"طالعات"... الجمع في زمن الشرذمة | حوار

شذا الشيخ يوسف، إحدى ناشطات حراك "طالعات"

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

لا يمكن النظر إلى حراك "طالعات" النسويّ السياسيّ، الّذي انطلق من فلسطين لكنّه يحاول مدّ أذرع التغيير إلى جغرافيّات أخرى خارجها، دون ربطه بسياقات التغييرات السياسيّة العربيّة الّتي قلبت طاولات المعارك الاجتماعيّة والاقتصاديّة، ومن ضمنها معارك الحرّيّات الشخصيّة وحرّيّات التعبير. ويبدو أنّ قلب الطاولات هذا، لا سيّما عند الحركات الشعبيّة، لا يكتفي بمواجهة الاستعمار والدكتاتوريّات والسلطات السياسيّة فحسب، إنّما يوجّه مواقف حادّة تجاه الأنساق والبنى السياسيّة والاجتماعيّة المؤسّساتيّة، الّتي تلفت معظمها أمام إحداث تغيير حقيقيّ، وأمام الاستجابة إلى إلحاح الواقع القاسي.

بدءًا من لحظة انطلاقه في أيلول (سبتمبر) 2019، بمجموعة تظاهرات متزامنة في مدن مختلفة، احتجاجًا على جرائم مريعة ارتُكبت بحقّ 28 امرأة فلسطينيّة منذ مطلع العام الماضي، بدءًا منها نجح حراك "طالعات" في حشد جمهوره، لا سيّما من الأجيال الشابّة، ومن جديد، في إثارة قضيّة مظلوميّة النساء العربيّات بعامّة والفلسطينيّات بخاصّة، ضمن رؤية ثوريّة حتّى على المنظومات السياسيّة والاجتماعيّة الفلسطينيّة القائمة.

وتحت شعار "لا وجود لوطن حرّ بلا نساء حرّة"، يستمرّ الحراك في تنظيم الاحتجاجات، الّتي لا تعزل بُعدها السياسيّ في مناهضة الاستعمار عن مقدّمة لغتها الاحتجاجيّة. ويستمرّ، كذلك، في السعي في مناحٍ نضاليّة أخرى، نتبيّنها في هذه المقابلة الّتي أجريناها في فُسْحَة – ثقافيّة فلسطينيّة مع إحدى ناشطات الحراك، شذا الشيخ يوسف، ونحاول فيها أيضًا أن نستدلّ مع الحراك على مدى تأثيره ومساحة عمله خارج الاحتجاج الجمعيّ، وقدرته على إحداث تغيير حقيقيّ أمام منظومة أبويّة متجذّرة، يغذّيها المجتمع والاحتلال والمدرسة والشارع والبيت. 

 

فُسْحَة: مسألة اضطهاد المرأة المضاعف، من المجتمع والاحتلال، أصبحت بديهيّة من حيث الشعار؛ لكن كيف ترينها أنتنّ؟ كيف تختلف قضيّة المرأة في سياق استعماريّ؟

شذا: لا يكفي أن تكون بديهيّة من حيث الشعار، إن افترضنا أنّ هذه مقولة دقيقة أصلًا. نعيش نحن النساء والمجتمع الفلسطينيّ تحت نظام استعماريّ عنيف، تحت نظام عمِل على مدار أكثر من سبعين عامًا، على تهجيرنا وتفكيكنا وشرذمتنا وتجريدنا من أيّ مقوّمات مادّيّة ومعنويّة. ونتيجة هذا الواقع، يعيد العنف إنتاج نفسه؛ فيُنتج العنف المجتمعيّ إفرازاته الداخليّة، غالبًا في أكثر المساحات الضيّقة الّتي تُعَدّ "آمنة"، دون أيّ رادع. وقد وظّف النظام الصهيونيّ، بأذرعه المختلفة، البنى الأبويّة والذكوريّة وعزّزها، من أجل إحكام القبضة على الشعب الفلسطينيّ؛ وهذا ما أدّى إلى تفاقم القمع الجندريّ والطبقيّ داخل المجتمع. ثمّ إنّه لا يمكننا عزل حالات العنف، الّتي نراها اليوم، عن هذا الواقع السياسيّ والاقتصاديّ في فلسطين، وعن سياسات الإفقار والتهجير المستمرّة، الّتي يستخدمها النظام الصهيونيّ تجاه الفلسطينيّات والفلسطينيّين.

