سياسات السّرْدَنَة الإسرائيليّة | حوار مع المعماريّ محمّد يونس

د. محمّد يونس

 

في الحوار الّذي نجريه مع د. محمّد يونس، معماريّ ومخطّط مدن، ومستشار لشؤون الحكم المحلّيّ، نتحدّث عن قضيّة الأرض والمسكن لدى المجتمع الفلسطينيّ في أراضي 48، وتمظهرها قانونيًّا بعد تأسيس الدولة الاستعماريّة الإسرائيليّة عام 1948، ومن ضمن ذلك دور «قانون التخطيط والبناء» عام 1965 في مصادرة أراضي الفلسطينيّين ومحاصرتها. ثمّ علينا أن نعرّج إلى الأجسام الرسميّة الإسرائيليّة المنفّذة لهذه السياسات، وما يقابلها من أجسام فلسطينيّة ذات علاقة، وكذلك تفاقم القضيّة مع تصاعد السياسات النيوليبراليّة منذ سبعينات القرن الماضي، وصولًا إلى سياسات المصادرة وعمليّات الهدم في سياق «خطّة 922» و«قانون كامينتس».

 

فُسْحَة: بدايةً، هل من الممكن إعطاء لمحات تاريخيّة لنشوء قضيّة الأرض والمسكن عند الفلسطينيّين في أراضي 48، مرورًا بقرارات مصادرة الأرض وقوانينها حتّى «قانون التخطيط والبناء» عام 1965؟

يونس: بدايةً، الصراع بين القوميّة العربيّة والقوميّة اليهوديّة الصهيونيّة هنا، أو لنقل بين المجموعتين القوميّتين الإثنيّتين، صراع على الأرض. المجموعة القوميّة اليهوديّة أقامت حركتها ومنظّماتها ومؤسّساتها وفقًا لخطّة عمل وبرنامج، ولا نجد مساحة للصّدف، على عكس المجموعة العربيّة الفلسطينيّة. الحرب والتطهير العرقيّ عام 1947، حتّى نهايتها عام 1949، شكّلت البداية المركزيّة في الاستيلاء على الأرض، واستمرّ الأمر حتّى يومنا هذا. رأسًا بعد الحرب، نجد خططًا عدّة للاستيلاء على الأرض، على سبيل المثال، أدّى هاجس الحدود وحمايتها عند المؤسّسة الصهيونيّة الحديثة، إلى إنشاء مستوطنات عند الحدود عبر الاستيلاء على أراضي الفلسطينيّين اللاجئين حديثًا، أو مصادرة أراضٍ لبلدات وقرًى ما زالت قائمة، وبعدها أُنْشِئَت مستوطنات على أراضي تلك البلدات مع إفراغ سكّانها الفلسطينيّين، السؤال: لماذا؟ ذلك يعود إلى فرضيّة أنّه في حال سكن العربيّ الفلسطينيّ في مكان ما، فهذا يعني أنّه بالضرورة صالح للعيش، أرض خصبة، بالتالي من الممكن استغلال الأرض والمساحات، سواء الّتي تركها الفلسطينيّ أو الّتي لم تُدَمَّر وما زالت صالحة. نرى في الصور القديمة للمستعمِر الصهيونيّ، في «أمّ الزينات» مثلًا، وكثير من البلدات والقرى، أنّه يحضر إلى جانب عين الماء والمزروعات، وأشجار مثمرة مثل اللوز والزيتون، والحيوانات، لقد استبدلوا الفلسطينيّ حرفيًّا.

الأهداف الّتي وضعتها الحركة الصهيونيّة في البداية؛ أوّلًا الاستيطان في المناطق الحدوديّة، وثانيًا فور أن تجد قرية طُرِدَ أهلها تستطيع أن تسكن فيها. استوعبت إسرائيل في السنوات الثلاث الأولى ضعف عدد المستوطنين قبل تأسيسها عام 1948، نحو 700 ألف مستوطن. خلال ثلاث سنوات صار عددهم 1.4 مليون في فلسطين. انتبه، عدد الفلسطينيّين المطرودين من أرضهم نفسه تقريبًا، 700 ألف!

