27/03/2023 - 13:50

كيف نتوقّف عن سلعنة صحّتنا النفسيّة؟

يتحدّث المقال عن رواج ثقافة الصدمة، بحيث يعرف الشخص نفسه عبر الصدمة/الصدمات الّتي مرّ بها دون الانتباه لباقي التجارب الشخصيّة المشاركة في تشكيل هويّات الناس

كيف نتوقّف عن سلعنة صحّتنا النفسيّة؟

(Getty)

طالما كان الجنس البشريّ عرضة للإصابة بصدمة الانتهاكات غير المتوقّعة للجسد والعقل والروح، ولكنّ الطريقة الّتي فهم بها جرح هذه الصدمة على أنّه موضوع للتدخّل القانونيّ والطبّيّ، وليس على أنّه لحظة قدريّة يجب تحمّلها، لم يظهر إلّا مع الحداثة الصناعيّة.

يتّفق أغلب العلماء على أن فهمنا الحديث للصدمة يرجع إلى القرن التاسع عشر، حيث ظهر بلغة قانونيّة وطبّيّة مع حوادث القطارات[1]، والّتي قيل إنّها تسبّب حالة عصبيّة تسمّى «ارتجاج العمود الفقريّ أو إصابة العمود الفقريّ من سكك الجديد». دفعت حوادث القطارات رجال الأعمال المسافرين، من التجّار الرأسماليّين والأفراد من الطبقات المتوسّطة العليا في المملكة المتّحدة، إلى نزاع قانونيّ مع شركات سكك الحديد، حيث عرضهم، لما يسمّيه بروفيسور الأدب روجر لوكهيرست «للعنف التكنولوجيّ الّذي كان يقتصر في أذيّته سابقًا على عمّال المصانع».

نادرًا ما تذكّر الإصابات الّتي تعرّض لها عمّال المصانع في السرديّة الأكاديميّة عن الصدمة، سواء من وجهة نظر أدبيّة أو تاريخيّة، بل يجري في الواقع تجاهل الإصابات الصناعيّة للطبقة العاملة إلى حدّ كبير في الأدبيّات المتعلّقة بحوادث القطارات.

كتب لوكهيرست: «نظرًا للتوسّع المحموم لخطوط سكك الحديد منذ أربعينيّات القرن التاسع عشر والمدفوع بشركات السوق الحرّة، صارت الإصابات مسؤوليّة ومخاطرة قانونيّة وطبّيّة». وعندما قضت المحكمة بمنح السيّد شيبرد تعويضات في عام 1862 لعدم قدرته على ممارسة الأعمال التجاريّة بعد إصابته في حادث قطار، استشهدت بالمفهوم الطبّيّ «ارتجاج العمود الفقريّ» باعتباره شكلًا من أشكال الضرر الّذي يصيب الجهاز العصبيّ الكامل للمرء، وعلى الرغم من عدم وجود أيّة جروح جسديّة بائنة، تسبّبت هذه الحالة في اضطرابات عصبيّة لم يشهدها الناس قبلًا.

لا تنفصل الصدمة كما نفهمها اليوم عن ظهور الرأسماليّة الصناعيّة ثمّ الماليّة، ومنذ «ارتجاج العمود الفقريّ» صارت الصدمة مصدرًا مدرًّا للربح: خلقت التقنيّات الحديثة آلامًا حديثة لا يعالجها الكهنة ولا الشامان[2]، ولكن يعالجها الخبراء القانونيّون أو الأطبّاء النفسيّون. يعتبر هذا التاريخ لظهور الصدمة كتصنيف قانونيّ وماليّ حاسم لتطوير التكوين الطبقيّ للرأسماليّة الصناعيّة ومن ثمّ الماليّة، وغالبًا ما يتجاهله خبراء الصدمة، والّذين يكونون في معظم الأوقات من علماء نفس أو مساعدي التطوير الذاتيّ (غورو).

تعزّز الطريقة الّتي نتناول بها الصدمة اليوم، ونميّزها في الخطاب العامّ، وسأشير لها باسم ثقافة الصدمة، أيديولوجيّة المعاناة الفرديّة والّتي تعدّ جزءًا لا يتجزّأ من ثقافة فقدان الذاكرة الراسخة في مشهديّة الرأسماليّة المتأخّرة. تدمّر ثقافة الصدمة الأرضيّة السياسيّة والتاريخيّة اللازمة لوضع نقد للرأسماليّة؛ وقد عملت ثقافة الصدمة منذ نهاية الحرب الباردة بلا كلل تحت ستار السياسة التقدّميّة لنزع الصفة السياسيّة عن المجال العامّ (To Depoliticize the Public Sphere).

ساعدت الطبقة المهنيّة الإداريّة (The Professional Managerial Class)[3] في تعزيز هذه الثقافة، إلى جانب خيالات مثل أنّ القلق الماليّ والتوتّر ليست إلّا حالات مؤقّتة، ويمكن التغلّب عليها من خلال العمل الشاقّ والمنافسة والتعليم. ظهرت هذه الطبقة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كطبقة وسطى بين البرجوازيّة، الّتي تعيش على الصناديق الائتمانيّة والفوائد، وبين الطبقة العاملة الّتي عملت بجدّ لتحقيق الثروة لمستغلّيها. تألّفت الطبقة المهنيّة الإداريّة من موظّفي الياقات البيضاء أصحاب المرتّبات والمؤهّلات تعليميّة الّتي صقلت في مؤسّسات التعليم العالي، وتوسّعت وتمكّنت في موجتين في الولايات المتّحدة: انبثقت الأولى من العصر التقدّميّ، وأنتجت العلماء الاجتماعيّين، والمهندسين، والاقتصاديّين، وخبراء السياسات والّذين يمكنهم شغل الشواغر الّتي أتاحتها «الصفقة الجديدة»[4]، وحدثت الموجة الثانية خلال الحرب الباردة، مع التوسّع السريع للمجمّع الصناعيّ العسكريّ[5].

