ليمبو لأتباعه نظريّة مؤامرة: أيّ شخص ينتقده فهو يفعل ذلك بأمر من عصابة سرّيّة من النخب الشرّيرة المسيطرة على وسائل الإعلام الرئيسة. أصبح أتباعه الآن محميّين من التعرّض البسيط للأدلّة المخالفة. وصاروا كلّما وجدوا أنّ وسائل الإعلام الرئيسة تتّهم ليمبو بغياب الدقّة في تنبّؤاته، تزيد ثقة أتباعه فيها. ويمكن أن يؤدّي التعرّض للغرباء ذوي الآراء المخالفة إلى زيادة ثقة أعضاء الغرف الصدويّة في مصادرهم الداخليّة، وبالتالي زيادة ارتباطهم برؤيتهم للعالم. يطلق الفيلسوف إندري بيجبي على هذا التأثير اسم «الدليل الاستباقيّ الوقائيّ». يحصل نوع من الجودو الفكريّ، حيث تنقلب قوّة وحماس الأصوات المعارضة ضدّها من خلال بنية إيمانيّة داخليّة مزوّرة بعناية.

قد يميل المرء إلى الاعتقاد بأنّ الحلّ يكون في إيجاد مزيد من الاستقلاليّة الفكريّة. تنشأ الغرف الصدويّة؛ لأنّنا نثق في الآخرين كثيرًا، لذا فإنّ الحلّ أن نبدأ في التفكير بأنفسنا، ولكنّ هذا النوع من الاستقلاليّة الفكريّة الراديكاليّة حلم بعيد المنال. إذا كانت الدراسة الفلسفيّة للمعرفة قد علّمتنا أيّ شيء في نصف القرن الماضي، فهو أنّنا نعتمد بشكل لا يمكن التراجع عنه على بعضنا البعض في كلّ مجال من مجالات المعرفة تقريبًا، فنحن نثق بالآخرين في كلّ جانب من جوانب حياتنا اليوميّة: يعتمد استقلال السيّارة على الثقة في عمل المهندسين والميكانيكيّين، ويعتمد تناول الدواء على الثقة في قرارات الأطبّاء والكيميائيّين وعلماء الأحياء. ويعتمد الخبراء على شبكات واسعة من الخبراء الآخرين، فيعتمد عالم المناخ الّذي يحلّل العيّنات الأساسيّة على فنّيّ المختبر الّذي يدير آلة استخراج الهواء، والمهندسين الّذين صنعوا كلّ تلك الآلات، والإحصائيّين الّذين طوّروا المنهجيّة الأساسيّة، وغيرها الكثير.

كما يجادل إيلايجا ميلجرام في كتابه «التغييب العظيم (2015)»، تعتمد المعرفة الحديثة على الثقة في سلاسل طويلة من الخبراء، ولا يوجد شخص واحد في وضع يسمح له بالتحقّق من موثوقيّة كلّ طرف في تلك السلسلة. اسأل نفسك: هل يمكنك معرفة الإحصائيّ الجيّد عن غير الكفء؟ بين عالم الأحياء السيّء والجيّد؟ بين مهندس نوويّ أو أخصّائيّ أشعّة أو اقتصاديّ كلّيّ، الجيّد والسيّئ؟ قد يتمكّن أيّ قارئ معيّن، بالطبع، من الإجابة بالإيجاب على سؤال أو سؤالين من هذا القبيل، لكن لا أحد يستطيع حقًّا تقييم مثل هذه السلسلة الطويلة لنفسه. ونعتمد بدلًا من ذلك على بنية اجتماعيّة معقّدة للغاية من الثقة. يجب أن نثق في بعضنا البعض، ولكن، كما تقول الفيلسوفة أنيت باير، تجعلنا هذه الثقة ضعفاء. تنشط الغرف الصدويّة كنوع من الطفيليّات الاجتماعيّة متغذّية على هذا الضعف، مستفيدة من حالتنا المعرفيّة وتبعيّتنا الاجتماعيّة.