كان الاستيلاء في البداية على ممتلكات الفلسطينيّين داخل المدن، مع إفراغ أحياء كاملة إبّان حملة التطهير؛ ما مكّن إسرائيل من استيعاب مستوطنين يهود في الأحياء ذاتها، في يافا، في بيسان، في طبريّا، في حيفا، في عكّا، أفرغت جميعها. في المرحلة الثانية، كان استيعاب المستوطنين في البلدات الفلسطينيّة الكبيرة بجانب المدن، على سبيل المثال؛ بجانب يافا تجد سلمة، واليوم اسمها «كفار شليم»، وأيضًا بيت دجن، وهي اليوم «بيت دَجان»، جميعها بلدات كبيرة كانت فيها حياة اجتماعيّة؛ «مركز الأبحاث الزراعيّ الإسرائيليّ» في «بيت دَجان»، هو مركز أبحاث فلسطينيّ كان قائمًا قبل عام 1948. هذا يبيّن لنا أنّ هذه البلدات بموجب قربها من المدينة، امتلكت مقوّمات حضريّة، تخلّلت مدارس ومباني حجر، واستفادت إسرائيل منها بشكل كبير، وإلى اليوم تجد البنايات العربيّة، وسكّانها من اليهود.

 

فُسْحَة: نتحدّث حتّى الآن عن فترةِ الخمسينات، ما الصعوبات والحاجات الأساسيّة الّتي واجهت المشروع الاستيطانيّ في تلك الفترة؟ وكيف ارتبط ذلك بالأرض؟

يونس: الطعام والغذاء، أهمّ الصعوبات الّتي واجهت المجتمع المستوطن في تلك الفترة، لماذا؟

الجواب عن ذلك يكمن في تحطيم أسطورة صهيونيّة. في العديد من الأدبيّات الصهيونيّة، تجد مقولات تتعلّق بـ «الاكتفاء الذاتيّ» عند المستوطنين قبل النكبة، وعلى أنّهم أنجزوا اكتفاءً من ناحية الغذاء وأمور أخرى، إلّا أنّ ذلك ليس صحيحًا أبدًا، ثلث غذاء المستوطنين وطعامهم من المستوطنات والكيبوتسات الصهيونيّة، أمّا ثلثا غذائهم فقد وفّرته لهم القرى والفلّاحون الفلسطينيّون، من بيض وبندورة وخضراوات وحليب. إذن، بعد طرد غالبيّة الفلسطينيّين، كيف ستأكل؟ بدأت هنا أزمة عند المجتمع المستوطِن، على إثر ذلك بدأ مشروع المستوطنات الزراعيّة وتمويله بسخاء، من خلال أراضي الفلسطينيّين اللاجئين، وبتعيين «حارس أملاك الغائبين»، الّذي نقل أراضي الفلسطينيّين إلى المستوطنات بشكل «مؤقّت»!

 

فُسْحَة: عمليّة نقل الأراضي الّتي تتحدّث عنها، هل هي جزء من «قانون أملاك الغائبين» (1950)؟

يونس: بموجب «قانون أملاك الغائبين»، ثمّة «حارس أملاك الغائبين»، إلّا أنّه لم يحرس الأملاك، نقلها إلى المستوطنات الزراعيّة. الفكرة كانت لدافيد بن جوريون، لكنّه لم يكن متفرّغًا كثيرًا لإتمام المشروع، إلّا أنّ ليفي أشكول، رئيس الوزراء اللاحق، وصاحب الدور المهمّ آنذاك في «الوكالة اليهوديّة»، أخذ المشروع على عاتقه، مع مساعد من «موشاف نَهْلالْ» اسمه شموئيل ديّان (قريب موشيه ديّان).