 

من تظاهرة لحراك "طالعات" في رام الله عام 2019

 

فُسْحَة: تنشط في العالم العربيّ وفلسطين حركات نسويّة عديدة؛ هل ينتهج "طالعات" نهجًا مشابهًا؟ بماذا يختلف نشاطكنّ؟

شذا: إنّ ما يميّز عمل حراك "طالعات"، من غيره من الحراكات النسويّة في العالم العربيّ، نشاطه في سياق استعماريّ مباشر، وسعيه نحو كسر الشرذمة الّتي أنتجها هذا الاستعمار على مرّ العقود. فضلًا على خلقه نشاطًا مجتمعيًّا نسويًّا وسياسيًّا عابرًا للحدود، وعابرًا كذلك للشرذمة على الصعيد الفصائليّ، متحدّيًا بذلك السياق الجغرافيّ والمناطقيّ وحالة التردّي السياسيّ العامّة، ومتجاوزًا الخصوصيّات الورقيّة/ المناطقيّة (الهويّات والجنسيّات)، والخصوصيّات الاجتماعيّة والسياسيّة على امتداد فلسطين. إضافة إلى ذلك، لا ينفصل نضالنا النسويّ عن نضالنا السياسيّ، ولا يتسابق معه بالتأكيد؛ فنحن نؤمن بأنّ تحرّرنا نحن النساء مشروط بتحرّرنا الوطنيّ، والعكس صحيح. نحن نعيش في ظلّ سلطات تشريعيّة وتنفيذيّة مختلفة، تقرّ مختلف السياسات الّتي لا تقدّم ولا تؤخّر لوقف قتل النساء وتعنيفهنّ، بل على العكس، تزيد من تعزيز البنى الأبويّة والذكوريّة، وتقدّم المسوّغات القانونيّة لها؛ وهو ما يفضي بالضرورة إلى إحكام الهيمنة الاستعماريّة.

 

فُسْحَة: كيف يعمل الحراك وينسّق عمله في غير عاصمة عربيّة؟ وكيف يأخذ بعين الاعتبار خصوصيّة القضايا المتعلّقة بالمرأة في كلّ منطقة عربيّة؟

شذا: نؤمن في حراك "طالعات" بأنّ عملنا جزء من إرث نسويّ أوسع، وامتداد لتحرّكات نسويّة عربيّة وعالميّة ألهمتنا. إنّ حراكنا حراك فلسطينيّ، ما يعني أنّه، بالضرورة، يعمل في فلسطين وفي الشتات، وله امتداد بين النساء الفلسطينيّات في المنفى، اللواتي شاركن في تنظيم تحرّكات على الأرض، كالّتي شهدناها في عواصم عربيّة وعالميّة. وقد شكّل نداء حراك "طالعات" أيضًا إلهامًا لحراكات نسويّة عربيّة أخرى، من حيث تبنّي الشعارات والخطاب السياسيّ النسويّ الّذي يطرحه الحراك، كما جرى في الأردنّ وتونس. أمّا في ما يرتبط بالخصوصيّات، فنحن نسعى بالتأكيد إلى التعلّم دومًا عن النضالات النسويّة حول العالم العربيّ، ومشاركة التجربة الفلسطينيّة أيضًا. إضافة إلى البحث عن الأرضيّة المشتركة، مع إيلاء التركيز على عملنا في السياق الفلسطينيّ.

 

فُسْحَة: ما مطامعكنّ كحركة احتجاجيّة؟ وهل تعتقدن أنّ الاحتجاج والتظاهر قد يحقّق تغييرًا ملموسًا في المجتمع؟

