مسرحيّة «الأب»: متاهة الهشاشة

يوسف أبو وردة وشادن قنبورة

 

مَتاهِيّة

مع نهاية مسرحيّة «الأب»، سيكون الضحك المستمرّ على قَفَشات أندريه (الممثّل يوسف أبو وردة) قد حوّل نفسه إلى شعور بالخجل من النفس ولومها؛ إذ رويدًا رويدًا، ومع وصول الحبكة إلى مناطقها الختاميّة، ستتضح ملامح الصورة لدى الضاحكين من غرابة الشخصيّة وعدم اتّزانها. فالحديث عن رجلٍ تقدّمت به السنّ، وراحت تتآكل ذاكرته إلى درجة لن يعود قادرًا فيها على التعرّف إلى نفسه. "أنا مين؟"، يسأل الممرّضة في دار الرعاية الطبّيّة، ثمّ يبكي وهو يتشبّث بها مثل طفل كي لا تتركه وحيدًا، عائدًا إلى بئر طفولته الأولى، مستذكرًا وجه أمّه، مطالبًا بها.

على الرغم من هذا الشواش والارتباك لدى أندريه، إلّا أنّه الشخصيّة الوحيدة الأكيدة من بين شخصيّات المسرحيّة الستّ؛ فكلّ شيء ينطلق من عمقها، في حالة من الخلط المستمرّ بين وعيها ولا وعيها، تذكّرها ونسيانها، قدرتها التعرّف إلى الأشخاص والأشياء والأماكن، وفقدانها هذه القدرة.

حالة أندريه هي الّتي تقرّر لنا أن نشكّ في ابنته آنْ (الممثّلة لَنا زريق)؛ هل هي فعلًا تحبّه وتهتمّ لأمره، أم أنّها تتآمر مع شريكها المقيم في باريس ليُخْرِجاه من بيته اللندنيّ ويستحوذا عليه؟ أين تجري الأحداث: في بيته، في بيت ابنته وزوجها، أم في دار الرعاية؟ وهذا الأثاث، لأيّ مكان يتبع؟ ماذا كان يعمل أندريه سابقًا؛ مهندسًا أم راقص خطوات (Step Dancer)؟ وغيرها من أسئلة كثيرة حول كلّ شيء؛ فلا يعرف المتلقّي الحدّ بين ما هو يقينٌ وما هو وَهْم، لأنّ اليقين المسرحيّ هو وَهْمُ أندريه عمليًّا، وهذا الأخير ليس واهمًا، بل إنّ دماغه يعمل هكذا، ونحن نرى ما يقدّمه لنا هذا الدماغ على خشبة. إنّها متاهة، لكنّها متاهة ممتعة، بقدر ما هي مربكة ومحزنة.

اليقين المسرحيّ هو وَهْمُ أندريه عمليًّا، وهذا الأخير ليس واهمًا، بل إنّ دماغه يعمل هكذا، ونحن نرى ما يقدّمه لنا هذا الدماغ على خشبة. إنّها متاهة، لكنّها متاهة ممتعة...

شخصيّة من هذا النوع، وبهذا التركيب والحساسية، وضمن حبكة مَتاهيّة كهذه، وجدت لنفسها فلسطينيًّا ممثّلًا من نوع أبو وردة، وكانت تحتاج إلى مثله؛ ليس لأنّه يكثّف عقودًا من التجربة التمثيليّة والإخراجيّة فحسب، فهذه ليست الضامن للإتقان وتحقيق الشعريّة دائمًا، وإنّما لأنّه يملك القدرة على إذابة نفسه الحقيقيّة في تلك المخلوقة؛ أن يَصْغُرَ ليسمح للقصّة أن تكبر. وبذلك استطاع أن يحقّق صدقًا فنّيًّا عاليًا يقوم على الخداع، وهو خداع حقيقيّ؛ فأندريه طوال المسرحيّة ’بخير‘، يمازح، وينكّت، ويتغزّل، ويناقش، ويغضب، ويبدي حساسيّة عالية، ويتذكّر، ويؤكّد، وينفي، ويتّهم، ويشكّك، ويرقص، ويغنّي، له موقف ويرغب في شيء، لكنّه ليس ’بخير‘ أيضًا، كما سيتّضح لنا مع سَيْر المسرحيّة، كونه مصابًا بمرض تحلّل عصبيّ مزمن، يؤدّي إلى ضمور الدماغ وموت خلاياه، يُسَمّى عمومًا «ألزهايمر»، والمعروف بـ «الخرف» أيضًا، في معجم الطبّ العربيّ.

