في "المستوطن والساكن الأصليّ": قراءة في كتاب ممداني

سال حبرٌ كثير حول نموذج الاستعمار - الاستيطاني الأميركي، بوصفه أكبر عملية استئصال راديكالي قام بها مستوطنون أوروبيون تجاه السكان المحليين، فقد جرى تجفيف أميركا الشمالية وبشكلٍ ممنهج من كل أهلها "الهنود".

في

جزء من غلاف الكتاب

"بهذه الطريقة دفعت الإمبراطورية البريطانية إستراتيجية ’فرِّق تسد’ الرومانية القديمة خطوة إلى الأمام، فصار الاسم الأكثر ملائمة لمشروعها الاستعماري الحديث هو ’عرّف تسد’". عرّف تسد، هو التعريف البديل للتصنيف الاستعماري المُنتج للعنف المفرط في المجتمعات الاستعمارية، وما بعد الاستعمارية، حديثا، بحسب المفكر الأوغندي والأستاذ في في جامعة كولومبيا الأميركية، محمود ممداني، في كتابه الذي تُرجم ونُشر مؤخرا عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر، بعنوان "لا مستوطن ولا مواطن - صنع أقليات دائمة وتفكيكها".

يستجوب ممداني في كتابه بعضا من حالات عنف المجتمعات الاستعمارية الاستيطانية وما بعد الاستعمارية، بدءا بالولايات المتحدة الأميركية، حيث النموذج البِكر للعنف الاستعماري - الاستيطاني في التاريخ الحديث. ثم النموذج النازي في ألمانيا الهتلرية، والشكل الذي جرت عليه محاكم نورمبرغ للنازيين بعد هزيمتهم، مرورا بجنوب إفريقيا، دون أن يغفِل ممداني استثنائية النموذج الجنوب إفريقي عن النماذج الأخرى؛ ثم السودان وانفصال جنوبه كنموذج لعنف ما بعد الاستعمار؛ وصولا إلى إسرائيل كنموذج استعماري ما يزال عنفه الاستيطاني في حالة تفاقم دائم.

لا يغفِل ممداني في كتابه مُمايزة كل نموذج في عنف أدواته عن الآخر. غير أن خيط العنف المفرط الذي يربط بين كل هذه النماذج، مردّه بالنسبة للكاتب هو الاستعمار، بوصفه بُنية مُسيّسة للهويات، وصانعة للأقليات الدائمة التي تداوم على إنتاج العنف السياسي.

محمود ممداني

كما يُمايز صاحب الكتاب العنف الجنائي عن العنف السياسي، في محاولة منه من لإثبات فرضيته عن "سياسات الهوية" المُدانة بكل هذا العنف المفرط. فالعنف الجنائي هو تصنيف قانوني متصل بمحاسبة ومعاقبة الأفراد والمسؤولين عن فعل العنف وتنفيذه، دون أن يمس المنظومة المُنتجة للعنف؛ فيما العنف السياسي هو ذلك المتصل حرفيا بسياسات الهوية المُشكَّلة والمُشكِّلة للعنف في سياق استعماري.

وعليه، فإن العنف الاستعماري هو سياسي في جوهره، لكونه عنفا صانعا للقانون، لا حاميا للقانون كما تُريد البنُى الاستعمارية تمويه مُستعمَريها. بحسب ممداني، إن وحشية العنف الاستعماري ثم استمراره في كثير من حالات مجتمعات ما بعد الاستعمار، مرده لسببين:

الأول، التشكيل الذهني لسياسات الهوية والعضوية في الجماعة السياسية - عرقية وطائفية وقبلية - التي ورّثها الاستعمار لأبناء المُستعمرات، والتي ما انفكت في غالب الأحيان عن إنتاج عنفها السياسي؛ والثاني، هو مداومة مجتمع حقوق الإنسان الدولي المُسيطر، على ترحيل العنف من السياسي إلى الجنائي، تماما مثل الطريقة التي أُقيمت واشتغلت فيها محاكم نورمبرغ التي استجوبت واجتثت النازيين الأفراد، لا الدولة التي أفرزت التجربة النازية بعد هزيمتها.

