حيرة رمضانيّة!

رمضان ماركت - الطّيبة

حلّ علينا رمضان هذا العام في أجواء بعيدة عن أن تكون هادئة واحتفاليّة، فالجوّ العامّ الشّرق أوسطيّ دامٍ، إلّا أنّه ما من وقت للاعتصام والاحتجاج، أو حتّى لبيان استنكار هزيل، مهما حصل؛ فالشّعب يريد الاحتفال، لذا بالله عليكم دعونا نسرح ونمرح مع حملات رمضان التّجاريّة. مع 'تبّوزينا' ستسافر للخارج، والسّحور أحلى مع شوكلاطة 'شاحر'، ومع 'طارة' العزومة غير، والتّمر هندي الأصليّ فقط من 'بريجات'!

'رمضان ماركت'

من الأحاديث الّتي شغلت الرّأي العام هذا العام، مهرجانات ونشاطات جماهيريّة في بلدات وقرى عربيّة في أراضي 48، تستقبل الجماهير العربيّة أساسًا ، وبعضها يدعو الزّوّار من أولاد عمومتنا اليهود، إلى جولات سياحيّة وإفطارات جماعيّة. تسوّق وترفيه وثقافة وفنّ... كلّ بلدة تحاول أن تعرض أجمل ما فيها من طاقات إيجابيّة، تنظيميّة، تسويقيّة، توحي بالأخوّة والمحبّة والتّقارب ووحدة النّسيج الاجتماعيّ، مؤكّدة على القيم الّتي ذابت في أجواء العنف والكراهيّة المستشرية، طبعًا إلى جانب التسوّق بهدف إنعاش الاقتصاد المحليّ.

في رهط، دعوا جيرانهم اليهود  للتّعرّف إلى أجواء رمضان الاحتفاليّة المتعلّقة بحسن الضيّافة، وعرض ما لذّ وطاب من المأكولات للزّائر الّذي لا يعرف الثّقافة البدويّة العريقة! أمّا في قرًى ومدن عربيّة مثل سخنين، وشفاعمرو، وأمّ الفحم، والنّاصرة، والطّيّبة، والطّيرة، فقد فُتِحَت الأبواب للجمهور تحت عناوين مختلفة، وقد حاز اسم 'رمضان ماركت'، المستوحى على ما يبدو من 'كريسمس ماركت' الّذي يُنَظَّمُ سنويًّا في  النّاصرة،  على رواج كبير هذه السّنة، حيث تُعْرَضَ منتوجات مختلفة من صناعات يدويّة وأغذية، إلى جانب الموسيقى والحلويّات والأضواء، بالإضافة إلى نشاطات ثقافيّة مثل رقصالتّنّورة، والأناشيد، والحكواتيّ، والمسرح، وغيرها من الفعاليّات الجماهيريّة الجميلة. 

صحن حمّص

بعض المؤسّسات النّاشطة في السّياحة المحليّة، ومعها جمعيّات تشجّع التّواصل بين الشّعبين العربيّ واليهوديّ، رأت في أجواء رمضان التّسامحيّة فرصة لا تعوّض لدفع أجندتها نحو حارات وأزقّة البلدات القديمة، من خلال تنظيم جولات استكشاف للبلدات العربيّة تنتهي بوجبة إفطار شهيّة ودسمة.

رمضان ماركت - الطّيرة

طبعًا، كما تحتمّ علينا عاداتنا وتقاليدنا الفيسبوكيّة العريقة، وبعد أيّام من ترويج أخبار وصور مجموعات الزّوار اليهود منفعلين من جبل المقلوبة وآلة سكب القطايف الضّخمة، بدأ النّقد بالظّهور هنا وهناك: ماذا يفعل هؤلاء المغتصبون بيننا ومن جاء بهم؟ كيف يُصادِقُ القامع المقموع وينفعل المسيطر من طعام العربيّ الرّازح تحت وطأة العنصريّة والتّمييز؟

انتقد البعض موائد التّعايش المزيّفة تلك، فوجبة الإفطار ليس سوى صحن حمّص ورغيف تغميس بحلّة  أدسم، تُدْهَنُ به حقيقة علاقة الفلسطينيّين بدولة إسرائيل؛ إذ كيف بعد الفترة الماضية الصّعبة مع الحكومة المجنونة واستفحال العداء ضدّ العرب نستقبلهم في بيوتنا؟! طبعًا رجع البعض إلى ما قبل النّكبة، فكتبت إحداهنّ على صفحتها أنّ ممثّلي الانتداب البريطانيّ اعتادوا زيارة القرى العربيّة في رمضان لتكريم وجهاء البلد وتقديم الاحترام لهم!

