ملاحظات في دفتر البحرين (1)

جرافيتي لشهداء سقطوا خلال ثورة البحرين | عدسة: حسن جمالي (أ ب)

أمضيتُ أسبوعًا كاملًا في البحرين، مجاورًا للشّاعر الجميل قاسم حدّاد... وبينما كانت المجاورة تتّخذ منحنيات ثقافيّة ترتكز في مجملها على الانكشاف على تجربة الشّاعر وارتباطاته بأماكن شخصيّة وثقافيّة وتاريخيّة، كنت أغرق في جانب آخر تمامًا. فحين تُمضي أسبوعًا في البحرين لا تحتاج للبحث طويلًا عن أسباب للكتابة أو نقاط مضيئة تلفت انتباهك، فثمّة دافع في كلّ مكان... بدءًا من القاع الخفيّ والمنهك والمُغيّب جدًّا، حتّى قمّة الهرم الّتي تبسط ظلالها على كلّ شيء.

سجن انفراديّ كبير

ما زال البحرينيّون يدفعون ثمن الثّورة الّتي قاموا بها عام 2011، إذ أُخضعوا لأنظمة وقوانين تقيّد حركتهم  وتدفعهم إلى الصّمت الشّامل، إلى درجة قد تصدّق معها أن لا شيء يحدث فعلًا. لكن حين ترى الآليّات العسكريّة والجنود في الشّوارع... حين تمرّ على ميدان رئيسيّ مسيّج بالأسلاك الشّائكة، كميدان اللّؤلؤة... حين تعبر قرًى مظلمة تمامًا ومحاطة بحواجز عسكريّة، لا تستطيع سوى أن تترك أسئلتك تذهب بك إلى كلّ النّقاط والمناطق الّتي تُعَدُّ محرّمة في عُرْفِ المملكة.

الدّعم منقطع النّظير من الأنظمة العربيّة المجاورة يساهم في جعل هذا الجزء من العالم بقعة غامضة، وغرفة مغلقة محاطة بكاميرات تلتقط أدنى حركة، فلا شيء حقيقيّ يظهر على وسائل الإعلام، والشّاشات لم تعد أكثر من مجرّد شبابيك تطلّ على كلّ شيء سوى أوجاع البلد. رغم أنّ الثّورة البحرينيّة كانت امتدادًا طبيعيًّا للثّورات العربيّة، إلّا أنّ صداها لم يطرق أسماع العرب بنفس الحدّة، ولم تلقَ نفس الرّواج الشّعبيّ، وبالطّبع كان قمعها امتدادًا طبيعيًّا لجوّ القمع العامّ والشّماعة الّتي يمكن للجميع أن يعلّق عليها أخطاءه وخطاياه جاهزة... الطّائفيّة.

الدّين والسّلطة

دائمًا ما يكون المناخ الثّوريّ خصبًا جدًّا للمؤامرات والأجندات المتنوّعة، فمن في رأسه موّال يريد أن يُغَنّيه... والبحرين ليست في النّهاية سوى مربّع في رقعة الشّطرنج بين إيران والسّعوديّة؛ حالها في ذلك حال اليمن، والمسألة بالنّسبة للجميع مسألة نفوذ وسيطرة ومال وآبار نفط، وهذا ليس هيّنًا أبدًا. والأسلحة في سبيل تحقيق الأهداف المرجوّة مشروعة تمامًا، ومن ضمنها الدّين، ومن هذا المنطلق جاء التقاء أهداف الأحزاب الدّينيّة مع الملكيّة في هذا البلد، ليكون كارثة حقيقيّة؛ فمن ناحية ألغى إمكانيّة نشوء معارضة قويّة تدافع بشكل محايد تمامًا عن الشّعب ضدّ السّحق والطّمس الملكيّ، كما هو دأب هذه الأحزاب في الكثير من الدّول الأخرى؛ ومن ناحية أخرى، وبنتيجة عكسيّة، كرّس حالة هائلة من الانقسام داخل الشّعب نفسه، بل ساهم في تعميقها وجعلها مندرجة تحت صفات اجتماعيّة وأخلاقيّة وسياسيّة، وبالتّأكيد عقائديّة.