ما بين الولايات المتحدة والنازيّة

سال حبرٌ كثير حول نموذج الاستعمار - الاستيطاني الأميركي، بوصفه أكبر عملية استئصال راديكالي قام بها مستوطنون أوروبيون تجاه السكان المحليين، فقد جرى تجفيف أميركا الشمالية وبشكلٍ ممنهج من كل أهلها "الهنود". بالتالي، فإن المؤسسيون للأمة الأميركية والمنظرين الأوائل لمفهومها مثل توماس جفرسون وأندرو جاكسون وأبراهام لينكولن، هم ليسو إلا صيّادين، قاموا بدور فعّال بتقليل عدد "القطيع الهندي"، والذين أشرفوا بدورهم على تشييك سياج محميات من تبقى من بقايا الهنود المحليين الذين أُعيد إنتاجهم ضمن هوية الساكن المحلي أو الأصلي.

كان مصطلح "الوطن الهندي" قد استُخدم للمرة الأولى على لسان الملك جورج الثالث في البيان الملكي لعام 1763. وتحت هذا النظام الذي حدده الملك، كان الوطن الهندي أرضا يملك الهنود حق استخدامها، ولكنهم لم يملكوا حق الملكية عليها. بعد الثورة الأميركية، تبنت الولايات المتحدة المشروع نفسه. وحتى اليوم، يملك الهنود بالمحميات "حق الملكية الهندي"، أو "الحق في السكن"، يخضع قرار حلها للكونغرس فقط.

غير أن النقطة الأساسية التي يجادل فيها ممداني في كتابه حول النموذج الأميركي، هي تلك المتعلقة بالخطأ الفكري الشائع الذي عمل على تخريج النموذج الاستعماري الأميركي تحت مظلة "التمييز العنصري"، والذي يجعل بدوره كلا من الهنود والسود الأفارقة على مسطرة واحدة، كمجموعات عرقية مقموعة وجب تحريرها. لكن ما ينبّه إليه صاحب الكتاب، هو أن القمع العرقي والاستعمار، ليسا الأمر نفسه، ويجب ألا تكون الحلول المطلوبه لهما نفسها، فحكاية الهنود المحليين غير قصة السود الأفارقة في أميركا.

وذلك من حيث أن السود قد جرى شحنهم من بلادهم كعبيد على يد المستوطنين الأوروبيين البيض، وبالتالي هم مهاجرون وليسو مستوطنين. لأن ممداني يقيم تمييزا بين المستوطن والمهاجر، فالأول يسعى للاجتثاث من أجل بناء كيان بديل، بينما المهاجر يأتي للإقامة والعيش في كيان قائم. وعليه فحكاية السود الأفارقة لها بداية معروفة في النموذج الاستعماري الأميركي، لكن قصة الهنود لا يمكن قولها لأنها لم تبدأ من الأصل، يقول ممداني.

لقد نظر المستوطنون البيض للسود موردا للعمالة، بينما الهنود كانوا موردا للأرض، مما أدى إلى ممارسة حوكمة سياسية استعمارية مختلفة عليهما، فكان ميلاد "المحمية" متصلا بالهنود.

امرأة من قبيلة بايو لاكومب تشوكتاو، من لويزيانا، في موكب سنوي للسكان الأصليين في الأميركيتين في مانهاتن بنيويورك، في 15 أكتوبر 2022 (Getty Images)

في ظل ابتكار فكرة "المحمية"، فإن أميركا هي أول أمة استعمارية حديثة اخترعت حل الدولتين لمسألة السكان الأصليين، حيث عمل نظام المحمية على الباقين من السكان المحليين "الهنود"، بوصفه سياسة تنظيف ما بعد سفك الدم. وعلى الرغم من أن المحمية أصبحت حل الدولتين الدائم، إلا أنها كانت خطوة جوهرية نحو حل دولة واحدة، وهذا ما يمكن مقاربته مع نموذج الصهيونية القائم إلى يومنا في فلسطين.