تعتبر ثقافة الصدمة المعاناة على المستوى الفرديّ موقعًا متميّزًا للنضال السياسيّ، وترث بهذا الشعار المبتذل من الستّينيّات: «الشخصيّ سياسيّ»[6]، إلّا أنّها بذلك تقوم بتوحيد وتسويق معاناة الأفراد، من خلال ما عرفته عالمة الاجتماع إيڤا إلوز على أنّها «سرديّة الصدمة»، قصّة ببطل بريء وممزّق ومدمّر يستعيد بعدها ذاته، ويصدر نفسه ناجيًا، وتكون مكتوبة بإحكام، وتمنح القصص الفرديّة معان مألوفة يسهل ترويجها والتعامل معها بين الناس.

يجب أن يكون الهدف من العلاج النفسيّ هو التركيز اللاواعي على الموادّ/الذكريات الصادمة، ويمكن أن يحدث هذا فقط على المستوى الفرديّ. والتحليل النفسيّ كما فهمته وعشته يساعد الفرد الّذي يعاني على التخلّي عن ارتباطه بماضيه المؤلم، وهذا العلاج ليس سياسيًّا، بل شخصيًّا. تمنعنا ثقافة الصدمة، من الخلط بين الشخصيّ والسياسيّ بشكل مستمرّ، من رؤية الظروف المادّيّة للعمل المأجور كموقع مناسب للنضال السياسيّ. وجدت الطبقة العاملة نفسها منذ فجر الرأسماليّة الصناعيّة في مواجهة الرأسماليّة الّتي تسعى إلى مراقبة واستغلال واستخراج كلّ جزء من قوّة العمل من عمّالها. كلّما زادت معاناة الطبقة العاملة، زادت أرباح الرأسماليّ. ساعدت ثقافة الصدمة من خلال التركيز على جميع أشكال الصدمات باستثناء الاستغلال في التستّر على العنف الاقتصاديّ في قلب سياسات الاقتصاد الكلّيّ النيوليبراليّة.

لثقافة الصدمة دور مهمّ في المساعدة على توجيه الضحايا المنفصلين للرأسماليّة المتأخّرة باتّجاه مسار الحراك الاجتماعيّ، فمن يعيشون في عائلات لم يعد الآباء يمثّلون فيها نماذج للسلطة الأخلاقيّة، بما فيهم أنا، يتوقون إلى شكل مختلف من الأسس الأخلاقيّة، ولكن في حين ساعدتنا اللغة العلاجيّة للمعاناة على إيجاد طرق للتعبير عمّا تعرّضنا له، إلّا أنّها دفعتنا إلى أحضان السوق. تزوّدنا ثقافة الصدمة بأدوات نفسيّة لتحريرنا من الهيمنة التقليديّة للثقافة الإقطاعيّة الأبويّة، إلّا أنّها تجهّزنا وتجعلنا أكثر قابليّة للسلعنة في السوق الاستهلاكيّة.

(Getty)

أصدرت روتليدج، الّتي تدّعي أنّها أهمّ دار نشر أكاديميّة للعلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة في العالم، وتنشر بانتظام مختارات محوريّة في مجالاتها، في عام 2020 مجلّدًا في 500 صفحة تقريبًا بعنوان «دليل روتليدج للأدب والصدمات»، وبعد عمليّة بحث سريعة عن بعض العبارات، يتبيّن لنا وجود نقاش ضئيل حول المصاعب الاقتصاديّة في الكتاب، ولم تذكر «الأزمة الاقتصاديّة» إلّا مرّة واحدة.

يعرف محرّرا المختارات، كولين ديڤيس وهانا ميريتوجا، الصدمة بأنّها «إصابة نفسيّة، ضرر دائم يلحق بالأفراد أو المجتمعات بسبب الأحداث المأساويّة/الصادمة أو الكرب الشديد»، ويبدو أنّ «الأحداث المأساويّة/الصادمة» خارجة عن سيطرة الإنسان، لاحظوا طريقة التعريف في استخدام صيغة «ضرر يلحق»؛ كما أنّ ميل المحرّرين لاختيار الصدمة النفسيّة والتركيز عليها بدلًا من الصدمة الجسديّة يروّج لمفهوم الصدمة عند أصحاب الياقات البيضاء، عوضًا عن الطبقات الأخرى.

استخلص روّاد دراسات الصدمة فكرة محدّدة جدًّا عن الإصابة النفسيّة وطبيعتها النصّيّة واللغويّة غير الجسديّة من سيغموند فرويد، حيث وجد فرويد، عند علاج الجنود العائدين من الحرب العالميّة الأولى، أنّ الضرر النفسيّ يمكن أن يكون عميقًا وطويل الأمد مثل الإصابة الجسديّة. وفي حين أنّ بعض قدامى المحاربين الّذين عالجهم خرجوا من تجاربهم الحربيّة المرهقة سليمين جسديًّا، إلّا أنّهم عانوا لاحقًا من أعراض نفسيّة حادّة، دفنت تأثيراتها ومعانيها في اللاوعي، وكان يمكن استرجاعها من خلال العلاج بالكلام.