الدّم المنسيّ

إنّ الضّحيّة في كلّ صراع يخسره أو يربحه أيّ طرف، هو الّذي يسقط دون أن يفهم المعادلة الحقيقيّة. لا يهمّني أنّ يدًا إيرانيّة سوداء لعبت على الوتر الطّائفيّ فأفسدت النّوايا، أو كون التّدخّل العربيّ من خلال قوّات درع الجزيرة كان لردع هذه اليد. همّي الأكبر وأساي الأعظم هو على أولئك الّذين فقدوا أرواحهم ويبدو كما لو أنّ النّسيان سيعالجهم بممحاته الأبديّة؛ أولئك الّذين اختنقوا بالغاز في بيوتهم وأعدموا، مُثِّلَ بهم، هُدِّمَتْ بيوتهم... دون أن يكون لكلّ ذلك صدى حقيقيّ. لقد كان الأمر كما لو أنّ ذلك يحدث على كوكب آخر؛ هذا ما يقوله البحرينيّون، ليس الشّيعة فقط، فقد التقيت بالكثير من السّنّة الّذين اشتركوا في الثّورة في البداية، وكانوا يقولون إنّ الشعور الّذي لازمهم طوال أيّام خروجهم هو الوحدة والوحشة الشّديدة، فالعالم انتقائيّ، يُظْهِرُ ويُخفي الصّورة الّتي يشاء عندما يمسّ الأمر مصالحه.

لم يكن أثر ما حدث يقتصر على الدّم والفوضى والظّلم فحسب، بل امتدّ أثر ذلك إلى المجتمع، فأصبح الزّواج والعلاقات الاجتماعيّة، والاقتصاديّة، والخدمات المجتمعيّة، مرتبطة كلّ الارتباط بالجواب على سؤال إلى أيّ طائفة تنتمي؟! وهذا يعدّ مشكلة هائلة في دولة صغيرة كانت تحظى بنسيج اجتماعيّ متماسك.

لا يشعر البحرينيّون بالتّفاؤل إزاء المستقبل، فالإصلاحات الدّستوريّة الّتي يطالبون بها، والعدالة في توزيع الثّروات ومساحات العيش، لا يبدو أنّها ستتحقّق قريبًا أو بسهولة، وما زالت الصّدامات مستمرّة في القرى، والبلد ذاهب أكثر في طريقه الغامضة، والدّم ما زال ينزف ويُنسى.

صرخة قاسم

لم أكن بعيدًا تمامًا عن قاسم؛ حتّى عندما كنت أتنقّل في أحياء القرى البعيدة بين البيوت المعتمة مع سائق التّاكسي الهنديّ. لم أكن بعيدًا عنه حتّى عندما كان يقدّمُ لنا المكان مجرّدًا من وحشيّة الوحشة.  لم أكن بعيدًا عنه حتّى وأنا أغرق في مقهًى شعبيّ مكتظّ، وألف عين تحاول النّظر خارج السّياق... بلا جدوى. لم أكن بعيدًا أبدًا، لأنّ قاسم لم يكن بعيدًا عن كلّ ذلك بدوره، فعندما جلست وحيدًا في مكتةٍ هادئة في بيت عبد الله الزّايد بحثًا عمّا يرشدني إلى الجحيم الكامن في روح هذا الإنسان الهادئ الّذي يبدو متصالحًا مع ما حوله، كانت يده تقودني إلى الصّرخة؛ قصائد صاخبة وساخطة لم تكن تطرق الجدران فحسب، بل وتذهب أبعد من ذلك.

(1)

لا تستنجد بالماء سـوى النار

أنت النار و تسأل عن وقت النيران.

(2)

طوبى للوطن النّاطر فوق شفير الثّورة كالوهج

طوبى للواقف بين العنق وبين السّكّين

طوبى لجميع العشّاق المنذورين لعرس البحر

طوبى للحزن الغامر والتّنهيد

طوبى للطّفلة والطّفل وكلّ شهيد

طوبى يا جيشًا يقرأ آيات لا تقرأ،

يصوغ الكون.

(3)

يبحث عنك جميع العسكر

لكن أين؟

تبحث عنك جميع عصافير الشّمس، لكي تعطيك قميصًا

لكن كيف؟

فنصعد كلّ أغانيك المغلولة مشرعة كالله على الأرض

و تصير كماء الشّعب الواقف في حلق العسكر.