تركّز معظم الأمثلة التي قدّمتها حتّى الآن، باتّباع جاميسون وكابيلا، على الغرف الصدويّة للإعلام المحافظ، لكن لا شيء يقول إنّ هذه هي الغرف الصدويّة الوحيدة الموجودة، فأنا على ثقة تامّة من وجود الكثير من الغرف الصدويّة في اليسار السياسيّ أيضًا. والأهمّ من ذلك، لا شيء في الغرف الصدويّة يقيّد فعّاليّتها في ساحة السياسة. من الواضح أنّ عالم مناهضة التطعيم يعيش في غرفه الصدويّة، وهي غرف تتخطّى الخطوط السياسيّة. لقد واجهت أيضًا غرفًا صدويّة حول موضوعات أخرى متنوّعة مثل النظام الغذائيّ (باليو!)، وتقنيّة التمرين (كروس فيت!)، والرضاعة الطبيعيّة، وبعض التقاليد الفكريّة الأكاديميّة، وغيرها الكثير. إليك بهذا الاختبار الأساسيّ: هل يقوّض نظام معتقدات مجتمعك مصداقيّة أيّ غرباء لا يلتزمون بمبادئه المركزيّة بفعاليّة؟ إذا كانت الإجابة نعم، فأنت تعيش في غرفة صدويّة.

وللأسف، فقد جمعت الكثير من التحليلات الحديثة الفقّاعات المعرفيّة مع الغرف الصدويّة في ظاهرة واحدة، ولكن من الأهمّيّة بمكان التمييز بين الاثنين، فالفقّاعات المعرفيّة متداعية إلى حدّ ما، وتتكوّن بسهولة وتنهار بسهولة أيضًا. أمّا الغرف الصدويّة فهي أكثر ضررًا بكثير وأكثر قوّة بكثير. تتشكّل الغرف الصدويّة مثل الكائنات الحيّة تقريبًا. توفّر أنظمة معتقداتهم النزاهة الهيكليّة والمرونة والاستجابات النشطة للهجمات الخارجيّة. بالتأكيد يمكن أن يكون المجتمع كلاهما في آن واحد، ولكن يمكن أن توجد هاتان الظاهرتان بشكل مستقلّ. وبالنسبة للأحداث التي نشعر بقلق شديد بشأنها، فإنّ تأثيرات الغرف الصدويّة هي التي تسبّب بالفعل معظم المشاكل.

غالبًا ما يغفل تحليل جاميسون وكابيلا هذه الأيّام، أنّ المصطلح مختطف، ويستخدم كمرادف آخر لـ «فقّاعات التصفية (الفلترة)». ويركّز عدد من أبرز المفكّرين فقط على التأثيرات من نوع الفقّاعة. وتشخّص علاجات سنستاين البارزة، على سبيل المثال، الاستقطاب السياسيّ والتطرّف الدينيّ بشكل حصريّ تقريبًا من حيث إنّ مردّه هو التعرّض الضعيف للآراء المخالفة والاتّصال الضعيف بالمعارضين، وتشمل توصيته في كتابه «#الجمهوريّة» على إنشاء المزيد من المنتديات العامّة للخطاب حيث سنواجه جميعًا آراء مخالفة في كثير من الأحيان، ولكن إذا كان ما نتعامل معه هو غرف صدويّة بالمقام الأوّل، فإنّ هذا الجهد سيكون عقيمًا في أحسن أحواله، بل وربّما يقوّي قبضتها وإحكامها.