إن سؤال السكان المحليين "الهنود"، سؤال متصل بالأرض واستعمارها، بينما السود الأفارقة كانت قضية وما زالت متعلقة بالاستغلال والتمييز العنصري، وجرى تسليط "الكشافات" حديثا على حالة السود فقط كمسألة حقوقية، كي تظل البُنية الاستيطانية للأمة الأميركية بمنأى عن سؤالها الاستعماري، فمناهضة العنصرية ليست مثل التحرر من الاستعمار. ومن هنا كان سؤال ممداني في كتابه: لماذا جرى تقليل عدد الهنود قانونيا إلى الحد الأدنى وزيادة عدد الأفريقيين السود إلى الحد الأقصى؟ لأنه ما دام هناك جماعة هندية، فهذا يؤسس دعوى لها في الأرض، ومن ثم نقدا لسيادة المستوطن الأبيض، وعائقا أمام نمو اقتصاد المستوطن. ويختم ممداني عن النموذج الأميركي بالقول: "إن أميركا ستكون قادرة على التحرر من الاستعمار، عندما يدرك رؤساؤها ومفكروها ومواطنوها العاديون أنهم لا يعيشون في الأمة الجديدة الأولى، بل في المستعمرة الاستيطانية الأولى".

أما عن ألمانية النازية، فقد خصص ممداني فصلا من كتابه للنموذج النازي، إذ اعتبر أن هتلر ورفاقه، قد استلهموا سياسات التطهير العرقي وتبريرات تحسين النسل للإبادة الجماعية، من النموذج الأميركي تجاه السكان المحليين في الأميركيتين. بعد هزيمة النازيين في الحرب العالمية الثانية، استنكر الشعب الألماني المهزوم الإبادة الجماعية التي ارتكبها النازيون، وكذلك يستنكر الشعب الأميركي غير المهزوم، الإبادة الجماعية تجاه السكان المحليين "الهنود"، لكن لم يعترف أي من الشعبين بأن الإبادة الجماعية هي سلوك من صناعة الدول - الأمم التي يعيشون فيها. والدليل الذي يحاجج ممداني من خلاله تورط "الدولة - الأمة" في صناعة الإبادة الجماعية، هو محاكم نورمبرغ ضد ألمانيا، بعد هزيمتها في الحرب.

لقد نزعت دول الحلفاء في محاكم نورمبرغ صفة "السياسي" عن الإبادة (الهولوكوست) التي ارتكبها النازيون، وجعلتها عنفا "جنائيا". بمعنى إعادة اختراع النازية، لتصبح تراكما لجرائم فردية بدلا من كونها مشروعا سياسيا. وهذا ما قالهُ من قبل زيجمونت باومان، في كتابه "الحداثة والهولوكوست"، والذي ردَّ فعل الإبادة والتطهير النازيين إلى الدولة الألمانية والحداثة ذاتها، ردا على محاولة الحداثة التنصل من عنف النازيين بوصفه عنفا جنائيا - مرضيا نقيضا للحداثة.

بالتالي، يرى ممداني بمحاكم نورمبرغ، أنها "عدالة المنتصر"، لا "عدالة حقيقية". لقد جرى تعميم إعادة تعريف النازية بعد هزيمتها وفق رواية المنتصرين عليها. إن ضيق تفسير النازية على أنها مجموعة من الجرائم المرتكبة من قبل ألمان بمعزل عن ألمانيتهم القومية قد حمى "الحلفاء" أنفسهم من الرقابة على ما اقترفوه هم في الحرب.