لنعد إلى المشروع الاستيطانيّ الزراعيّ تحت إدارة شموئيل ديّان؛ بدايةً عليهم تدريب المستوطنين الجدد في الزراعة؛ بسبب النقص في الخبرة. كان واجب المشروع الأساسيّ جذب المستوطنين إلى الزراعة، وقد تخلّل ذلك صعوبات بسبب جودة الحياة هناك مقارنةً بالمدن. جميع المستوطنات الّتي أُنْشِئَتْ في تلك الفترة على أراضٍ فلسطينيّة وبلدات وقرًى، ما يقارب المئة مستوطنة، كانت لهذا الغرض تحديدًا: الزراعة وإنتاج الغذاء. بالمناسبة، قرية أمّ الزينات هي الأولى في هذا المشروع، أُنْشِئَت مستوطنة «إلياكيم» بدلًا منها في جبال الكرمل، ونجد لافتات قديمة، في الصور، كُتِبَ عليها «موشاف أمّ الزينات» قبل الاسم الصهيونيّ.

حقّقت المؤسّسة مشاريعها إزاء الأرض على النحو الآتي: إنشاء مستوطنات على الحدود، استيعاب المستوطنين اليهود في المدن والبلدات الفلسطينيّة الّتي طُرِدَ أهلها، وبعد ذلك أرادوا حسم قضيّة الأرض من خلال قرارات وآليّات قانونيّة؛ «قانون أملاك الغائبين» وأيضًا «سلطة التطوير» الّتي استولت على العديد من الأراضي، وفضلًا على «قانون الطوارئ البريطانيّ»، الّذي بموجبه تستطيع الدولة إغلاق أراضٍ ومساحات شاسعة، ومنع أصحاب الأرض من دخولها لفترة طويلة.

على سبيل المثال، أنت تملك أرضًا، وتدفع عليها ضرائب ملكيّة، بالمقابل لا تستفيد منها بسبب الإغلاق والمنع، فيأتيك سمسار صهيونيّ، مع حطّة وعقال أو قبّعة أوروبّيّة، ليقنعك ببيع الأرض، ويستخدم الديون الّتي تراكمت عليك وسيلة ضغط. في هذه الطريقة نجحوا في الاستيلاء على أراضٍ عربيّة. نحن هنا نتحدّث عن الخمسينات، حيث ركّزت الدولة جميع مواردها على مسألة الاستيلاء على الأرض؛ السماسرة انتشروا في تلك الفترة عبر «كيرِنْ كَييمِتْ» وشركة متفرّعة عنها باسم «هيمنوتا». قبل قيام الدولة، باع العرب الفلسطينيّون أراضي لـ «كيرِنْ كَييمِتْ»، بسبب تصوّر شائع على أنّها امرأة، وليست جسمًا صهيونيًّا. بعدما علم الجميع أنّها تخدم الصهيونيّة، لم يبيعوا دونمًا واحدًا، وحتّى «العملاء» منهم رفضوا البيع بسبب الضغوطات الاجتماعيّة، بالتالي، أنشأ المستوطنون هذه الشركة الفرعيّة باسم «هيمنوتا»؛ يأتيك سمسار «كيرِنْ كَييمِتْ»، ترفض أن تبيعه لأنّك وطنيّ، يأتيك سمسار شركة «هيمنوتا»، تبيعه دون أن تعلم، إنّه احتيال على الناس!

بعد عام 1948، اشترت شركة «هيمنوتا» العديد من الأراضي، وطردت فلّاحين منها، ونشط العديد من الشركات والسماسرة بغرض الاستيلاء على الأرض. في ظلّ هذه الظروف وعدم التنسيق، ازداد الطلب، وبالتالي ارتفع سعر الأرض. وبسبب ذلك، بدلًا من أن تدفع تعويضًا بخسًا للعربيّ، تدفع له مبالغ طائلة بسبب تجوال العديد من السماسرة لشراء الأرض. على إثر ذلك، وضعت الدولة خطّة لإدارة شراء الأرض، من خلال سنّ «قانون أراضي إسرائيل»، بموجبه أُنْشِئَتْ «مديريّة أراضي إسرائيل» (Israel Land Administration)، واليوم أصبحت هذه المديريّة تُسَمّى «سلطة أراضي إسرائيل»، وتحوّلت إلى حكوميّة، والغرض الأساسيّ منها تنظيم شراء الأرض.