كما انتشرت أيضًا سلسلة من المقالات التي تجادل مؤخّرًا بأنّه لا يوجد أمر مثل الغرف الصدويّة أو فقّاعات التصفية، لكنّ هذه المقالات تجمع هاتين الظاهرتين معًا بطريقة إشكاليّة، ويبدو أنّها تتجاهل إلى حدّ كبير إمكانيّة تأثيرات الغرف الصدويّة، وتركّز فقط على قياس الاتّصال والتعرّض على شبكات التواصل الاجتماعيّ. في الواقع، يبدو أنّ البيانات الجديدة تظهر أنّ الأشخاص على فيسبوك يرون بالفعل منشورات لآراء الآخرين، وأنّ الأشخاص غالبًا ما يزورون مواقع الويب ذات الانتماء السياسيّ المعاكس، وإذا كان هذا صحيحًا، فقد لا تشكّل الفقّاعات المعرفيّة تهديدًا خطيرًا، لكن لا شيء من هذا يخالف وجود الغرف الصدويّة، ويجب ألّا نستبعد تهديدها بناء على الأدلّة المتعلّقة بالاتّصال والتعرّض فقط.

يمكن أن تقدّم الغرف الصدويّة تفسيرًا حاسمًا ومفيدًا لأزمة المعلومات الحاليّة بطريقة لا تستطيع الفقّاعات المعرفيّة تقديمها، وقد ادّعى الكثير من الناس أنّنا دخلنا حقبة «ما بعد الحقيقة»، بحيث لا يبدو أنّ بعض الشخصيّات السياسيّة تتحدّث بتجاهل صارخ للحقائق فحسب، بل يبدو أنّ مؤيّديهم غير متأثّرين تمامًا بالأدلّة، ويبدو للبعض أنّ الحقيقة لم تعد مهمّة.

هذا تفسير لاعقلانيّ تمامًا، ولقبوله، يجب أن تعتقد أنّ عددًا كبيرًا من الأشخاص قد فقدوا كلّ الاهتمام بالأدلّة أو التحقيق، وانحرفوا عن طرق التفكير. تقدّم ظاهرة الغرف الصدويّة تفسيرًا أقلّ إدانة وأكثر تواضعًا بكثير، ويمكن تفسير موقف «ما بعد الحقيقة» الواضح على أنّه نتيجة للتلاعب بالثقة الّذي أحدثته الغرف الصدويّة، ولا يتعيّن علينا أن ننسب عدم الاهتمام الكامل بالحقائق أو بالأدلّة أو بالعقل لتأكيد موقف تيّار «ما بعد الحقيقة»، بل علينا ببساطة أن ننسبها إلى مجتمعات معيّنة شديدة التباين مع مجموعة من السلطات الموثوقة.

استمع إلى ما يبدو عليه الأمر في الواقع عندما يرفض الناس الحقائق الواضحة، إذ لا يبدو الأمر وكأنّه غير عقلانيّ تمامًا. فمثلًا يشير أحد الطرفين إلى معلومة اقتصاديّة، في حين أنّ الطرف الآخر يرفض تلك البيانات برفض مصدرها. يعتقدون أنّ الصحف منحازة، أو أنّ النخب الأكاديميّة التي تنتج البيانات فاسدة. لا تدمّر الغرفة الصدويّة اهتمام أعضائها بالحقيقة، وإنّما تتلاعب فقط بمن يثقون بهم، وتغيّر من يقبلون بهم بصفتهم مصادر ومؤسّسات جديرة بالثقة.

يتبع أعضاء الغرفة الصدويّة من نواح عديدة، إجراءات تحقيق معقولة ومنطقيّة، ويستعملون أدوات التفكير النقديّ. ويتساءلون، ويقيمون المصادر بأنفسهم، ويقيمون مسارات مختلفة للمعلومات، ويفحصون بشكل نقديّ أولئك الّذين يدّعون الخبرة والجدارة بالثقة، مستخدمين بذلك ما يعرفونه بالفعل عن العالم. الأمر ببساطة هو أنّ أساس التقييم حول من يثقون به يختلف اختلافًا جذريًّا، وينبني حول معتقداتهم المسبقة، وعليهم فهم ليسوا غير عقلانيّين، لكنّهم مضلّلون منهجيًّا حول موقعة ثقتهم.