اللحظة الجنوب إفريقيّة

يخصص صاحب "لا مستوطن ولا مواطن" الفصل الثالث من كتابه للنموذج الجنوب إفريقي واستثنائيته عن باقي النماذج الأخرى، إذ يقول ممداني: "في مسار النضال ضد الأبارتهايد، قام الجنوب إفريقيين بشيء فارق: لقد حاولوا بنجاح لم يكتمل أن يدمروا المستوطن والساكن الأصلي، بإعادة تعريفهما على أنهما ناجيان".

هذا الاقتباس من قول ممداني، يلخص فكرتين أساسيتين عن استثناء جنوب إفريقيا ونجاحه غير المكتمل، الأولى: في نضال الجنوب إفريقيين ضد التصنيف الذي صنعته سلطات الأبارتهايد في جنوب إفريقيا، بين مستوطن وساكن أصلي، فخطاب "السكان الأصليين" لم يكن خطابا نضاليا ضد المستوطن، بقدر ما كان من صناعة هذا الأخير، تمثَّل في سياسات الفصل العنصري، التي مثلتها "البانتوستانات" على طريقة "المحميات" في النموذج الأميركي. بالتالي، أسقط الجنوب إفريقيين ركنا من أركان تمييز المستوطن، مقابل الساكن الأصلي في بلادهم، وهو العرق كهوية سياسية. وبالمناسبة، إن خطاب الفصل العنصري "الأبارتهايد" والساكن الأصلي في فلسطين، هو استدخال قامت به الحركة الوطنية في الداخل عن النموذج الجنوب إفريقي، منذ أواخر تسعينيات القرن الماضي.

مسيرةفي جنوب إفريقيا، رُفعت فيها لافتات كتبت عليها شعارات من قبيل؛ "الفصل العنصري شر، والاستعمار شر" (Getty Images)

أما الفكرة الثانية، فهي تلك المتصلة بـ"عدالة" تفكيك نظام الفصل العنصري في مطلع تسعينيات القرن الماضي، بعد نضال خاضه الجنوب أفريقييين لأكثر من نصف قرن، والتي استقرت على نجاة كل من الساكن الأصلي والمستوطن معا، كشرط لتجاوز نظام الأبارتهايد، أي نجاة الضحية وجلّادها معا. وهذا على خلاف عدالة محاكم نورمبرغ ضد النازيين الألمان، التي اجتثت القيادة دون المساس بالمنظومة.

بينما تفكيك الأبارتهايد في جنوب إفريقيا لم يُحاسَب المسؤولون عنه، إنما نظام الفصل نفسه هو الذي تمت محاسبته بتفكيكه. أي لم يتخلص النضال ضد الأبارتهايد من المستوطنين البيض، إنما من بياض حوكمة السلطة وأجهزتها. يعتبر ممداني ذلك نجاحا لم يكتمل، لأن نفوذ المستوطنين البيض، ظلّ قائما في مؤسسات دولة ما بعد الأبارتهايد في جوانب مختلفة في جنوب إفريقيا. لكن ما فات ممداني عن النجاح غير المكتمل، هو تحديدا في الجانب الذي اعتبره نجاحا، فمحاسبة النظام دون محاسبة الذين قاموا عليه، كان ثمنه نفوذا متجذرا لسلطة المستوطنين البيض، حتى في نظام ما بعد تفكيك نظام الفصل.

السودان، حالة أخرى

تناول ممداني في الفصل الرابع من كتابه، السودان وسرديته منذ استعماره على أيدي البريطانيين، مرورا بنضاله واستقلاله، وصولا إلى انفصاله. ظلّ السودان نموذجا لإنتاج العنف السياسي الاستعماري وما بعد الاستعماري، ففي جنوب ما بعد الانفصال -انفصال جنوب السودان- اقتتلت في سنة 2013، كل من الدينكا والنوير في حرب قبلية راح ضحيتها 20 ألف شخص في ثلاثة أيام فقط.