يحاجّ ديڤيس وميريتوجا بأنّ الصدمة مفهوم أساسيّ لفهم الأدب والتجربة الإنسانيّة في الحداثة، إلّا حداثتهما بالكاد تأخذ في الاعتبار الصناعة والاقتصاد، إذ تركّز أعمالهما على الإبادة الجماعيّة وأعمال العنف المروّعة، وهو ما يصعب أو يجعل من المستحيل انتقاد عملهما، دون أن يظهر المنتقد شرّيرًا. توصف الأنشطة المتميّزة الّتي تروّج لها المختارات بعبارات روحيّة ومتسامية: التنظير والشهادة والتذكّر والتفكير، وينظر الكتاب إلى نهجهم في قراءة الفظائع المروّعة وتحليلها باعتباره موقفًا متفوّقًا أخلاقيًّا يخدم أعلى درجات الصالح السياسيّ.

ارتأت الحركة اليساريّة الجديدة المناهضة للحرب والحركة النسائيّة تحويل المعاناة الخاصّة إلى قضايا رأي عامّ، إذ اختمر شعار «الشخصيّ سياسيّ» في ظلّ اندلاع الاحتجاجات المناهضة للحرب والنشاط السياسيّ النسويّ، وأعادت فئة من الخبراء الليبراليّين تأطير المعاناة على أنّها صدمة من ناحيتين مقسّمتين على أسس جندريّة: صدمة الحرب والعنف الجنسيّ.

أدّت دعوة عالم النفس المناهض للحرب روبرت جاي ليفتون إلى قدامى المحاربين في فيتنام إلى إدخال اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) في الطبعة الثالثة من الدليل التشخيصيّ والإحصائيّ للاضطرابات العقليّة (DSM III) في عام 1980، وتعترف شركات التأمين والأطبّاء النفسيّين على حدّ سواء بالاضطرابات المنشورة في الدليل. في تحليل ليفتون لمجموعات المناقشة الّتي عقدت في مكتب نيويورك لمحاربي فيتنام القدامى المناهضين للحرب، افترض أنّ الاكتشاف الجماعيّ للذنب والمعاناة سيؤدّيان إلى التعافي والنشاط السياسيّ المناهض للحرب.

وفي حين ركّز ليفتون في الغالب على قدامى المحاربين الذكور في حرب فيتنام، صار كتاب الطبيبة النفسيّة جوديث هيرمان «الصدمة والتعافي» الكتاب المدرسيّ النسويّ للصدمات الجنسيّة على الجانب الآخر من الطيف الجندريّ في علاج الصدمات؛ لم تكتف هيرمان بإعطاء معنى جديد لتجارب النساء اللّواتي تعرّضن للاعتداء الجنسيّ، وتعرّضن لسوء المعاملة من قبل علماء النفس والنظام القانونيّ فحسب، بل حرصت على تسييس مثل هذا العنف وعمليّات التعافي باعتبارها قضايا تتعلّق الجنس والهيمنة.

روّج التقدّميّون منذ أوائل السبعينيّات لشكل مبكّر من سرديّة الصدمة: سيؤدّي إعلان وتعميم لغة الصدمة إلى العمل والنشاط السياسيّ، أي عبر تغيير فكرة المجال العامّ دون تغيير الرأسماليّة. تقدّم كلّ ديانات العالم العون والراحة لمن يعاني، وترى العديد من التقاليد الدينيّة المعاناة على أنّها وسيلة للتواصل مع الآخرين ومع الإله، كما هو الحال في المسيحيّة، حيث ينظر إلى الإله نفسه على أنّه عانى. ومع تراجع المعتقدات الدينيّة، سيكشف علماء النفس والخبراء من الآن فصاعدًا للجمهور معنى الصدمة وطرق التغلّب عليها.

لسوء الحظّ، سمح انخفاض معدّل ربح الرأسماليّة في هذا الوقت بوضع سياسات اقتصاديّة قاسية من شأنها إلحاق الضرر بالفقراء والطبقات العاملة في العالم الناطق باللغة الإنجليزيّة، وتكافئ في الوقت نفسه من هم في القمّة. كان الليبراليّون الجدد مثل ميلتون فريدمان، الّذي همّشه الكينزيّين[7] في فترة ما بعد الحرب، من المدافعين عن نموذج التحفيز الاقتصاديّ الهادف إلى عكس توزيع الثروة على الطبقات العاملة[8] والّذي تأسّس بعد الحرب العالميّة الثانية. لقد أدرك أصحاب رأس المال، الّذين يشهدون معدّلات ربح متدنّية، أنّه يجب معاقبة الطبقة العاملة ماليًّا ردًّا على السخط العمّاليّ المنظّم، في حين أنّه يمكن مكافأة النخب المؤهّلة بسخاء لتعزيزهم إقامة نظام عالميّ يقوم على أيديولوجيّة السوق الحرّة.

وصف الاقتصاديّون النيوليبراليّون تجميد أجور الطبقة العاملة والإعانات الاجتماعيّة على أنّها منشّطات ضروريّة لتحفيز الاقتصادات الوطنيّة والعالميّة الراكدة. خفّضت الضرائب للشركات والأثرياء، مع تخفيض تكاليف العمالة في الوقت نفسه من خلال الاستعانة بمصادر خارجيّة لوظائف التصنيع، هو ما سمح لأصحاب رأس المال بتوفير ما يكفي من المال من أجور الطبقة العاملة لمنح النخبة من ذوي الياقات البيضاء حصّة أكبر من فائض القيمة.