(Getty)

لاحظ مدى اختلاف ما يحدث هنا، على سبيل المثال، مع اللغة الأورويليّة المزدوجة، وهي لغة غامضة ومليئة بالتعبير الملطّف عن عمد ومصمّمة لإخفاء نيّة المتحدّث. لا ينطوي الحديث المزدوج على اهتمام بالوضوح أو الاتّساق أو الحقيقة. إنّها، وفقًا لجورج أورويل، لغة البيروقراطيّين والسياسيّين الفاشلين والّذين يحاولون تمضية الوقت دون إلزام أنفسهم فعليًّا بأيّ ادّعاءات موضوعيّة حقيقيّة، إلّا أنّ الغرف الصدويّة لا تتاجر في الكلام الزائف والغامض. علينا أن نتوقّع أنّ الغرف الصدويّة ستقدّم ادّعاءات واضحة وصريحة لا لبس فيها حول من هو الجدير بالثقة ومن ليس كذلك، وهذا، وفقًا لجاميسون وكابيلا، هو بالضبط ما نجده في الغرف الصدويّة: نظريّات مؤامرة واضحة، واتّهامات شديدة الصياغة لعالم خارجيّ مليء بالفساد وعدم الثقة.

بمجرّد أن تبدأ الغرفة الصدويّة في الإمساك بشخص ما، فإنّ آليّاتها ستعزّز نفسها. في حياة صحّيّة معرفيًّا، سيضع تنوّع مصادر المعلومات لدينا حدًّا أعلى لمدى استعدادنا للثقة بأيّ شخص بمفرده. الجميع غير معصوم، وتميل شبكة المعلومات السليمة إلى اكتشاف أخطاء الأشخاص والإشارة إليها. هذا يضع سقفًا أعلى لمدى الثقة التي يمكنك أن تثق بها حتّى أكثر القادة المحبوبين لديك. لكن داخل الغرفة الصدويّة، يختفي هذا السقف العلويّ.

الوقوع في الغرفة الصدويّة لا يكون دائمًا نتيجة الكسل أو سوء النيّة. تخيّل، على سبيل المثال، أنّ شخصًا ما نشأ وتعلّم تمامًا داخل الغرفة الصدويّة. يتعلّم ذلك الطفل معتقدات الغرفة الصدويّة نفسها، ويتعلّم الثقة فقط بالقنوات التلفزيونيّة والمواقع الإلكترونيّة التي تعزّز هذه المعتقدات نفسها. من المعقول أن يثق الطفل فيمن يقومون بتربيته، ولذلك، عندما يتواصل الطفل أخيرًا مع العالم الأكبر، على سبيل المثال، في مراهقته، فإنّ نظرته للغرفة الصدويّة عن العالم تكون ثابتة في مكانها. لن يثق ذلك المراهق في جميع المصادر خارج غرفته الصدويّة، وسيكون قد وصل إلى هناك باتّباع الإجراءات العاديّة للثقة والتعلّم.

يبدو بالتأكيد أنّ ابننا المراهق يتصرّف بشكل معقول، ويمكن أن يستمرّ في حياته الفكريّة بحسن نيّة، وقد يكون شرهًا فكريًّا، ويبحث عن مصادر جديدة، ويحقّق فيها، ويقيمها باستخدام ما يعرفه بالفعل، ولا يثق بالآخرين بشكل أعمى، ويقوم بشكل استباقيّ بتقييم مصداقيّة المصادر الأخرى باستخدام معتقداته السابقة. خوفنا هنا يكمن في أنّه محاصر فكريًّا. إنّ محاولاته الجادّة في التحقيق الفكريّ تضلّ طريقها من خلال تربيته والبنية الاجتماعيّة التي تشكّل جزءًا لا يتجزّأ منه فيها.