شذا: نحن حراك نسويّ سياسيّ شعبيّ، يسعى إلى مراكمة تجربة تغيير مجتمعيّ، ويطمع على الدوام في تطوير أدواته ومجالات عمله. نحن نعمل على تطوير آليّات داخليّة لمعالجة القضايا المجتمعيّة والسياسيّة الراهنة، وأن نعرّج على هذه القضايا من مدخل نسويّ سياسيّ، دون الاعتماد على السلطات، أو البنية القائمة، أو المؤسّسات النسويّة الّتي أسهمت في حرف أولويّات نضالنا الفلسطينيّ النسويّ السياسيّ، بل بمواجهتها؛ إذ إنّنا ندرك أنّ السياق الاستعماريّ الّذي نعيش فيه، يعرقل إمكانيّات استقلالنا مجتمَعًا، ويسيطر أيضًا على الأدوات المتاحة في ما يتعلّق بحمايتنا، وهو ما يتطلّب مواجهة السلطات وتحدّيها، تلك السلطات الّتي تعمل على تعزيز البنية الأبويّة العنيفة، وتحدّي الخطاب النسويّ الّذي يفصل السياسة عن السؤال المجتمعيّ والنسويّ في فلسطين، إضافة إلى الاشتباك مع الحالة السياسيّة الراهنة. ومن خلال الاحتجاج والعمل الشعبيّ والمجتمعيّ، نُخرج القضايا النسويّة والسياسيّة - الّتي أُريدَ لها أن تبقى شأنًا خاصًّا أو غير عامّ - نخرجها إلى الحيّز العامّ، ونسعى بكوننا جزءًا من المجتمع إلى دفع عجلة التغيير، والمبادرة إليه إن لزم الأمر، انطلاقًا من إيماننا بضرورة تحدّي الوضع القائم ومراكمة الجهد.

 

فُسْحَة: من الطبيعيّ أن تنضمّ إلى "طالعات" نساء يحملن وعيًا نسويًّا وسياسيًّا واضحًا، لكن كيف بالإمكان تجنيد نساء أخريات أو استقطابهنّ ممّن لا يحملن هذا الوعي؟ هل تصِلْن إليهنّ؟

شذا: ثمّة افتراض ما بوجود نساء يحملن وعيًا نسويًّا "واضحًا"، و"أخريات" لا يملكن هذا الوعي. إنّ القضيّة النسويّة قضيّة معيشة؛ حين تختبر النساء تجارب يوميّة صعبة بسبب المنظومة الأبويّة والذكوريّة، ويجابهن هذه المنظومة يوميًّا، وإن اختلفت الأدوات والأشكال. ولا ننكر طبعًا الامتيازات الّتي تملكها نساء بالمقارنة بغيرهنّ، وأنّ بعض النساء خاض تجارب كلّفتهنّ حياتهنّ. في ما يخصّ حراك "طالعات"، ثمّة افتراض آخر يقول بأنّ الانضمام/ العمل في الحراك مشروط باستناده إلى الوعي الاجتماعيّ والنسويّ و"الوضوح السياسيّ"، لا إلى التجربة المعيشة الّتي تقرّب النساء من بعضهنّ بعضًا، وتدفعهنّ إلى التحرّك معًا، وبلورة وجهة سياسيّة تمثّل مساحةً ما متّفقًا عليها، بإمكانها أن تستوعب اختلافات وتجاذبات أيضًا. لا يزال حراك "طالعات" في بداية مساره، يتعلّم ويجرّب وينجح ويطوّر، ويسعى بالتأكيد إلى التوسّع، والوصول إلى جميع أفراد المجتمع، نساءً وفتيات، ورجالًا أيضًا. 

 

 

فُسْحَة: أنتنّ تتحرّكن احتجاجًا على قتل النساء، والعنف الممارس ضدّهنّ، وهو في نهاية المطاف ردّ للفعل، ردّ على العنف؛ كيف بالإمكان أن تُجاور هذا الردّ مبادرة حقيقيّة إلى فعل اجتماعيّ وسياسيّ؟

شذا: ليس الاحتجاج على قتل النساء والعنف الممارس ضدّهنّ، منزوعًا عن الفعل الاجتماعيّ والسياسيّ في السياق الاستعماريّ، وهذا بالضبط ما يسعى حراك "طالعات" إلى تكريسه والنضال من أجله. أن نفهم العنف، وأسبابه، وأن نناضل ضدّه، هو أمر لا يمكن سلخه في مجتمعنا عن السياق السياسيّ والاجتماعيّ. "طالعات" حراك سياسيّ شعبيّ يسعى إلى مراكمة تجربة تغيير مجتمعيّة، من أجل التحرّر الوطنيّ الّذي يشمل، بالضرورة، العيش في مجتمع عادل وآمن لجميع أفراده. ويعمل من جهة أخرى، على مواجهة "أجندة الأولويّات"، الّتي تسعى إلى تأجيل قضايا التعنيف، وتصويرها على أنّها "حالات فرديّة"، ضمن رؤية "وطن حرّ... نساء حرّة".

