21/08/2021 - 22:00

حوار مع د. البزور | في أسباب انكسار وغياب اليسار الفلسطيني عن الساحة الوطنية

"ظهور اليسار في الغرب يختلف عن ظهوره عندنا وذلك ليس من باب المفاضلة، بل للتوضيح أن اليسار عندنا كان حاجة سياسية وبالتالي فإن الهم السياسي دائما هو الذي طغى على الهم الاجتماعي، وأنا أتفهم ذلك ولكن بالرغم من ذلك..."

حوار مع د. البزور | في أسباب انكسار وغياب اليسار الفلسطيني عن الساحة الوطنية

يشغل تراجع اليسار الفلسطيني وانحسار دوره في الساحة الوطنية الكثير من السياسيين والباحثين المهتمين بالقضية الفلسطينية، وفي ورقة تبحث فيها أسباب فشل الحركة اليسارية الفلسطينية ترجع الباحثة مي البزور ذلك الفشل إلى إخفاق تلك الحركة في إنتاج ثقافة يسارية تقدمية مقاومة، وعدم قدرتها على إحداث تغيير مجتمعي عبر تفكيك البنى الاجتماعية والثقافية وإعادة إنتاج بنى تقدمية ثورية تلبي حاجات الفكر اليساري الفاعل على الصعيدين السياسي والاجتماعي ما جعل ازدهارها، مرتبطا كما تقول، بمرحلة سياسية معينة استدعت ذلك.

وتضيف د.البزور، أن الحركة اليسارية الفلسطينية شكلت ظاهرة ثورية اجتماعية واعتبرت ركيزة أساسية في حركة المقاومة الفلسطينية، لما حصدته من تأييد جماهيري واسع في أواخر الستينيات وصولا إلى الثمانينات، ولكن سرعان ما أخذ التأييد الذي اكتسبته بالتراجع شيئا فشيئًا، مقابل صعود وتنام في الحركات الإسلامية في المجتمع الفلسطيني في الضفة وقطاع غزة، وتنام آخر في قوى المجتمع المدني المدعومة من الدول المانحة والراضخة لشروط تمويل هذه الدول المانحة.

وتحيل الباحثة إلى العديد من الادبيات الفلسطينية التي تناولت الحركة اليسارية الفلسطينية و نشوء اليسار الفلسطيني، وازدهاره، ومن ثم أسباب التراجع على الصعيدين العربي والفلسطيني مع اهتمام أقل حول أثر العوامل الثقافية، التي تركز عليها في بحثها لهذا التراجع، مقارنة بالعوامل السياسية.

د. مي البزور

حول البحث وأسباب تراجع الحركة اليسارية الفلسطينية ودور العوامل الثقافية في هذا التراجع كان هذا الحوار مع الباحثة والمحاضرة في جامعة بير زيت د. مي البزور.

"عرب 48": "في الليلة الظلماء يفتقد البدر"، كما يقولون واليسار الفلسطيني يغيب في ظرف فيه الساحة الوطنية هي أحوج ما يكون إلى حضوره وإلى فعله السياسي والاجتماعي الذي ملأ في مراحل سابقة الكثير من الفراغ، لماذا انحسر اليسار الفلسطيني؟

د. البزور: هناك الكثير من الأدبيات التي تتحدث عن انهيار اليسار وتربط ذلك بانهيار الاتحاد السوفييتي والمنظومة الاشتراكية، وقضية تحول العالم من ثنائي إلى أحادي القطبية، لكن يبقى سؤال مهم يرتبط بالحالة الثقافية، فعلى مدى عقدين أو أكثر من التثقيف الاجتماعي والسياسي نحو مزيد من العدالة للأطفال والنساء والعمال، أين اختفى اليسار؟ وكيف ضعف وانكسر بسرعة وانكسر امتداده؟ أين ذهب هذا الفكر؟ بالعودة إلى هذه الأمور حاولت أن أنظر إلى قضيتين هما، مواجهة الذات ومواجهة العدو.