بالنسبة لأولئك الّذين لم ينشؤوا داخل الغرف الصدويّة، ربّما يتطلّب الأمر بعض الجهد الفكريّ المهمّ لإدخاله فيها، ربّما عبر الكسل الفكريّ أو عبر تفضيل الأمن على الحقيقة، ولكن حتّى ذلك الحين، بمجرّد أن يتمّ وضع نظام معتقدات الغرفة الصدويّة في مكانه الصحيح يمكن أن يكون سلوكهم المستقبليّ معقولًا وسيظلّون محاصرين. قد تعمل الغرف الصدويّة مثل الإدمان، بموجب حسابات معيّنة. أنت تصير مدمنًا ليس أمرًا عقلانيًّا، ولكنّ كلّ ما يتطلّبه الأمر هو هفوة مؤقّتة، وبمجرّد أن تصبح مدمنًا، سيعاد ترتيب عالمك الداخليّ بشكل كاف بحيث يكون من المنطقيّ مواصلة إدمانك. وبالمثل، فإنّ كلّ ما يتطلّبه الدخول إلى الغرفة الصدويّة هو هفوة مؤقّتة عن اليقظة الفكريّة، وبمجرّد دخولك، تعمل أنظمة معتقدات الغرفة الصدويّة بمثابة فخّ، ممّا يجعل أعمال اليقظة الفكريّة المستقبليّة تعزّز فقط رؤية الغرفة الصدويّة عن العالم.

وعلى الرغم من كلّ ما قلنا، ما يزال يوجد على الأقلّ طريق هروب واحد محتمل. لاحظ أنّ منطق الغرفة الصدويّة يعتمد على الترتيب الّذي نواجه فيه الأدلّة. يمكن للغرفة الصدويّة أن تجعل مراهقنا يشكّك في المعتقدات الخارجيّة على وجه التحديد لأنّها واجهت ادّعاءات الغرفة الصدويّة أوّلًا. تخيّل الآن وجود نظير للمراهق نشأ خارج الغرفة الصدويّة وتعرّض لمجموعة واسعة من المعتقدات. من المحتمل أن يرى النظير صاحب النطاق الحرّ، عندما يواجه الشخص من الغرفة الصدويّة نفسها، عيوبه العديدة. قد يتعرّض في نهاية الأمر كلا المراهقين إلى نفس الأدلّة والحجج، ولكنّهم توصّلوا إلى استنتاجات مختلفة تمامًا بسبب الترتيب الّذي تلقّوا به تلك الأدلّة. منذ أن واجه مراهقنا ابن الغرفة الصدويّة معتقدات الغرفة الصدويّة أوّلًا، فإنّ هذه المعتقدات ستعلّمه كيفيّة تفسير كلّ الأدلّة المستقبليّة.

لكن يبدو أنّ ثمّة أمرًا مريبًا للغاية بشأن كلّ هذا: لماذا الترتيب مهمّ جدًّا؟ يجادل الفيلسوف توماس كيلي بأنّه لا ينغي أن يكون الترتيب بهذه الأهمّيّة، خصوصًا لأنّه سيجعل مثل هذا الاستقطاب الراديكاليّ أمرًا لا مفرّ منه من الناحية المنطقيّة. هذا هو المصدر الحقيقيّ لللاعقلانيّة عند أعضاء الغرف الصدويّة مدى الحياة، ويتّضح الآن مدى دقّة كلامه. أولئك العالقون في الغرف الصدويّة يعطون وزنًا كبيرًا جدًّا للأدلّة التي يواجهونها أوّلًا، لمجرّد أنّها الأولى. عقلانيًّا، يجب عليهم إعادة النظر في معتقداتهم دون هذا التفضيل التعسّفيّ، ولكن كيف يمكن للمرء أن يفرض مثل هذه اللاتأريخيّة المعلوماتيّة؟