اشتغل البريطانيون منذ أن استعمروا السودان في مطلع القرن العشرين، على تسييس حدوده الإثنية، كما أعادوا تأسيس الاختلافات الثقافية فيه على أنها اختلافات قبلية. فكان الانقسام الكبير بين العرب والإفريقيين من اختراع المُستعمِر. بالتالي، أعلن الحكم الاستعماري البريطاني شمال السودان عربيا، بينما جنوبه إفريقيا. كان هذا التصنيف الجِهوي يقوم على أُسُس عِرقية صنعها المُستعمِر. لم يكن الشمال كله عربا، كما كان في الجنوب أفارقة يتكلمون العربية، بحُكم أنها لغة الصلاة في الإسلام. أي أن الاستعمار البريطاني عمل على إعادة تصنيف وتعريف العروبة بوصفها عِرقا، وهذا ما استقر في وعي السودانيين لاحقا.

على خلاف الحالتين الأميركية والجنوب إفريقية، لم يكن المستوطن في مواجهة الساكن الأصلي في السودان هو المُستعمِر هذه المرة، فالبريطانيون لم يحاولوا الاستيطان في الأراضي السودانية. بدلا من ذلك كان المستوطنون هم المتحدثين بالعربية في الشمال، إذ نظر إليهم البريطانيون على أنهم مجرد مهاجرين، ففي السردية البريطانية - الاستعمارية، وصل العرب أفواجا قبل وصول البريطانيين بأعوام، جالبين معهم الإسلام، واللغة والثقافة العربيتين، والتنظيم السياسي المركزي، أي مظاهر الحضارة. بهذه القصة، مع وصول "المستوطنين" العرب، تمت إزاحة السكان الأصليين جنوبا، أي الأفارقة.

يقول ممداني: لا يتطلب الاستعمار الاستيطاني مستعمرا حقيقيا، وإنما فقط مجموعة تُعرف بأنها مستوطِنة، وأخرى تُعرف بأنها من السكان الأصليين. وقد استبطن العرب في السودان هذه الصيغة الاستعمارية، وحافظوا عليها بعد الاستقلال. بالتالي، فإن جذور النزعة الانفصالية في السودان بعد استقلاله، تعود إلى تلك هذه المرحلة من التأسيس الاستعماري.

في الوقت الذي صُنف فيه عرب الشمال كمهاجرين - مستوطنين وأبناء عرق واحد. وزّع البريطانيون الأفارقة - السكان الأصليين في الجنوب ضمن تصنيفات عرقية وقبلية. بالتالي، يفسر المستوى من الأول من التصنيف الجهوي الاستعماري شمال - جنوب (عرب مستوطنين وأفارقة سكان أصليين) النزعة الانفصالية وتطبيقها في مطلع القرن الحالي. بينما يفسر التصنيف العِرقي - القبلي الذي صنعه البريطانيون في الجنوب، فشل دولة جنوب السودان بعد انفصالها في حرب أهلية ما زالت تدور رحاها إلى يوم الجنوبيين هذا.

أخيرا، إسرائيل

ما تزال إسرائيل ببُنيتها الصهيونية، النموذج الأشد وضوحا لعنف الاستعمار - الاستيطاني في صراعٍ غير محسوم بعد. هذا على خلاف النموذج الأميركي، حيث يجري خطاب الساكن الأصلي (الهنود)، والتمييز العنصري (السود) في صراع بات محسوما استعماريا.