يعتبر العاملون في الطبقة المهنيّة الإداريّة من أعلى الموظّفين دخلًا: لديهم شهادات جامعيّة وخبرات مهنيّة، ويديرون موظّفين آخرين لصالح الرؤساء. كان المهنيّون ذوو الياقات البيضاء في بداية القرن العشرين يشكّلون جزءًا صغيرًا، ولكن متزايدًا من القوّة العاملة الأميركيّة: في تحليل الاقتصاديّ السياسيّ هاري برافرمان، في عام 1870، كان الكتبة، سلف العمّال ذوي الياقات البيضاء، يشكّلون نسبة أقلّ من القوّة العاملة من العمّال المأجورين وأكثر بقليل من خدم الأسرة.

ركّز المؤلّفان جون وباربارا إيرينرايش في تحليلهما للقوّة المتنامية للطبقة المهنيّة الإداريّة في عام 1977 على سبل سيطرتها على المهن الليبراليّة، من الأكاديميّة ووسائل الإعلام إلى المنظّمات السياسيّة التقدّميّة. أكّدت في كتابي «مكتنزو الفضيلة: قضيّتي ضدّ الطبقة المهنيّة الإداريّة» على ازدراء هذه الطبقة للطبقة العاملة. أظهرت السياسات الاقتصاديّة الّتي وضعها رئيس الطبقة المهنيّة الإداريّة بيل كلينتون أنّ هذا الازدراء لم يكن ثقافيًّا بحتًا: لقد أشرف خبراء ومديرون اقتصاديّون في إدارته على التجارة الحرّة والعولمة، وأدّى إلى تدمير اقتصاديّ للصناعة والزراعة الأميركيّة لصالح أرباح الشركات. كانت الطبقة المهنيّة الإداريّة خادمة للرأسماليّة، تمامًا كما كان كاتب العائلة خادمًا لمصالح شركة العائلة في عام 1870.

قامت الطبقة المهنيّة الإداريّة، في مقابل حصّتها من الأرباح المستخرجة من العمالة، بأعمال لا نهاية لها لإعادة الإنتاج الأيديولوجيّ، ولتهميش القضايا الاقتصاديّة لصالح حروب ثقافيّة لا حصر لها. عزّز إنتاج محتوى الطبقة المهنيّة الإداريّة على منصّات الشركات قبضتها على المفاهيم غير السياسيّة للصدمة والمعاناة والشفاء من أجل تعزيز انتصارها على الليبراليّة الكلاسيكيّة واحتضانها للسياسات المناهضة للديمقراطيّة. نجحت الطبقة المهنيّة الإداريّة الليبراليّة في إعادة تأطير المجال العامّ لوسائل الإعلام الأميركيّة باعتباره مجالًا أصبحت فيه هويّة «الناجي» موضوعًا سياسيًّا متميّزًا، وأكثر أهمّيّة من المفهوم القديم للعامل، وبهذه الطريقة، تمكّنت سرديّة الصدمة من تهميش تقسيم العمل واستغلال العمالة.

يمكن رؤية هذه الديناميكيّة في الطريقة الّتي ظهر بها مجال دراسات الصدمة في الأوساط الأكاديميّة في التسعينيّات، حيث تأسّس بطريقة تهاجم التاريخ والفهم التاريخيّ، وتساهم في التعتيم على طريقة عمل الرأسماليّة. ترجع بدايات هذا الحقل إلى صدمة المفكّرتين الرائدتين فيه، شوشانا فيلمان[9] وكاثي كاروث[10]، وكلتيهما كنّ من الطلّاب المخلصين لأستاذ الأدب في جامعة ييل پول دي مان حينما اكتشف الباحث أورتوين دي جريف بعد وفاة دي مان في عام 1983، أنّه كتب مقالات تحشد بالدعاية المعادية للساميّة لصحيفة كتب فيها النازيّون في بلجيكا المحتلّة.

بعد الكشف عن ماضي پول دي مان وعلاقته بالنازيّة، حاول طلّابه السابقون الدفاع عن النظريّة الأدبيّة والتفكيك من خلال إنشاء نهج جديد يسمّى دراسات الصدمة. ركّزت كاروث على الهولوكوست بوصفه حدثًا تسبّب بتمزّق في نسيج التجربة الإنسانيّة ذاتها، واعتمدت الباحثتان مصطلح پول دي مان «أپوريا Aporia»[11]، والّذي يعني مأزقًا منطقيًّا أو لغويًّا يشير إلى صعوبة، أو إلى فتق، باعتباره حاسمًا لفهم المنطق الزمنيّ الغامض للضرر النفسيّ. تبنّت كاروث وفيلمان الأهمّيّة الأخلاقيّة للقراءة المتروّية (Close reading) عند جاك دريدا، وللاحترام الهايدغري لعدم معرفة «الآخر» أو استحالة الوصول إليه أو صعوبة التعامل معه.