فكّر في مراهقنا ابن الغرفة الصدويّة. يضبط كلّ جزء من نظام معتقداته لرفض الشهادات المعاكسة للغرباء، ولديه سبب في كلّ مواجهة لرفض أيّ دليل مخالف وارد، وهو إذا قرّر تعليق أيّ من معتقداته الخاصّة وإعادة النظر في الأمر من تلقاء نفسه، فمن المرجّح أن يعيد جميع معتقداته السابقة إلى حالة الاعتقاد الإشكاليّ، وسيتعيّن عليه أن يفعل شيئًا أكثر جذريّة من مجرّد إعادة النظر في معتقداته واحدًا تلو الآخر. سيتعيّن عليه تعليق كافّة معتقداته دفعة واحدة، وإعادة بدء عمليّة جمع المعرفة، والتعامل مع جميع المصادر على أنّها جديرة بالثقة على حدّ سواء. هذه مهمّة صعبة، وربّما يكون أصعب ممّا يمكن أن نتوقّعه بشكل معقول من أيّ شخص. قد يبدو أيضًا مألوفًا إلى حدّ بعيد بالنسبة لمن يميلون إلى الفلسفة. طريق الهروب هو نسخة معدّلة من طريقة رينيه ديكارت سيّئة السمعة.

(Getty)

اقترح ديكارت أنّنا نتخيّل شيطانًا شرّيرًا يخدعنا في كلّ شيء. يشرح المعنى الكامن وراء المنهجيّة في السطور الافتتاحيّة لـ «تأمّلات في الفلسفة الأولى (1641)»، إذ أدرك ديكارت أنّ العديد من المعتقدات التي اكتسبها في حياته المبكّرة كانت خاطئة، ولكنّ المعتقدات المبكّرة تؤثّر على كافّة المعتقدات الأخرى، وأيّ أكاذيب مبكّرة كان قد قبلها قد أصابت بالتأكيد بقيّة نظام معتقداته. لقد كان قلقًا من أنّه إذا تجاهل أيّ معتقد معيّن، فإنّ العدوى الموجودة في بقيّة معتقداته ستعيد ببساطة المزيد من المعتقدات المعطوبة. كان الحلّ الوحيد حسب اعتقاده يكمن في التخلّص من كلّ معتقداته وإعادة بنائها من نقطة الصفر.

لذلك كان الشيطان الشرّير مجرّد وسيلة لاستكشاف مجريات الأمور وتجربة فكريّة من شأنها أن تساعده في التخلّص من جميع معتقداته. يمكنه البدء من جديد، لا يثق بأيّ شيء ولا أحد باستثناء تلك الأشياء التي يمكن أن يكون على يقين تامّ منها، ويقضي على تلك الأكاذيب المخادعة مرّة واحدة وإلى الأبد. لنسمّي هذا إعادة الضبط المعرفيّ الديكارتيّ. لاحظ مدى قرب مشكلة ديكارت من مشكلة مراهقنا التعيس، ومدى فائدة الحلّ. مراهقنا، مثل ديكارت، لديه معتقدات إشكاليّة اكتسبها في مرحلة الطفولة المبكّرة، لقد أصابت هذه المعتقدات نظامه كاملًا، ممّا أدّى إلى غزو نظام معتقدات ذلك المراهق بالكامل. يحتاج ابننا المراهق أيضًا إلى التخلّص من كلّ شيء والبدء من جديد.

تخلّى معظم الفلاسفة المعاصرين عن طريقة ديكارت، لأنّه في الواقع لا يمكننا البدء من لا شيء: علينا أن نبدأ بافتراض أمر ما والثقة بشخص ما. لكنّ الجزء المفيد بالنسبة لنا هو إعادة الضبط نفسها، حيث نتخلّص من كلّ شيء، ونبدأ من جديد. يحدث الجزء الإشكاليّ بعد ذلك، عندما نعيد تبنّي فقط تلك المعتقدات التي نحن متأكّدون منها تمامًا، بينما نتقدّم فقط من خلال التفكير المستقلّ والانفراديّ.