 

فُسْحَة: هل يفكّر الحراك في أن يتعاون مع أطر أخرى، حقوقيّة على سبيل المثال؟

شذا: مؤكّد، ثمّة تواصل مع أطر أخرى، حقوقيّة ونسويّة على وجه الخصوص، أو مع خطوط للمساعدة والدعم النفسيّ والمرافقة؛ إذ يتوجّه إلينا الكثير من النساء المعنّفات، أو اللاتي يتعرّضن إلى ضغوط تستدعي التدخّل، ونؤدّي نحن التوجيه والإشارة إلى الجهات ذات الكفايَة الخدماتيّة والقانونيّة اللازمة. في المقابل، واجهتنا حالات تطلّبت منّا الحصول على استشارات قانونيّة وحقوقيّة. ونتعاون مع مجموعات فاعلة أخرى، على دعم نشاطات تتلاءم مع رؤية الحراك السياسيّة والاجتماعيّة، ويكون هذا الدعم متبادلًا؛ أي أنّنا كذلك نتلقّى دعمًا من هذه المجموعات لنشاطاتنا.

 

فُسْحَة: لوحظت مشاركة لافتة جدًّا في التظاهرة الأولى الّتي خرجت إليها "طالعات"، في الوقت الّذي تغيب فيه - أو تقلّ - التظاهرات السياسيّة المناهضة للاحتلال وممارساته؛ هل تشعرن بأنّ الأجيال الجديدة لديها هموم جماعيّة مختلفة؟

شذا: أظهرت المشاركة اللافتة في المظاهرة الأولى، الحاجة إلى وجود حراك كهذا في المجتمع الفلسطينيّ؛ حراك يحمل همًّا نسويًّا جمعيًّا وطنيًّا سياسيًّا واجتماعيًّا مستقلًّا، لا ينتمي إلى أيّ حزب أو فصيل، ولا يرتهن للمانحين، ولا يخشى القيادة السياسيّة. على العكس، نعتقد أنّ الأجيال الجديدة واعية لحقيقة التجارب السابقة، وتحاول التعلّم منها وتوحيد الهموم والفعل. وبحكم تجربة شعبنا الطويلة في النضال السياسيّ والاجتماعيّ، فقد اتّضحت نظرةٌ أشدّ نقديّة للأدوات القائمة، ولِما يجب العمل عليه والسعي إلى تحقيقه، بما فيه من محاكاة لهمومنا وقضايانا ورؤيتنا الشاملة لفلسطين حرّة. ونحن لا نعزو تردّي الوضع السياسيّ لضعف المشاركة السياسيّة، أو لتوقّف العنف الاستعماريّ وانتهاكات الاحتلال، إنّما نتيجة هيمنة خطاب مهادن، وشرذمة سياسيّة أنتجها بشكل رئيسيّ الاستعمار وأذرعه المختلفة. ويحتّم هذا الواقع السياسيّ علينا أن نستعيد قوّتنا النضاليّة أنّى استطعنا، وتطوير أدوات لمواجهة هذا الواقع المتغيّر، لا التسليم بأنّه وضع قائم.

 

 

أسماء عزايزة

 

شاعرة وصحافيّة. حاصلة على البكالوريوس في الصحافة والأدب الإنجليزيّ من جامعة حيفا. لها ثلاث مجموعات شعريّة؛ "ليوا" (2010)، و"كما ولدتني اللدّيّة" (2015)، و"لا تصدّقوني إن حدّثتكم عن الحرب" (2019). تشارك في أنطولوجيّات ومهرجانات شعريّة في العالم. تُرجمت قصائدها إلى لغات عدّة. عملت لسنوات في الصحافة المكتوبة وفي التلفزة. تدير حاليًّا "فناء الشعر"، وهي مبادرة مستقلّة أسّستها عام 2017. تكتب في عدد من المنابر العربيّة.