رائحة استشراق، ولكن...

كلّ ما قيل قد يكون مقنعًا في واقعنا المركّب؛ فمن ناحية، تفوح من هذه النّشاطات رائحة استشراق حادّة لا يطيقها أنف التّيّار الوطنيّ. لكن من ناحية أخرى، نسمع أصواتًا تدعو إلى العيش الكريم مع الجيران بندّيّة واحترام، وتعزيز قيم العدل والتّسامح، مبرّرة بذلك هذه الزّيارات، بالإضافة إلى رؤيتها أنّه من الواجب الوطنيّ تعريف المجتمع الإسرائيليّ بنا، وهذا أمر لن يحدث من تلقاء نفسه دون أن ندفع به.

بين دعاة التّغيير والأمل، ودعاة الاستقلال الثّقافيّ الحضاريّ عن المجتمع الإسرائيليّ، ضعت وضاع موقفي، وقد تحدّثت لبعض المقرّبين فكريًّا واجتماعيًّا، وسألتهم ماذا نفعل في هذه المعضلة؟

إنّ الحديث عن هذه القيم الإيجابيّة والإنسانيّة بات منتقدًا رغم أنّ المبدأ يراد به خير، وكان الجواب هو أنّ تنظيم مثل هذه الجولات قد ينفع وقد يضرّ بقضايانا ومواقفنا الوطنيّة؛ لذا فالسّؤال: ما هو فحوى هذه الجولات؟ إذا كانت تسرد فعلًا تاريخ القرى والمدن وحضارتها، تحدّياتها ومشاكلها، وما يعيق تقدّمها بسبب السّياسات التّمييزيّة والعنصريّة، فلا ضير في ذلك؛ أمّا إذا كانت 'الكنافة' سيّدة الموقف، تحلّي الواقع المرّ أمام الزّائر العابر، فهذا عمل ضارّ وسقيم، علمًا أنّه من حق أيّ مجتمع محلّيّ بناء صورة واضحة وغير مزيّفة أو مجمّلة لنفسه. لكن رغم ذلك، هل يحقّ لأحد أن يُخَوِّنَ منظّمي هذه الجولات ويتّهمهم بتجميل واقعنا المرّ والجري وراء الكسب السّريع من قضيّة شعبنا، حتّى وإن كانت الدّوافع والنّوايا حسنة؟

إحدى جولات التّعايش في القرى العربيّة خلال رمضان

'سوق العار والدّياثة'!

ما أن بدأ الحديث عن التّآخي العربيّ الداخليّ وأهميّة النّشاطات الثّقافيّة في رمضان،  حتّى اكتظّت صفحاتنا ومنابرنا الإعلاميّة وبيوتنا، بنقاشات حادّة حول 'شرعيّة النّشاطات من النّاحية الدّينيّة!'  فقد كتب البعض شعارات عدائيّة ورافضة في ساحة المهرجان الرّمضانيّ في مدينة الطّيبة، واصفين إيّاه 'بسوق العار والدّياثة'، وَوُزِّعَتْ بيانات مناهضة للسّوق بحجّة الاختلاط بين الجنسين وما قد يؤدّي إليه ذلك من تحرّشات جنسيّة، وتبعت البيانات خطبة جمعة تطالب بوقف فعاليّات المهرجان لأنّه يشغل المسلمين عن العبادة، كما يشغل الطّلّاب عن الانتظام الدّراسيّ، وما يزيد الطّين بلّة، إنهاء فعاليّات السّوق بحفل غنائيّ! أمّا في الطّيرة، فقد هوجم المنظّمون لـ 'رمضان ماركت' وحُرّض عليهم وشُهّر بهم! كما أنّ مهرجان عرعرة، وغيره، لم يسلم من الانتقاد!