دعونا نطلق على النسخة الحديثة لمنهجيّة ديكارت إعادة الضبط المعرفيّ الاجتماعيّ. فمن أجل التراجع عن تأثيرات الغرفة الصدويّة، يجب على العضو تعليق جميع معتقداته مؤقّتًا، لا سيّما فيمن يثق وبم يثق، والبدء من جديد. لكن عندما يبدأ من الصفر، لن نطالبه بالثقة فقط فيما هو متأكّد منه تمامًا، ولن نطالبه بالذهاب منفردًا. فمن أجل إعادة الضبط الاجتماعيّ يمكنه المضيّ قدمًا في الثقة في حواسّه والثقة بالآخرين بعد التخلّص من كلّ شيء بطريقة دنيويّة تمامًا، ولكن يجب أن يبدأ من جديد اجتماعيًّا، ويجب عليه أن يعيد النظر في جميع مصادر المعلومات الممكنة بعين متوازنة. يجب أن يتّخذ موقف المولود المعرفيّ حديثًا، منفتحًا ويثق بنفس القدر في جميع المصادر الخارجيّة. لأنّه على أحد المستويات قد كان في هذه المرحلة مسبقًا. لا نطلب من الناس في إعادة الضبط الاجتماعيّ تغيير أساليبهم الأساسيّة للتعلّم عن العالم. يسمح لهم بالثقة بحرّيّة. ولكن بعد إعادة الضبط الاجتماعيّ، لن تكون هذه الثقة مقيّدة بشكل ضيّق ومشروطة بعمق بالأشخاص المعيّنين الّذين تصادف أن يكونوا قد ساهموا في تنشئته.

قد تبدو إعادة الضبط الاجتماعيّ خياليّة إلى حدّ ما، لكنّها ليست غير واقعيّة. يبدو أنّ مثل هذا التطهير العميق لنظام معتقدات المرء بأكملها مطلوب بالفعل للهروب من الغرف الصدويّة. ولنلقي نظرة على القصص العديدة لمن تركوا العقائد المغلقة والغرف الصدويّة. ولنأخذ، على سبيل المثال، قصّة ديريك بلاك في فلوريدا، والّذي ترعرع مع أب من النازيّين الجدد، وقد هيّئ منذ الطفولة ليكون زعيمًا للنازيّين الجدد. ترك بلاك الحركة، بشكل أساسيّ، من خلال إجراء إعادة ضبط اجتماعيّ، وتخلّى تمامًا عن كلّ ما كان يؤمن به، وأمضى سنوات في بناء نظام إيمان جديد من الصفر، وانغمس على نطاق واسع ومنفتح في كلّ ما فاته، وغاص عميقًا في الثقافة الشعبيّة والأدب العربيّ ووسائل الإعلام السائدة والراب، كلّ ذلك بموقف عامّ من الكرم والثقة، لقد كان مشروعًا أخذ منه سنوات وعملًا جادًّا لإعادة بناء الذات، لكنّ تلك الأشواط غير العاديّة قد تكون فقط ما هي مطلوب في الواقع للتراجع عن آثار التنشئة في الغرفة الصدويّة.

هل ثمّة ما يمكننا فعله إذن لمساعدة أعضاء الغرف الصدويّة على إعادة ضبط أنفسهم اجتماعيًّا؟ لقد اكتشفنا بالفعل أنّ تكتيكات الإغراق والهجوم المباشر بـ «الدليل» لن تفلح. لا يتمتّع أعضاء الغرف الصدويّة بالحماية فقط من مثل هذه الهجمات، ولكنّ أنظمة معتقداتهم ستجعل مثل هذه الهجمات تعزّز وجهة نظر الغرفة الصدويّة عن العالم. نحن بحاجة، بدلًا من ذلك، إلى مهاجمة جذور المشكلة، ومهاجمة أنظمة التشويه، وأن نحفّز استعادة ثقة أعضاء تلك الغرف في بعض الأصوات الخارجيّة.