في الحالة الفلسطينية كان الشرط الاستعماري هو الغالب في تكوين الفكر اليساري وهو انعكاس لحالة سياسية وليس استجابة لواقع طبقي وعدالة اجتماعية، إنما استجابة لانكسار الـ67 وقضية الهزيمة أمام المشروع الاستعماري وبالتالي أنا أسميه استحضار ذكي، بمعنى أن نهوض اليسار الفلسطيني هو نهوض ذكي، لكنه لم يأخذ فرصة ليقف مع الذات، علما أن الذات الفلسطينية تختلف عن ذات المجتمع الأوروبي التي دخلت لمرحلة التصنيع.

ظهور اليسار في الغرب يختلف عن ظهوره عندنا وذلك ليس من باب المفاضلة، بل للتوضيح أن اليسار عندنا كان حاجة سياسية وبالتالي فإن الهم السياسي دائما هو الذي طغى على الهم الاجتماعي، وأنا أتفهم ذلك ولكن بالرغم من ذلك، يبقى السؤال لماذا لم يترك تأثيرا اجتماعيا.

طبعا هناك الكثير ممن يختلفون معي ويقولون إن اليسار قدم للمرأة وللطفل وللعمال وإنه كسر تابوهات اجتماعية هامة، في ما يتعلق بالمشاركة النسائية ولكني أدعي أن عملية التحرر الاجتماعي كانت تصب في خدمة الوطن، وأن الأطر النسوية كانت تحمل الهم الوطني والنضالي والكفاحي بمعنى أنها جزء من المكون الكفاحي وبالتالي فإن المكون الكفاحي ومواجهة العدو هو الذي طغى على أية قضية عادلة أخرى.

"عرب 48": يبدو ذلك مألوفا في مرحلة تحرر وطني وفي ظرف مواجهة مشروع استعماري؟

د. البزور: أنا لا أناقش صحة أو عدم صحة هذا التوجه الذي ميز اليسار بل الحالة الموضوعية، وأقول إنه في ما يتعلق بالمنظومة الاجتماعية القانونية المرتبطة بقضايا المرأة والأسرة والأطفال لم يحدث أي تغيير، ونحن كنا ننشد التغيير السياسي وليس التغيير الاجتماعي، وإذا كان هذا التغيير السياسي يتطلب تغييرا اجتماعيا فإن التغيير الاجتماعي يحدث بالقدر الذي يخدمه مع إهمال للقضايا غير المرتبطة بالنضال الكفاحي.

ومثلما ذكرت في الورقة، فإن النساء كنّ يمتلكنّ القرار في المستوى السياسي، ولكن في منظومة الأسرة والمنظومة العشائرية والعائلية لم يحدث أي تغيير وبالتالي فإن هناك تناقض بين الفكر والممارسة، بين الفكر والقاعدة الشعبية ولم تحدث هناك مواجهة مع الذات الثقافية أو مواجهة مع الموروث.

التنظير الماركسي يرى أن المطلوب تغيير الواقع وتفسيره، لكننا في ظرفنا الخاص كنا بحاجة إلى تفسير الواقع من أجل تغييره، ولكن لم يكن لدينا الوقت لتفسير قبل الشروع بتغيير الواقع، الوقت لم يسعفنا في ظرف يجثم في الواقع الاستعماري على صدورنا.

هذا لا يعني أن في الغرب تحققت حالة من العدالة، فالرأس مالية أنتجت أنماطا جديدة من الاستغلال، ولكن نحن حالة خاصة ولا نستطيع جلب "نموذج غربي" وتطبيقه، ببساطة لأن التطور التاريخي الخاص بنا يختلف، نحن لدينا فكر عشائري وبقايا فكر إقطاعي وعندنا موروث ديني يتحكم بقطاعات كبيرة من شعبنا.

معظم القادة السياسيين من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين عندنا يمارسون ممارسات اجتماعية لإرضاء المؤسسات الدينية، وليس بالضرورة بهدف العبادة وإنما هو خطاب مقبول وخطاب هو السائد في مجتمعاتنا، بالمقابل فإن القطيعة مع الديني وضعت الحركة اليسارية كنقيض أو كبديل للخطاب الديني وبالتالي ساهم ذلك في خسارة اليسار لقاعدته.