كتبت كاروث كتابها «التجربة المنبوذة: الصدمة النفسيّة، السرد والتاريخ[12]»، والّذي يعتبر نصًّا أساسيًّا في دراسات الصدمة، عندما كانت فضيحة دي مان ما تزال حاضرة في أذهان الجميع، إلّا أنّ الكتاب أشار إلى أنّ طبقة النخبة فقط هي الّتي تستطيع فهم التاريخ تمامًا، حيث إنّها تتعامل مع الصدمة وتأثيرها على السرد والتاريخ:

سأجادل من خلال مفهوم الصدمة أنّه يمكننا فهم أنّ إعادة التفكير في المرجع لا يهدف إلى القضاء على التاريخ، بل إلى إعادة وضعه في سياق يسمح بفهم أعمق لتأثير الصدمة على فهمنا للتاريخ، وهو ما يمكننا من التعرّف على التاريخ واستكشافه في مواقف كان فهمه المباشر فيها صعبًا.

بعبارة أخرى، لن يفهم الأشخاص العاديّون الّذين لا يملكون المعرفة اللازمة في نظريّة الصدمة، أي الأشخاص الّذين يؤمنون بالفهم المباشر، ما حدث في الماضي. وكما أوضحت في كتاب «مكتنزو الفضيلة»، صارت نخب الطبقة المهنيّة الإداريّة بارعة في هذا النوع من التحرّكات المبهمة: جعل الأفكار العاديّة وسهلة الاستيعاب والوصول غير مفهومة ومليئة بالتناقضات المستحيلة، تمامًا كما فعلوا مع الفهم التاريخيّ.

لم تكن دراسات الصدمات، على الرغم من ادّعاءاتها أبدًا تحليلًا نفسيًّا حقيقيًّا، حيث أهمل الأكاديميّون والمنظرون جانبًا مهمًّا من نظريّات فرويد حول صدمة القصف[13] والتكرار القهريّ[14]: تثير كلّ صدمة اضطرابًا نرجسيًّا، وهو اضطراب يحتاج إلى معالجة، واستخدم فرويد العلاج بالكلام على وجه التحديد ليكتشف المرء تواطؤ الأنا في خلق نرجسيّة ثانويّة، حيث يحدث تفاعل كرب القتال (War Neurosis) أو اضطراب ما بعد الصدمة، والّتي تكون محاولة لتخدير الصدمة أو السيطرة عليها.

من المحتمل أن يكون تعاطف دي مان مع النازيّة قد أدّى لصدمة لدى طلّابه السابقين، وقد سمحت لهم دراسات الصدمة بمعالجة اضطرابهم النرجسيّ عبر تحويله إلى شكل احترافيّ من الشهادة، وقد انطوى ذلك على أشكال مبسّطة من الاستماع الّذي وحّد تجارب الأفراد المصابين بصدمات نفسيّة مشابهًا، واتّبع سردًا مألوفًا للتمزّق والتعافي يوفّر الطمأنينة للمتضرّرين.

يستخدم سرد الصدمة الآن، في القرن الحادي والعشرين، لسلعنة الصحّة النفسيّة بوصفها مجالًا للتجربة الّتي يمكن مشاركتها ومعالجتها جماعيًّا عبر الإنترنت. وكما وثقت شوشانا زوبوف في كتابها «عصر رأسماليّة المراقبة»، جعل سيرجي برين (مؤسّس شريك لغوغل) ومارك زوكربيرغ جمع البيانات حول سلوك المستخدمين عبر الإنترنت وبيعها للمعلنين جزءًا من استراتيجيّات أعمال شركتيهما. ونظرًا لأنّ المعاناة الشخصيّة والكرب يشكّلان نشاطنا عبر الإنترنت، فإنّنا نقدّم معلومات قيّمة لمنصّات التواصل الاجتماعيّ، ما يسمح لهم بتقديم إعلانات لنا تستغلّ نقاط ضعفنا الاقتصاديّة والنفسيّة.

أصبح محتوى الصدمة اليوم طريقة سهلة للمشاهير والسياسيّين للترويج لأنفسهم، ويمكننا من خلال دراسة كيفيّة نشرهم لصدماتهم المؤطّرة أيديولوجيًّا على وسائل التواصل الاجتماعيّة لخلق حميمة زائفة باسم خطاب الصحّة العقليّة الرقميّة أن نفهم التحوّل في المجال العامّ الّذي حدث في عصر ما بعد الصناعة. وبينما كانت كاروث تكتب عن الصدمة، وتؤسّس مجالًا جديدًا للدراسة الأدبيّة، كانت أوبرا وينفري تحوّل حساسيّة شعار اليسار الجديد «الشخصيّ سياسيّ» إلى محتوى صديق للإعلام؛ وعلى الرغم من عدم مشاركتها في أيّ من أشكال الراديكاليّة السياسيّة، إلّا أنّها استخدمت لغة الفداء والانعتاق لبناء علامة تجاريّة إعلاميّة فريدة لنفسها.

كانت وينفري بارعة في الحميمة المتلفّزة: لقد فهمت الوسيلة وجمهورها ودور التلفزيون في تعريف السوق من خلال إدخال السوق نفسه في نسيج ممارسات الاستهلاك المنزليّ الّتي تقوم بها النساء بالمقام الأوّل. اعترفت في عام 1986 بأنّها كانت ضحيّة لاعتداء جنسيّ في طفولتها «قد تتحرّك الخزانة الّتي يختبئ فيها الكثير من ضحايا الاعتداء الجنسيّ ومعتديهم، وقد يدخل إليها بعض الضوء»[15]. تمكّنت وينفري ببراعة، باستخدام صورة الخزانة، من دمج لغة تحرّر المثليّين دون تخويف جمهورها، والّذي كان في أغلبه من النساء البيض اللاتي يعشن في الضواحي، عبر الحديث عن المثليّين مباشرة.