غالبًا ما تدور قصص الهروب الفعليّ من الغرف الصدويّة على لقاءات معيّنة وعن اللحظات التي يبدأ فيها الفرد الّذي يعيش في الغرفة الصدويّة في الوثوق بشخص ما في الخارج. يعدّ ديريك بلاك خير مثال على ذلك، إذ كان بلاك في المدرسة الثانويّة، نجمًا في وسائل الإعلام النازيّة الجديدة مع برنامجه الحواريّ الإذاعيّ. التحق بالجامعة، وهو نازيّ جديد صريح، ونبذه كلّ طالب تقريبًا في كلّيّته المجتمعيّة. ولكن بعد ذلك، بدأ ماثيو ستيفنسون، وهو يهوديّ وزميله الجامعيّ، بدعوته إلى حضور عشاء السبت في بيته. كان ستيفنسون في رواية بلاك لطيفًا ومنفتحًا وكريمًا بلا كلل، واكتسب ببطء على ثقة بلاك. كانت هذه هي البذرة، كما يقول بلاك، التي أدّت إلى اضطراب فكريّ هائل لديه، وإلى إدراك بطيء لجذور الأفكار التي ضللته. مرّ بلاك بتحوّل شخصيّ دام سنوات وهو الآن متحدّث مناهض للنازيّة. وبالمثل، نادرًا ما تنطوي روايات الأشخاص الّذين تركوا رهاب المثليّة في الغرف الصدويّة على مواجهتهم لبعض الحقائق التي تمّ الإبلاغ عنها مؤسّسيًّا. بدلًا من ذلك، تميل إلى أن تدور حول اللقاءات الشخصيّة مع طفل أو مع أحد أفراد الأسرة أو مع صديق مقرّب أعلن بأنّه مثلي حديثًا. تعدّ هذه اللقاءات مهمّة؛ لأنّ الاتّصال الشخصيّ يأتي مع مخزون كبير من الثقة.

لماذا الثقة مهمّة جدًّا؟ تقترح باير جانبًا رئيسيًّا واحدًا: الثقة مضمونة. نحن لا نثق ببساطة في الناس كخبراء متعلّمين في مجال ما، بل نعتمد على حسن نيّتهم. وهذا هو السبب في أنّ الثقة مفهوم أساسيّ، وأنّ مجرّد الموثوقيّة لا يكفي لوحده. يمكن أن تكون الموثوقيّة خاصّة بمجال معيّن. حقيقة أنّ شخصًا ما ميكانيكيّ موثوق، على سبيل المثال، لا تعني أنّ معتقداته السياسيّة أو الاقتصاديّة تستحقّ الأخذ بها. لكنّ النوايا الحسنة سمة عامّة لشخصيّة الشخص. إذا أظهرت حسن النيّة في العمل، فلديك سبب للاعتقاد بأنّ لديّ أيضًا حسن النيّة في مسائل الفكر والمعرفة. لذلك إذا كان بإمكان المرء أن يظهر حسن النيّة لعضو في الغرفة الصدويّة، كما فعل ستيفنسون مع بلاك، فربّما يمكن للمرء أن يبدأ في اختراق الغرف الصدويّة.

يمكن لمثل هذه التدخّلات من الغرباء الموثوق بهم أن تؤدّي إلى إعادة الضبط الاجتماعيّ، لكنّ المسار الّذي أصفه متعرّج وضيق وضعيف، ولا يوجد ما يضمن أنّ مثل هذه الثقة يمكن أن تنشأ أو تتشكّل، ولا يوجد مسار واضح لتأسيسها بشكل منهجيّ، وحتّى مع كلّ ذلك، فإنّ ما وجدناه هنا ليس طريقًا للهروب إطلاقا، حيث يعتمد على تدخّل شخص آخر، ولا يمكن لأعضاء الغرف الصدويّة أن يجدوه وحدهم. ما نقترحه ليس إلّا أملًا ضئيلًا للغاية في إنقاذهم من الخارج.

التعليقات