 

شيخوختنا على الخشبة

تبدو مرعبة هشاشة الإنسان على هذا النحو من الوضوح والبساطة؛ إذ لا يمكن لأيّ مشاهد أن يفلت من القلق، فالسؤال المطروح وجوديّ يلاحق بواقعيّته أيًّا كان؛ نحن نرى أنفسنا المحتملين عندما نشيخ أمامنا، على الخشبة.

ما يحصل مع أندريه قد يحصل معي عندما تتقدّم فِيَّ السنّ، ربّما حصل الأمر مع جدّة أو جدّ أحدهم، أمّ أو أب، قريبة أو قريب، صديقة أو صديق؛ مثل أولئك الّذين تُرِكَ كثيرون منهم في دور الرعاية والمستشفيات في مختلف مجتمعات العالم، الحضريّة مادّيًّا تحديدًا، عندما أُصيبَ البشر بالهلع من «كورونا» عام 2020، وقد ظهر حينها خطاب طمأنةٍ للنرجسيّة البشريّة على نحو كثيف، بأن لا بأس طالما أنّ الخطر ليس محدقًا بالشباب والأطفال، وأنّ كبار السنّ هم الشريحة الأكثر عُرْضَةً للخطر، فهيّا لنذهب إلى الحفلة طالما الأمر كذلك، وننشر فيديوهاتنا على إنستغرام وتيك توك!

الحلم الّذي ترى فيه آنْ، ابنة أندريه، أنّها تخنق أباها بكلتا يديها إلى أن يلفظ أنفاسه دون مقاومة، ليس مجرّد كنايةٍ مسرحيّةٍ عن إنهاكها وعدم استقرار حياتها بسبب مسؤوليّة الرعاية تجاه أبٍ لم يَعُدْ قادرًا على الاعتناء بنفسه، بل هي أيضًا كناية عن بشاعة الإنسان المحتملة، في لحظةٍ ما، حتّى تجاه مَنْ يحبّهم، إن تحوّلوا إلى مصدر عبءٍ وإعاقة لاستمرار الحياة، وذلك على الرغم من كلّ النُّظُم والمعايير الأخلاقيّة الّتي ابتكرتها المجتمعات البشريّة تقييدًا لجنوحها، الّذي يبلغ مداه في المسرحيّة بتعنيف أندريه الجسديّ والكلاميّ على يد شخصٍ نحن لسنا متأكّدين من هويّته أيضًا؛ هل هو بيير، زوج آنْ، الّذي يلوم الأب باستمرار لأنّه يعيق حياة ابنته، أم أوليفير، الممرّض الّذي يعمل في دار الرعاية؟ فبيير وفق دماغ أندريه يمكن أن يكون أوليفير، أو العكس، أو كلاهما معًا.

هاتان اللحظتان؛ عنف قتل آنْ لأبيها في الحلم وصفع رجلٍ له مرّتين دون أن يستطيع الدفاع عن نفسه، بالإضافة إلى المشهد الختاميّ، حيث إعلان أندريه عن شعوره "بتساقط أوراقه تمامًا"، مُشْهِرًا في وجوهنا نهايته/ نهايتنا المستقبليّة، ودخوله في نوستالجيّة البكاء، مثل طفلٍ صغيرٍ أبيض الشعر، هما لحظتا تأزّم العمل الذروة، وجميعها مرتبط بالهشاشة والعجز.

هذا التأزّم ليس في الحدث وتراتبيّته، وإنّما تأزّم حالة؛ فندرك أنّ شعريّة الخشبة ليست بالضرورة كامنة في سببيّة الحدث، وإنّما في ديناميكيّات الحالة الإنسانيّة وطبقاتها، حتّى وإن كانت تُقَدَّم على شكل متاهة، وهي سلسلة ورشيقة على الرغم من التركيب.