 

فُسْحَة: ما الحاجة من تحويل «مديريّة أراضي إسرائيل» إلى «سلطة أراضي إسرائيل»، وجعلها هيئة حكوميّة في حينه؟

يونس: أُنشِئت «المديريّة» أواخر الخمسينات، والأراضي الّتي تملكها كان استخدامها فقط من خلال الإيجار، دون البيع... تجد الأراضي الّتي تملكها في تل أبيب ومدن أخرى عليها عمارات ومبانٍ بالإيجار. قبل سبع سنوات تقريبًا، بدأت عمليّة خصخصة «المديريّة» لتتحوّل إلى «سلطة»، وصار من الممكن بيع أراضٍ، كما أنّهم أصبحوا يبيعون لعرب فلسطينيّين، وهذه التغيّرات ناتجة عن إملاءات من «منظّمة التعاون والتنمية الاقتصاديّة» (OECD) بسبب وجوب الخصخصة.

 

فُسْحَة: ماذا عن «قانون التخطيط والبناء» (1965)؟ ما الغرض الّذي حقّقته المؤسّسة الصهيونيّة من خلال سنّ القانون، في ظلّ السياقات الّتي تحدّثنا عنها؟

يونس: قبل قيام دولة إسرائيل، استخدمت السلطات البريطانيّة قانونًا آخر يُدْعى «أوامر البلديّات»، وأيضًا «أوامر تخطيط المدن»، وهي تُسَمّى «أوامر» لطبيعة الحكم العسكريّ؛ فكلّ ما يصدر عن سلطات الانتداب هو بمنزلة أوامر، وليس قرارات عن برلمان أو ما شابه. هذه الأوامر المتعلّقة بالتخطيط والبناء في فلسطين، شبيهة بالأوامر الّتي كانت تُسْتَخْدَم في الهند، وهي مستعمَرة بريطانيّة أيضًا. ميزة القوانين البريطانيّة أنّها مرنة في تطبيقها على العديد من إمكانيّات البناء؛ على سبيل المثال، تستطيع أن تبني في الجبل عزبة، أو أن تبني على طريق رئيسيّ مراكز للتجارة وغيرها. بالمقابل، إسرائيل أرادت قانونًا خاصًّا بها وملائمًا لمشروعها؛ إذ إنّ القانون الّذي سنّته عام 1965، له طبيعة مركزيّة، ويحدّد البلدات والقرى بالخطّ الأزرق، ومعيار الخطّ هو مكان سكن الفلسطينيّين في كلّ بلدة وقرية، دون الأخذ في الحسبان تفاصيل ملكيّة الأرض أو الاحتياجات المستقبليّة.

وضعت الدولة المخطّطات دون إشراك أحد من المجتمع العربيّ الفلسطينيّ، ونذكر أنّ غالبيّة البلدات العربيّة لم تملك مجالس وبلديّات في تلك الفترة، ومَنْ كان لها ذلك ترأّسه المخاتير. أنجزت إسرائيل مخطّطات البلدات والقرى، وقدّمتها للمخاتير، وفقط ما هو داخل الخطّ الأزرق يُتاح البناء فيه. هذه المخطّطات لم تكن متطوّرة بشكل كافٍ، لم تشتمل على حقوق البناء، مثالًا على ذلك؛ عدد الطوابق وتفاصيل أخرى. من منظور المؤسّسة الصهيونيّة، الخطّ الأزرق هو الأهمّ، حدود البلدة أو القرية في الخريطة، عدم إتاحة توسّعها، أمّا في داخلها ففوضى عارمة، والدولة لم تكترث لذلك، ما داموا ملتزمين بالحدود المفروضة. في نهاية الأمر، هذه الفوضى قد تُحْدِث مشاكل بين أبناء البلدة أو القرية الواحدة، وفي حال قُتِلَ أحدهم، فما المشكلة طالما أنّه عربيّ؟ هذا التفكير كان سائدًا عند الدولة منذ أواخر الستّينات.