(Getty)

يمكن فهم نجاح وينفّري بطريقة أخرى كنتيجة للاضطرابات السياسيّة والتحوّل السياسيّ في الستّينيّات: حركة الحقوق المدنيّة. تردّد وينفّري في برنامجها، وفي مناشداتها من أجل الشفاء والاعتراف، نداءات الدعاة والقادة السياسيّين الأميركيّين من أصل أفريقيّ، لكن دون فحواها السياسيّ. تتجاوز جاذبيّتها العرق، ويمكن فهم نجاحها وقوّتها على أنّها تحقيق فرد واحد لحلم مارتن لوثر كينج الابن الأوسع بتحقيق العدالة العرقيّة.

شاركت وينفّري في إطلاق مسلسل مع الأمير هاري بعنوان «أنا الّذي لا ترونه The Me You Can’t See» في عام 2021 على أبل تي ڨي وتقدّم فيه شرحًا لمعاناتها في طفولتها، وتقدّم مساحة إعلاميّة للمشاهير مثل غلّين كلوز وليدي غاغًا للحديث عن تجاربهم مع العنف والصدمات. المشاهير والشخصيّات السياسيّة مدعوّون للحديث علنًا عن أكثر تجارب معاناتهم خصوصيّة بمساعدة وينفري، ويمكن للمشاهير الخروج من الخزانة كـ «ناجين».

يخفّف الفاعلون السياسيّون الليبراليّون والتقدّميّون، على نفس المنوال، الحدود بين الشخصيّ والسياسيّ لإقناع جماهيرهم بمعاناتهم وأصالتهم. تحدّثت ألكساندريا أوكاسيو-كورتيز في بثّ مباشر على حسابها في إنستغرام في عن تجربتها لما حصل مع أحداث الشغب في 6 يناير 2020، حيث وصفت اختباءها في مكتبها في ذلك اليوم، وأنّها كانت متأكّدة من أنّها ستتعرّض للاعتداء الجسديّ. اعترفت أوكاسيو-كورتيز في أثناء البثّ أيضًا، أمام ملايين المتابعين، بأنّ التجربة المرعبة أثارت ذكرياتها عن تعرّضها لاعتداء جنسيّ، مضيفة أنّ الكثير من الناس في حياتها لم يعرفوا حتّى إنّها كانت قد نجت من اعتداء جنسيّ. قامت أوكاسيو-كورتيز، وهي مستخدمة بارعة لوسائل التواصل الاجتماعيّ، بعمليّتين متزامنتين للكشف عن الذات يمكن أن تمنحا مؤيّديها والمشاهدين إحساسًا بالتواصل المباشر مع تجربتها مع العنف.

كانت الصدمة، بسرديّتها ومؤامراتها ونظريّاته، بحلول عام 2021 قد حجزت لنفسها مكانًا حاضرًا في صناعة الثقافة الناطقة بالإنجليزيّة، من إنتاج المحتوى إلى الروح الإداريّة. من فيلم ديزني «إنكانتو Encanto» إلى رواية جيسون موت الحائزة على الجائزة الوطنيّة للكتاب «Hell of a book»، احتلّت الصدمة مركز الصدارة في السرديّات الّتي تنتجها الطبقة المهنيّة الإداريّة الليبراليّة وتستهلكها. كان انتشار الصدمة كمحتوى ثقافيّ في كلّ مكان انتصارًا هائلًا غير مشهود لعلماء النفس التقدّميّين وأساتذة الأدب. لقد طغت أفكارهم حول الصدمة على كلّ الأفكار الأخرى عن المعاناة النفسيّة، واستخدمت لتعزيز «المرونة» كشكل محدّد للغاية من أشكال التعافي والشفاء.

أدّى انتشار سرديّة الصدمة في الأشهر الأخيرة من عام 2021 في كلّ مكان في النهاية إلى ردّ فعل إعلاميّ صغير، قاده النقّاد الأدبيّون والثقافيّون: پارول سيغال من صحيفة ذا نيويوركر وويل سيلف من مجلّة هارپر. وفي حين تحدّث سيغال وسيلفّ عن الإرهاق من ثقافة الصدمة، إلّا أنّ انتقاد ما يسمّيه سيغال بازدراء «مؤامرة الصدمة» لا يأتي على انتزاع الصفة السياسيّة عن ثقافة الصدمة البتّة؛ وارتكز نقد سيلف على أسس نظريّة وتاريخيّة أكثر ما جعله أكثر عمليّة من نقد سيغال لدور ثقافة الصدمة في انحدار الأشكال الجماليّة، ومع ذلك، فقد فشل في الحديث عمّا تفعله الصدمة في وقتنا الحاضر. ما يزال المجال العامّ المجزأ تهيمن عليه قيم الطبقة المهنيّة الإداريّة، الملتزمة بتسييل التجارب الشخصيّة وتحويلها إلى مصدر ربح. وعلى الرغم من الانتشار المتزايد لثقافة الصدمة، إلّا أنّنا لسنا حذرين تجاه ميلها لتعزيز الأفكار النيوليبراليّة حول التاريخ والسياسة والمعاناة الإنسانيّة لدينا. لقد تركنا قبولنا بسرديّة الصدمة، كمجتمع، غير مستعدّين لمعالجة المعاناة المنتشرة باستخدام حلول سياسيّة عمليّة.