إذا كان هذا الموروث يدرس في المدرسة ويجري الحديث عنه في الجوامع، ويقوم السياسيون باستغلال هذا الموروث في دفع قيم تهدئة تمنع الناس من الثورة والمطالبة بالعدل، فلماذا لم يجر مواجهة هذا الموروث من رحم هذا الموروث ذاته، لماذا خسرنا هؤلاء المفكرين كلهم وذهبنا إلى مكان آخر؟

"عرب 48": طبعا المبرر هو الانشغال بالحالة السياسية الراهنة والضاغطة وترتيب سلم أولويات احتل فيه السياسي والوطني والكفاحي مكان الصدارة كما يليق بالمرحلة؟

د. البزور: صحيح أن هناك ظرف قاس وقوة مستعمرة مدعومة من أكبر قوة في العالم وبالتالي كان من الصعب تطبيق حالة ثورية عامة على مختلف القضايا ولكن يؤلم أنه لم يتم مواجهة بعض هذه القضايا، كان من الممكن، كانت تجارب رائعة على غرار "دار الفتى العربي للنشر" التي عملت بمستوى الشباب على نشر فكر فيه عدالة ومساواة، كانت محاولات، ولكن كما قلت اليسار لم يعمل على تفكيك الواقع من أجل أن يعرف تبعاته ومواجهته للذات إلى جانب مواجهة العدو.

من الممكن أن الشرط الاستعماري لم يسمح بذلك، ولكن يبقى السؤال أين ذهب اليسار ولماذا للفكر أن ينهزم بسرعة السياسة، أو كيف للفكر أن ينهزم وإن كانت تجربته لم تأخذ فرصتها ولم تعط حقها بسبب الشرط الاستعماري، ولكن أيضا يجب الاعتراف بأن اليسار لم يتناول الواقع، لم يتناول الخطاب الديني الرسمي والتحاور معه وما حدث كان حالة من القطيعة بين الطرفين، والنتيجة أننا نشعر بالعيش في مجتمعات تعاني من استقطاب شديد ما بين اليمين واليسار، الحوار بين اليمين وقوى اليسار متطرف جدا.

"عرب 48": ولكن بغياب اليسار يبقى هناك قطب واحد؟

د. البزور: من الناحية الاجتماعية هناك فكرين في الساحة، الفكر العلماني والفكر الديني وقسم من العلمانيين يعتبروا من أصحاب الفكر اليساري سابقا، وهذه الفجوة تتسع باضطراد.

"عرب 48": رغم أن مقالك تناول اليسار الفلسطيني بعد الـ67 الذي تمثل أساسا في الجبهتين الشعبية والديمقراطية، كما ذكرت، إلا أن اليسار الكلاسيكي الذي تمثل بالحزب الشيوعي كان لديه المزيد من الوقت للقيام بالمهمات التي ذكرت، خاصة وأنه لم يتحمل أعباء الكفاح المسلح الفلسطيني، فلماذا لم يفعل؟

د. البزور: صحيح، ولكن في تلك الفترة كان هناك جدل التعامل مع الآخر ونحن نعرف أن الحزب الشيوعي في فلسطين تأسس على أيدي يهود وأن الحالة السياسية كانت تختلف، وأنا قصدت في مقالي الحركات اليسارية التي تأسست على يد الحكيم جورج حبش ورفاقه ومعظمهم من الطبقة الوسطى.

الحالة في الـ48 وغداتها كانت تختلف حيث كانت الأسئلة في كيفية التعامل مع الآخر القادم من أوروبا، هل نعترف أم لا نعترف؟ هل نقر بما أقر به الاتحاد السوفييتي، وهنا أيضا الحالة السياسية هي التي كانت حاضرة في التعامل مع قضية اللجوء والنكبة.

مجرد التفكير في التعامل مع إسرائيل كحالة إشتراكية يدل على مأزق آخر وبالتالي تم تغليب الشأن السياسي على الشأن الاجتماعي، وهذا ما يعبر عنه بالانشقاقات التي وقعت في الحزب الشيوعي الفلسطيني وصولا إلى تحوله إلى الحزب الشيوعي الإسرائيلي ونشوء حزب الشعب الفلسطيني.