مع مرور الوقت، الفوضى تزداد، والمخطّطات الّتي وضعتها الدولة لا تلبّي غير سياساتها التوسّعيّة الاستعماريّة؛ لذلك نشأت الضائقة، وأضف إلى ذلك الأسباب الآتية؛ أوّلًا: العديد من سكّان البلدات يملكون أراضي خارج الحدود. لنأخذ مثالًا كفر قرع... أثناء تقديمي لاعتراض باسم المجلس المحلّيّ عام 2005-2006، يتّضح أنّ الأراضي الّتي تقع داخل حدود كفر قرع اليوم، ملكيّتها تعود لعائلة واحدة، وباقي العائلات تقع أراضيها خارج حدود كفر قرع؛ أي خارج الخطّ الأزرق. بالتالي عائلة واحدة تستطيع أن تبني وتبيع كيفما يحلو لها، والعائلة تتحكّم في «سوق الأرض» داخل البلدة، وباقي العائلات تتوجّه للشراء من هذه العائلة.

 

فُسْحَة: هل نستطيع القول إنّ الإجراءات الناتجة عن «قانون التخطيط والبناء»، وخاصّة مسألة ترسيم الحدود والخطّ الأزرق، مسبّب للصراعات العائليّة والعنف في البلدات العربيّة؟

يونس: بالتأكيد، وليس فقط في كفر قرع، في كلّ بلد، تجد مستفيدين من ترسيم الحدود والخطّ الأزرق، والغالبيّة طبعًا غير مستفيدة؛ الغالبيّة الّتي تملك أراضي زراعيّة أو تقع خارج الخطّ الأزرق وبعيدة، ومن منظور الدولة، فإنّ كفر قرع تملك أراضي كفاية، لكنّنا نقول: هذه الأراضي ملكيّة خاصّة لعائلة محدّدة، وليست لغالبيّة الأهالي، ومن مسؤوليّة الدولة ترتيب الأمر وإتاحة الأرض لهم. من المهمّ الانتباه إلى أنّ الأراضي خارج الخطّ الأزرق ليست مصادرة، بل هي تحت التقييد ومنع الاستخدام، مثلًا في عارة - عرعرة، نجد أراضي استمرّ الناس في زراعتها، وأخرى أُغْلِقَت وأُعْلِنَت منطقة عسكريّة مغلقة. على سبيل المثال، جدّي لديه أرض أُعْلِنَت منطقة عسكريّة مغلقة، وعائلة أقاربي لديهم أيضًا منطقة عسكريّة مغلقة. هم حدّدوا ورسموا الحدود، وممنوع الخروج عنها.

الآن، العائلات الّتي تملك أراضي خارج الخطّ الأزرق في ضائقة، وأضف إلى ذلك، المساحات داخل حدود البلدة قد امتلأت ولم يَعُد ثمّة مجال للبناء بسبب بيوت بسيطة التخطيط وبيوت أحاديّة الطابق، ولم يأخذوا بعين الاعتبار المستقبل. الشوارع ضيّقة أيضًا، بما أنّ التنقّل كان زراعيًّا، على الحمير والبغال، فإنّه حتّى في الستّينات، خُطِّطَت الشوارع وفق معايير بسيطة لا مركّبة، لتلبّي احتياجات السيّارات والشاحنات؛ بالتالي البنية التحتيّة هشّة وغير معدّة لبنايات وأحياء. هل تتذكّر قلنسوة وباقة الغربيّة، قليل من الأمطار يُغْرِق البلد!