تركت الحديث عن اليهود والاستشراق جانبًا وانشغلت بحديث التّكفير والتّطرّف الدّينيّ؛ تُرى كيف وصلنا إلى هذه المرحلة من التّهجّم على مبادرات محليّة لإحياء المدن ثقافيًّا؟! وكيف يعتلي المنابر محرّضون ضدّ أيّ نشاط جماهيريّ أو ثقافيّ بحجّة الاختلاط؟ هل سوق رمضان هو الّذي يشغل النّاس عن العبادات وصلاة التّراويح وليست مباريات اليورو مثلًا؟ ألا يملك كلّ صاحب إرادة ماذا يريد أن يفعل دون وصاية من أحد؟

مسمار جديد

يبدو أنّه كلّما أردنا قتل مبادرة اجتماعيّة، فما علينا سوى التّلويح بكلمات مثل 'الاختلاط، والعورة، وكاسيات عاريات'، وغيرها من تهم الفسق والمجون والدّياثة، الّتي تقع وقع السّهام على نفوس الصّائمين الّذين يريدون مرضاة ربّهم شهرًا واحدًا في السّنة!

أعترف هنا أنّ إضافة ادّعاء 'المسّ بالدّوام الدّراسيّ' لسلسلة الادّعاءات ضدّ الأسواق والمهرجانات الرّمضانيّة أعجبني جدًّا، إلّا أنّني خَلُصْتُ إلى أنّ بسطات البيع والشّراء والمنتجات الحرفيّة والأضواء البهيجة، هي سبب كلّ العنف الجنسيّ والتّحرّش بالفتيات الّذي يحدث في محيط البيت عادة، وليس في  أماكن عامّة مكتظّة، وهي كذلك السّبب في ترويج سلاح الجريمة القادمة، كما أنّها سبب الفقر والبطالة والتّسرّب الدّراسيّ والسّمنة عند الأطفال، لا بل ومشاكل السّكن.

لقد وجد المحرّضون والمعارضون للدّبكة الرّمضانيّة التّجمّعيّة في أمّ الفحم العام الفائت، أتباعًا كثرًا هذا العام، ومسمارًا جديدًا دُقَّ في نعش المجتمع العربيّ، ليعلّقوا عليه كلّ الفواحش البشريّة الّتي تُرْتَكَبُ، لا في رمضان وحده، بل طوال العام، فصبّوا جلّ غضبهم على تلك الأسواق والمهرجانات.

أبعدلك أربحلك

من يريد فعلًا التّمتّع بالنّشاط الثّقافيّ وتعزيز الحوار الحضاريّ في بلده، لا يكترث بمثل هذه البيانات والتّهجّمات، وسيحضر ويستمتع، وينتقد ويتنوّر، وهذا ما حصل فعلًا؛ أمّا من يؤمن بعدم شرعيّة تلك الأحداث دينيًّا فلن يذهب أساسًا. لكن ماذا عن الغالبيّة العظمى من شعبنا؟! هل تحدّوا وجرّبوا بأنفسهم، هل قاسوا الأمور ليروا أنّ الشّيخ الجليل قد يكون مخطئًا؟!

رمضان ماركت - الطّيرة

النّزول للشّارع لحضور تلك الأسواق والمهرجانات ليس ضرورة ملحّة، ونحن نستطيع دومًا التّرفيه عن أنفسنا بمسلسل 'باب الحارة' الثّامن، مثلًا، أو أمام شاشة الحاسوب غير المراقبة، فلماذا نقترب من الدّخّان الّذي قد يحتوي نارًا تحرقنا؟! من الأفضل البقاء في البيت، أبعدلك أربحلك. أمّا إذا أصرّت الزّوجة على خروج العائلة للتّنزّه بعد الإفطار، فإنّ أقرب مجمّع تجاريّ يهوديّ، وطبعًا مختلط، سيفرح ببطاقتنا الائتمانيّة جدًّا!

مسكين أنت يا  شعبي في رمضان، فكلّ ما تقوم به إمّا خيانة عظمى للقضيّة الفلسطينيّة، وإمّا إثم وكفر كبير بحقّ دينك الحنيف. لذا هيّا تعال وقبّل هويّتك القرعة من أين جانب تشاء، قبل أن تَحْرُمَ عليك هذه البوسة أيضًا.

فعلًا، احترنا يا قرعة من وين نبوسك، ورمضان كريم!