المؤتمر الأول للجبهة الشعبية تميز بالانشقاقات والانقسامات ما يوحي بأن تطور الفكر اليساري الفلسطيني لم يكن تطورا طبيعيا أو استجابة لواقع طبقي أو لحركة عمالية، بل هو استحضار ذكي لأجل حاجة سياسية وبالتالي فإن معظم القضايا الاجتماعية التحررية التي تبناها الفكر اليساري كانت تصب في صالح رؤيته التحررية السياسية وليست الاجتماعية.

"عرب 48": ولكن اليسار استطاع لفترة طويلة فرض واقع معين؟

البزور: نعم، في مسألة دعم المرأة وخروج المرأة للعمل والمشاركة السياسية كان بما يخدم في أوقات عديدة السلطة الذكورية، وليس بما يتحداها ويقف لها بالمرصاد، بمعنى أنه لم تحصل مواجهة حقيقية باتجاه مساواة في الحقوق نحو العدالة.

"عرب 48": اليسار استطاع أن يفرض قضايا اجتماعية بحكم السطوة السياسية التي كان يتمتع بها؟

البزور: نعم، سطوة السياسي وبالتأكيد هناك جوانب إيجابية ولكن إذا أجرينا تحليلا نقديا فهل كانت هذه الجوانب الإيجابية لصالح قضايا تحررية محض، أم كانت فقط في خدمة المكون الكفاحي والهدف السياسي، ومن الجدير الإشارة إلى أن هذه الإشكالية لا تقتصر علينا فقط بل هي ظاهرة عالمية فخروج المرأة للعمل نقلها بغياب منظومة اجتماعية كاملة من استغلال واحد إلى استغلالين.

"عرب 48": يبدو أن الموجة العالمية التي اجتاحت اليسار لم تقفز عن فلسطين التي أخلى فيها اليسار مواقعه للتيارات الإسلامية؟

البزور: التحول نحو اليمين هو ظاهرة عالمية حيث نرى ذلك في أوروبا وأميركا، كما أن الخطاب الديني هو شأن عالمي أيضا، وإذا فحصنا من هو حليف هذه القوى لا نستطيع أن نغفل مسألة الشرق الأوسط الجديد وقضية تعاون السعودية مع القوى الإمبريالية وقضية الصراع الإيراني الشيعي السني المفتعل، حيث أصبح الدين والطائفية مكونا أساسيا في التعامل مع الحالة العربية.

هذا إلى جانب الإسلامفوبيا كحالة عالمية خلقتها الرأسمالية التي هي بحاجة للآخر وهذا الآخر يجب شيطنته وإلصاق تهم الإرهاب به من أجل تبرير أعمال النهب والاستغلال، ونرجع هنا للشأن السياسي وهو وجود عالم أحادي القطبية بزعامة أميركا والحاجة لنقيض آخر. الناس لم تجد مظلة أخرى، لم يكن هناك مشروع وطني قومي آخر بعد هزيمة المشروع القومي العربي ومن ثم هزيمة الفكر الاشتراكي اليساري فتم الاتجاه نحو الخطاب الديني وحركات الإسلام السياسي التي وجدت فرصة ذهبية بملء الفراغ.


د. مي البزور: محاضرة في دائرة العلوم الاجتماعية والسلوكية في جامعة بيرزيت. حصلت على درجة الدكتوراه في العلوم الاجتماعية من جامعة لوزان - سويسرا، لها عدة أبحاث منشورة في مجالي علم الاجتماع وعلم النفس السياسي.

بشكل عام تتعلق اهتماماتها البحثية في دراسة العلاقات في ما بين المجموعات البشرية، كتتبع آثار الاتصال البين - مجموعاتي، وقضايا التغيير الاجتماعي، والصراع، والعنف، والهويات الجماعية (كالهوية القومية)، وبشكل أدق، هي تهتم حاليًا بدراسة ظاهرة التطبيع ضمن السياق الاستعماري الاستيطاني في فلسطين.

التعليقات