الضائقة في البلدات العربيّة نابعة من تحديد الأراضي المخصّصة للبناء، وهي إجمالًا قليلة ولا تكفي، بالإضافة إلى عدم توزيع الأرض وفق احتياجات الناس، مع العلم أنّ العديد من الفلسطينيّين لا يملكون أراضي أيضًا. في الكيبوتس أو «مدن التطوير»، أعدّت الدولة وخطّطت مناطق ترفيهيّة وحدائق وشوارع واسعة وما إلى ذلك، بالتالي، هدف «قانون التخطيط والبناء» وتبعاته من خرائط هيكليّة وغيرها، إعاقة البلدات والقرى العربيّة وحصر تطوّرها، بالطبع استمرّ ذلك حتّى سنوات السبعينات.

 

فُسْحَة: هل استخدمت الدولة الأراضي خارج الخطّ الأزرق، الّذي حدّدت به البلدات والقرى العربيّة؟ وهل ساهم هذا الاستخدام في تفاقم الضائقة؟

يونس: إسرائيل عند ترسيمها لحدود البلدات والقرى، ومنع استخدام الأراضي خارج تلك الحدود، كان ذلك جزءًا من رؤية مستقبليّة، ورغبتها في فتح إمكانات دائمة للاستيطان. على سبيل المثال؛ مدينة «حريش»، لم يتخيّل أحد أن تُبْنى مدينة بهذا الشكل والحجم في تلك المنطقة. مثال آخر «كَتْسيرْ»، الّتي جاءت على حساب أراضٍ صادرتها إسرائيل من عارة - عرعرة، منذ وضع حدودها مع الضفّة الغربيّة قبل عام 1967، حين أُعْلِنَت منطقة عسكريّة مغلقة، ثمّ خطوة تلو الخطوة أُنْشِئت مستوطنة «كَتْسيرْ» على تلّة «أ» وتلّة «ب»، واليوم التلّة الثالثة في مرحلة التنفيذ.

إذن، مع سنوات السبعينات بدأت تتّضح معالم الضائقة السكنيّة في المجتمع الفلسطينيّ، ولكن من المهمّ أيضًا الإشارة إلى العقليّة والعادات السائدة في مجتمعنا إزاء الأرض، الّتي أيضًا فاقمت الضائقة. على الرغم من سنّ «قانون التخطيط والبناء» (1965)، واتّخاذه طبيعة مركزيّة، واشتماله على تقييدات عدّة، فإنّه لم تتغيّر عادات وممارسات المجتمع الفلسطينيّ المتعلّقة في طرق البناء والتخطيط. على سبيل المثال، عندما صدرت قرارات بمنع البناء بهذه الطريقة أو غيرها، أو في هذا النوع من الأرض أو غيره...، تمسّك المجتمع الفلسطينيّ بالقول إنّ هذه أرضي، وسأفعل فيها ما أشاء، ونتج عن ذلك بناء دون معايير ودون تخطيط يلبّي الحاجات الاجتماعيّة ويتعامل مع الصعوبات الناتجة عن الاستعمار. ومن أسباب ذلك أيضًا، البناء المستعجل لتثبيت الأرض، خوفًا من مصادرتها قبل استخدامها، وخاصّة في الأراضي على حدود البلدة أو القرية. الضائقة، وعدم تقبّل القوانين، والخوف من المصادرة، واستباق الأحداث، أدّت جميعها إلى بناء غير مرخّص ومكثّف وفوضًى عارمة.