تظهر ثقافة الصدمة لملء فجوة في وصوليّة الرعاية الصحّيّة النفسيّة: غالبًا ما يتقاضى المحلّلون النفسيّون أكثر من مائة دولار في الساعة، ما يجعل علاج الصحّة النفسيّة الفرديّ الّذي ابتكره فرويد وأتباعه مكلّفًا، ولا يمكن للكثير من الناس تحمّله. تقدّم إدارات الرعاية الصحّيّة جلسات محدودة مع شبكة من الأخصّائيّين النفسيّين الّذين يجدون أنفسهم تحت ضغط متزايد لتحقيق نتائج سريعة لمرضاهم، ونتيجة لذلك، يختار بعض الأخصّائيّين النفسيّين ترك شبكات التأمين الصحّيّ، لو كان بإمكانهم تركها. ليس من المستغرب أن يتطلّع الناس إلى المشاهير أو وسائل التواصل الاجتماعيّ أو دراسات الصدمة لإيجاد معنى لألمهم ومعاناتهم.

إن كنّا نسعى إلى توفير شكل مسؤول اجتماعيًّا من المحاسبة العامّة والجماعيّة مع الصدمات والمعاناة الإنسانيّة، فعلينا أن نبدأ أوّلًا، دون تنازل، بإلغاء سلعنة الصحّة النفسيّة. أحبّ أن أتخيّل الطبّ، وقد صار «مؤمّمًا» لإلغاء دافع الربح من نظام الرعاية الصحّيّة، وبالتالي جعل التحليل النفسيّ وعلم النفس الديناميكيّ وأشكال أخرى من العلاج عالية الجودة متاحة لجميع الأميركيّين. لا يمكن للثقافة الشعبيّة ووسائل التواصل الاجتماعيّ والنظريّات الأكاديميّة أن تقدّم علاجًا حقيقيًّا للأفراد، بل يجب علينا خوض صراع سياسيّ لحماية التجارب المعاناة الخاصّة والصدمات من وعود السوق وخوارزميّات رأسماليّة المراقبة.


إحالات:

[1] بالإشارة إلى حوادث تحطّم القطارات أو اصطدامها، وتتحدّث هذه الحالة عن مرض أو صدمة غير مرئيّة على شكل جروح، وهو ما نأى بشركات السكك الحديديّة في البداية عن تصديق المصابين، وادعوا أنّ إصابتهم زائفة. ربط عالم الأصحاب الألمانيّ هيرمان أوبنهايم بين كلّ أعراض «ارتجاج العمود الفقريّ» وبين إصابات فيزيائيّة تحصل للعمود الفقريّ والدماغ، في حين رأى العلماء البريطانيّون والفرنسيّون أنّه يمكن تفسير الحالة عبر الهستيريا، تطوّرت هذه الحالة لتصير ضمن ما يدرس في «اضطراب ما بعد الصدمة».

[2] خبراء دينيّون يؤدّون في الثقافات الأصليّة والمجتمعات التقليديّة دور المعالجين أو الأنبياء أو الحماة لثقافة معيّنة.

[3] وضع المصطلح لأوّل مرّة جون وباربارا إيرينرايش حيث افترضوا وجود طبقة أخرى في الرأسماليّة لم تكن تنضوي تحت الطبقة البرجوازيّة ولا طبقة البروليتاريا، وتتميّز هذه الطبقة عن غيرها من الطبقات بفئات من المهنيّين أصحاب التدريب والتعليم العالي، ويحملون مؤهّلات تعليميّة وأصحاب خبرة تجاريّة. استخدم هذا الإطار التحليليّ لاحقًا في النقاشات الماركسيّة لدراسة الموظّفين غير البروليتاريّين، إلّا أنّ الماركسيّين الأرثوذكسيّين اعتبروه تحريفًا لفهم ماركس للطبقات.

[4] مجموعة من البرامج الاقتصاديّة الّتي أطلقها الرئيس الأميركيّ فرانكلين روزفلت بين 1933 و1936 استجابة للكساد العظيم، وتركّزت على تقديم المساعدة في ثلاث خانات أو كما أسماها علماء الاقتصاد الألفات الثلاثة «الإغاثة والإنعاش والإصلاح»، وتعني إغاثة العاطلين والفقراء وإنعاش الاقتصاد ليعود إلى طبيعته، وإصلاح النظام الماليّ بما يمنع حصول كساد كبير آخر.

[5] مصطلح يصف العلاقة الماليّة والسياسيّة القائمة بين المشرّعين والقوّات المسلّحة الوطنيّة والصناعات العسكريّة الّتي تدعمها وتتضمّن المساهمة السياسيّة والموافقة السياسيّة على الإنفاق العسكريّ، وأعمال الوساطة لدعم البيروقراطيّات، والإشراف على الصناعات.

[6] أو الخاصّ سياسيّ أو الشخصيّ هو السياسيّ.

[7] أتباع مدرسة جون مينارد كينز في الاقتصاد، والّتي يعتقد فيها بأنّ اتّجاهات الاقتصاد الكلّيّ تحدّد إلى حدّ بعيد سلوك الأفراد على مستوى الاقتصاد الجزئيّ، وقد كتب كتاب «النظريّة العامّة للتوظيف والفائدة والنقد»، والّذي كان له أثره العميق على الفكر الاقتصاديّ.