(Getty Images)

يتناول ممداني علاقة اليهودي بأرض فلسطين حديثا على ثلاثة مستويات: المُقيم والمهاجر ثم المستوطن، فالأول هو ذلك اليهودي الذي عاش تاريخيا في فلسطين، وكان جزءا من نسيجها الحضاري المتنوع. بينما اليهودي المهاجر هو ذلك الذي هاجر إلى فلسطين خلال الهجرة الأولى على خلفية اللاسامية في أوروبا، منذ أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، فالمهاجر بمفهوم ممداني هو يهودي قرر الهجرة إلى فلسطين، دون أن يحمل تصورا أيديولوجيا صهيونيا لتغيير النظام فيها -إقامة وطن قومي لليهود-. فيما اليهودي المستوطن هو ذلك الذي سعى إلى إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين، والذي شرطه كان تطهيرها من سكانها العرب، وقد ارتبط نموذج المستوطن اليهودي بما يُعرف بالهجرة الثانية والثالثة.

وما يميز استثناء حالة إسرائيل بالنسبة لممداني لناحية تشكيل سؤال "هوية المستوطن في مقابل الساكن الأصلي"، هو أن المستوطن نظر إلى نفسه بوصفه الساكن الأصلي العائد، إذ لا يرى اليهود الصهاينة بالفلسطينيين سكانا أصليين في البلاد. وقد تجسَّد هذا التصور في كون اليهود المستوطنين، سكانا أصليين عائدين في "قانون العودة" سنة 1950، بعد إعلان تأسيس إسرائيل.

بالتالي، يعني التهويد القائم على قدمٍ وساق في فلسطين إلى يومنا، المداومة على صناعة أغلبية قومية يهودية في الدولة. وشرط ذلك كان وما زال تطهير الأرض من سكانها العرب، وهذه البُنية الاستعمارية - الاستيطانية الماثلة في الدولة إلى يومها. ثم الفصل العنصري في نظام الدولة الذي صارت عليه إسرائيل منذ ما بعد إعلان تأسيسها سنة 1948 تجاه مواطنيها الفلسطينيين العرب، ولاحقا تجاه السكان الفلسطينيين في الضفة والقطاع، بعد احتلالهما سنة 1967، وهذا ما أشار إليه الدكتور عزمي بشارة بشكلٍ مفصَّل في مقالته: "استعمار استيطاني أم نظام أبارتهايد: هل علينا أن نختار؟".

في الأخير

يخلص صاحب كتاب "لا مستوطن ولا مواطن" إلى أن التحدي الذي يواجه المعادين للاستعمار، هو إعادة تخيّل الجماعة السياسية من دون التصنيفات الاستعمارية، وسياسات الإصلاح على هذا الأساس. وإن كنا نتفق مع مقولة ممداني عن تحرير السياسي من الاستعمار. إلا أن محاججته لتوضيح ذلك التحدي بالقول: إنه من الممكن أن نتخيل جماعة سياسية جديدة بديلا عن الأمة بمفهومها الحديث، يظلّ إشكاليا.

إذ لا يرى ممداني إمكانية للتخلص من العنف السياسي، وبناء ديمقراطية حقيقية، ما لم يتم فك الأمة عن الدولة، باعتباره أن عنف الثانية مردّهُ للأولى، أي مفهوم الأمة. غير أن الديمقراطية كتجربة حديثة، وُلدت في سياق الدولة - الأمة وليس خارجها، هذا أولا.

ثانيا، لا يمكن بناء دولة ديمقراطية ما لم يتم حسم جملة من المسلّمات، وعلى رأسها هوية الأمة التي يجري تداول السلطة تحتها. وإلا ستكون أي انتخابات بغرض تداول السلطة، دعوة للاحتراب. وثالثا، إن الوعي بمفهوم الانتماء لأمة ما، كثيرا ما يكون بمثابة قطع على طريق التفتيت الإثني أو الطائفي أو القبلي، الذي يمارسة المستعمِر على أمم المستعمرات، فعلى سبيل المثال، وعي المواطنين العرب في إسرائيل على أنهم جماعة سياسية تنتمي إلى أمة عربية في المنطقة، هو تحدٍّ بذاته لكل محاولات تفتيتهم من إسرائيل إلى جماعات طائفية وقبلية.

التعليقات