 

فُسْحَة: أودّ قبل أن ننهي حوارنا، أن تشير إلى آثار «قانون التخطيط والبناء» في راهننا، وعلاقته تحديدًا بـ «خطّة 922» الّتي تموّل مشاريع تخطيط وبناء؟

يونس: رغم سَنّ «قانون التخطيط والبناء» فإنّ الأزمة لم تتراجع، ومع إنشاء المجالس والبلديّات، امتلكت جميعها لجان تنظيم وتخطيط، في هذه الحالة أصبحنا مطّلعين على الخطط والتفاصيل، لم يعد «خواجة» يأتيك من المدن الكبيرة ليعلمك في التفاصيل. بالتالي، طلبَ رؤساء المجالس والبلديّات توسيع المسطّحات، وقدّموا مبادرات أخرى متعلّقة بحلّ أزمات الضائقة والمسكن، لكن مع أهمّيّة المبادرات، إلّا أنّ «قانون التخطيط والبناء» هو الأساس، القاعدة التحتيّة، الّتي من الصعب تخطّيها، وبدون موافقات «الخواجة» الجالس في المدينة اللوائيّة مثل حيفا، لن تستطيع أن تتقدّم خطوة واحدة.

لننتبه إلى أنّ العديد من البلدات والقرى الفلسطينيّة وُسِّعَت مناطق نفوذها، لكن بالنسبة إلى حسابات الدولة، هذا غير مجدٍ وغير ناجع؛ لأنّهم يدركون أنّ الفلسطينيّين يطالبون بالمزيد والمزيد، خاصّة مع مضاعفة عدد سكّان البلدة أو القرية الواحدة بعد مرور عقدين أو أقلّ، بالتالي وفقًا لحسابات الدولة ومركزيّة الأرض، فإنّه من غير الناجع توسيع مناطق نفوذ البلدات والقرى الفلسطينيّة. الحلّ إذن، الّذي تقترحه الدولة، هو البناء العموديّ. بدأت تدخل على المخطّطات مقترحات وتفاصيل وإمكانات للبناء إلى الأعلى، مع الأخذ بالحسبان أنّ الفلسطينيّ غير معتاد على ذلك، فهو يبني بين أشجار الزيتون، من الصعب أن تقول له أن يبني فوق أخيه مثلًا، أو أن تخطّط من الأساس بناية لعائلات عدّة، خمسة طوابق وستّة، فضلًا على الحاجة إلى بنية تحتيّة ملائمة ومصاعد وغير ذلك. هذا الاقتراح ليس سهلًا بتاتًا، ومرتبط أيضًا بالبنية الاجتماعيّة، على إثر ذلك لم ينجح المقترح. مثالًا على ذلك، تبنّى مقاولون محلّيّون في الناصرة المقترح، إلّا أنّه لم ينجح لأسباب ذكرناها وغيرها، أمّا في أمّ الفحم فنجد المقترح معدّلًا، ونرى نجاحًا قليلًا، حيث إنّ التعديل هو بنايات للأعلى، إلّا أنّ جميع الوحدات السكنيّة ملك لعائلة واحدة، من إخوة وأولاد أعمام على سبيل المثال، بالتالي مقترح بناء للأعلى معدّ لعائلات محدّدة.

والسؤال: لماذا أتاحت الدولة – قليلًا - قطع أراضٍ لهذا الغرض؟ نحن في بلداتنا وقرانا، ثمّة لدينا ضائقة سكنيّة ومشكلة أراضٍ. لنفرض أنّك من الناصرة ولديك احتياجات ومتطلّبات سكنيّة، ولا تقبل أن تبقى في ظلّ الشروط والظروف الصعبة، أين تذهب؟ تنتقل إلى «نوف هَجَليلْ» («نتسيرت عيليت» سابقًا)، وأيضًا من مجد الكروم والرامة وساجور، ينتقلون إلى كرمئيل، وهكذا أيضًا مع بلدات وقرى المثلّث ومدينة «حَريش» الحديثة. اليوم نجد أنّ «نوف هجليل» 40% من سكّانها عرب فلسطينيّون، الدولة صادرت الأرض وأنشأت مستوطنة على أساس تهويد الجليل في الخمسينات (والمثلّث والنقب لاحقًا)، ثمّ تفاجأت من انتقال الفلسطينيّين إلى القاعدة الأساسيّة في مشروعها التهويديّ «نوفْ هَجَليلْ». وبالمناسبة، إنشاء هذه المدينة كان عبر إعلان تلك المنطقة عسكريّةً مغلقة، وسريعًا بعد ذلك أقيمت المدينة على الأراضي المصادرة، بادّعاء خدمة المصلحة العامّة: توطين المهاجرين اليهود.