[8] يشرّ هنا إلى الازدهار الاقتصاديّ في عدّة أجزاء من العالم، وخصوصًا الولايات المتّحدة الأميركيّة، حيث عرفت تلك الفترة والّتي استمرّت حتّى كساد 1973 – 1975 على أنّها الفترة الذهبيّة للرأسماليّة، ويجادل علماء الاقتصاد أنّ السبب في هذا الازدهار يعود إلى تطبيق سياسات الاقتصاد الكينزيّة (جون مينارد كينز)، كما تعود إلى أسباب أخرى منها توزيع النموّ الاقتصاديّ بين الطبقات كافّة على حدّ سواء نظرًا لنشاط النقابات العمّاليّة في تلك الفترة. على الصعيد العالميّ، كان للتعاون الدوليّ بعد الحرب العالميّة الثانية دور كبير في تنويع الاقتصادات وتحفيز التصدير والتجارة، وهو ما ساعد تعزيز الازدهار في كثير من دول العالم، حتّى تلك الّتي أنهكتها الحرب، مثل اليابان.

[9] شوشانا فيلمان، ناقدة أدبيّة ومنظرة ثقافيّة اشتهرت بعملها على العلاقة بين الأدب والتحليل النفسيّ، ويستكشف كتابها «الكتابة والجنون: (الأدب/الفلسفة/التحليل النفسيّ)» سبل تقاطع الأدب والتحليل النفسيّ، وكيف يمكن استخدامهما لفهم بعضهما. يؤكّد عمل فيلمان على أهمّيّة اللاوعي في كلّ من الأدب والتحليل النفسيّ، ويجادل بأنّ المجالين يشتركان في بحثهما في طبيعة الذاتيّة البشريّة. كان لعملها تأثير كبير في مجال الدراسات الأدبيّة والثقافيّة، وأثر على العديد من العلماء والباحثين.

[10] كاثي كاروث، بروفيسورة الأدب المقارن في جامعة ييل (سابقًا)، وجامعة إيموري، وطوّرت في مسيرتها أرشيفًا لشهادات الهولوكوست، ونظّمت مؤتمرًا وطنيًّا عابرًا للتخصّصات للحديث حول الصدمات النفسيّة. ترى كاروث أنّه لا يمكن فهم الصدمة ومعالجتها من خلال الوسائل التقليديّة للسرد والحديث، بل تتطلّب شكلًا فريدًا من القصّ، والّذي يقوم على رواية الحدث الصادم مرارًا وتكرارًا.

[11] منطقة الشكّ أو المنطقة العمياء الّتي تدمّر سلطة اللغة الشارحة؛ ممّا يخلخل وضع اللغة، ويفقدها المناعة الأكيدة لمقاومة القراءات الجديدة أو منعها. تأتي الكلمة من اليونانيّة القديمة، وتعني «التناقض/اللغة/الطريق المسدود/المتاهة» ويعتقد جاك دريدًا بأنّ كلّ نصّ يحتوي على ثغرات وتناقضات، وبالتّالي تكون القراءة التفكيكيّة الديرداويّة عبر البحث عن هذه الثغرات والألغاز، وبالتالي توسيع فهم النصّ عبر استكشاف هذه التناقضات وإظهار التعقيد الكامن وراء النصّ.

[12] نشر الكتاب مترجمًا باللغة العربيّة عن دار ألكا ومن ترجمة وتقديم يوسف حمدان في عام 2021.

[13] صدمة القصف (Shell Shock) مصطلح من صياغة عالم النفس البريطانيّ تشارلز مايرز يصف واحدة من اضطرابات ما بعد الصدمة، وتحصل الصدمة كردّ فعل على كثافة القصف ما يجعل الجنود يشعرون بالعجز، وتتجسّد الصدمة على شكل نوبة ذعر أو خوف شديد أو غياب القدرة على الحركة، أو النوم، أو التفكير العقلانيّ، أو المشي. استبدل المصطلح في الحقول النفسيّة خلال الحرب العالميّة الثانية، وبعدها بمصطلح «تفاعل كرب القتال».

[14] مصطلح قدّم له فرويد، ويصف ظاهرة نفسيّة يكرّر فيها الشخص حدثًا معيّنًا مرّ فيه مسبقًا مرارًا وتكرارًا، ويصف أيضًا نموذجًا يكرّر فيها الناس بلا نهاية أنماط السلوك الّتي كانت صعبة أو محزنة في وقت سابق من حياتهم. أي بدلًا من أن يخبر المريض طبيبه النفسيّ أنّه كان ناقدًا وناقمًا على والديه، تجده يتعامل مع الطبيب النفسيّ بذات الطريقة الدفاعيّة، وهو بهذا يكرّر تصرّفًا قديمًا بشكل قهريّ يمنعه من التعامل مع ذكرياته ومع معاناته.

[15] يستخدم مجتمع المثليّين صورة «الخروج من الخزانة Coming out of the closet» للتعبير عن إفصاح المرء عن ميوله المثليّة، وتأتي هذه الصورة من تعبير آخر منتشر باللغة الإنجليزيّة وهو «Skeletons in the closet» والّذي يعني أن يملك المرء أسرارًا دفينة لا يعرف عنها أحد، وهو ما يعبّر عن إخفاء المثليّين عن ميولهم خوفًا من الرفض المجتمعيّ. درج استخدام المصطلح لاحقًا بأوّل كلمتين «Coming Out» للإشارة إلى خروج الشخص إلى مجتمع أوسع يتقبّله ويتقبّل ميوله.

التعليقات