في هذا الصدد، وبعد الذعر الّذي أصاب الدولة، راحت وزارة الإسكان تموّل مشاريع سكنيّة وتخطّط في المجتمع الفلسطينيّ، ومُرِّرَ التمويل ضمن خطط مختلفة، وعلى رأسها «خطّة 922»، كما أُتيحَ التخطيط على الأراضي الخاصّة؛ بهدف معلن وهو إخراج الفلسطينيّين من الضائقة، لكنّها خطّة لتكثيف البلدات والقرى الفلسطينيّة أكثر فأكثر، وليست مخرجًا حقيقيًّا، 6-8 وحدات سكنيّة للدونم الواحد. بهذه الطريقة، لن ينتقل الفلسطينيّون إلى المستوطنات، وستبقى في الشمال والمثلّث والجنوب «نظيفة من العرب». اقترحت مصطلحًا لوصف ما يحدث اليوم، وهو «سَرْدَنَة» المجتمع الفلسطينيّ؛ أي تحويله إلى علب سردين، ضغطه وتكثيفه، ومنع توسّعه وتطوّره الطبيعيّ، هذه المشاريع والمخطّطات جميعها تأتي ضمن هذا السياق.

 

فُسْحَة: كيف يدخل «قانون كامينتس» ضمن سياق خطط «وزارة الإسكان»، وتحديدًا «خطّة 922»؟

يونس: يجب أن نستوعب القانون ضمن السياق التاريخيّ؛ ضائقة سكنيّة شديدة، الجميع أصبح يدرك ذلك، و«لجنة أور» في بداية الألفيّة أيضًا أشارت إلى ذلك، والضائقة ملازمة أيضًا للفوضى، دعنا لا ننسى ذلك. بالتالي، الدولة وضعت معادلة «العصا والجزرة»، الخطط والتمويل والبرامج بمنزلة «الجزرة». مقابل ذلك، «قانون كامينتس» باعتباره عصا الدولة، تضغط به الدولة على المجالس والبلديّات العربيّة. «خطّة 922» تدرّ الأموال عليك لتخطّط ضمن خطّة زمنيّة محدّدة في حال لم تخطّط وترخّص في الفترة الزمنيّة المتاحة، القانون باختصار يسهّل عمليّة هدم البيوت. بدون مطاردة لجنة التنظيم والمحاكم واستئنافات، بمدّة زمنيّة قصيرة يصدر أمر الهدم، ويُهْدَم البيت.

أضف إلى ذلك، «قانون كامينتس»، بشكل غير مسبوق، يعاقب جميع «المتورّطين» في البناء غير المرخّص. وأقصد بذلك شركات الباطون على سبيل المثال، تُعاقِب في حال وُجِدت شاحنتها في مساحات للبناء غير المرخّص، العقاب يشمل المقاول ومزوّد الموادّ الأساسيّة للبناء، لنفرض أيضًا أنّهم وجدوا خريطة البناء وعليها اسم المهندس، يشمله العقاب أيضًا. العقاب إذن عقاب جماعيّ، كلّ مَنْ يسهم في بناء غير مرخّص من موقعه، سيُعاقَب.

 

 


محمّد قعدان

 

 

طالب في جامعة تل أبيب ضمن برنامج مُتعدّد التخصّصات؛ سوسيولوجيا، أنثروبولوجيا، تاريخ الشرق الأوسط، دراسات بيئيّة. عضو مؤسّس لـ "منتدى إدوارد سعيد في جامعة تل أبيب."