 

زمنيّة «الخرف»

إنّ الإشارات الكثيفة المرتبطة بالزمن في المسرحيّة، بحضور الساعة الّتي ينسى أندريه مكان وضعه لها باستمرار، وشكّه الدائم في سرقتها، وسؤاله الملحّ عن الوقت، وكذلك التنبيه إلى سنّه مقارنةً بسنّ شخصيّات أخرى في حواراته معها، مذكّرًا بأنّ بلوغها مرحلته العمريّة أمر "مش بعيد" و"مش مطوّل"، وكذلك عدم تمييزه لساعات نومه، وتأكيده أنّ لديه ساعتان، واحدة في يده وأخرى في دماغه، والانتقالات السريعة والمكتظّة بين ماضٍ ومستقبلٍ يحصلان الآن؛ هي إشارات رمزيّة تحيل إلى مؤسّسة الوقت المعاصرة، الحضريّة لا الريفيّة، التقنيّة لا الطبيعيّة، الضابطة لإيقاع حياة الإنسان والمهندسة لمختلف أنشطته؛ ليتعدّى سؤال الزمن في المسرحيّة الفَهْمَ العامّ لبيولوجيّة الإنسان المرتبطة بأطوار عمره، وتحوّلات جسده خلالها، وحتميّة موته.

تأزّم ليس في الحدث وتراتبيّته، وإنّما تأزّم حالة؛ فندرك أنّ شعريّة الخشبة ليست بالضرورة كامنة في سببيّة الحدث، وإنّما في ديناميكيّات الحالة الإنسانيّة وطبقاتها...

إشكاليّة الزمن الّتي تطرحها مسرحيّة «الأب»، لا تقتصر على الخصوصيّ والحميميّ لدى الإنسان الّذي يفقد خصائص إدراك الزمن وقياسه؛ لأنّه يستمرّ في تشكيل وعَيْش أزمنة من نوع آخر، خاصّة به ومن جوهر حالته، مصادرها مناطق أخرى من الدماغ المتآكل نتيجة مرضه، وهي على ما يبدو أزمنة أكثر غريزيّةً وأقلّ مَنْطَقَةً؛ أزمنة مَتاهيّة.

هي إشكاليّة ترتبط أساسًا بمؤسّسة الزمن الّتي صنعتها المجتمعات البشريّة عبر أطوار تحضّرها التاريخيّة، مانحةً للزمن مقاييس وقوالب وأسماء وصفات وأدوارًا معقّدة. فقدان الاتّصال مع هذه المؤسّسة وإدراكها، لأيّ سبب كان، ومنها مرض مثل «ألزهايمر»، يجعل الإنسان في حالة سيلان على مستوى التصوّرات والشعور، فيصعب إخضاعه للهياكل الاجتماعيّة والسلوكيّة الّتي توحي بأنّها شديدة المَنْطَقَة والتنظيم، في طَوْرٍ حَضَرِيّ يتكوّن من الـ «ديدلاينز» المستمرّة. يدفع هذا السيلان بالمتّصلين اتّصالًا ’اعتياديًّا‘ أو  ’طبيعيًّا‘ مع مؤسّسة الزمن والخاضعين لهياكلها، إلى تصنيف حالات مثل أندريه بفقدان الأهليّة والخطورة؛ رغم أنّها لا تشكّل خطرًا حقيقيًّا على المحيطين بها، وإنّما على أنفسهم بالأساس؛ فهم قد ينسون عناوين إقامتهم إن خرجوا من بيوتهم مثلًا، ما يدفع بكثيرٍ من العائلات إلى اللجوء لدور الرعاية تحت وطأة العبء الجسديّ والنفسيّ والاقتصاديّ، ولا سيّما في مجتمعات وظائفيّة وصناعيّة تُوْصَف بـ ’الإنتاجيّة‘، تحكمها قروض البنوك وفوائدها ومتطلّبات العيش الاستهلاكيّ.

لا تقول المسرحيّة كلّ ذلك بوضوح، لكن يمكن لعينٍ سياقيّة أن تراه بهذا الوضوح؛ ولهذا فإنّ المسرحيّة لا تعالج حالة شخص مصاب «بالألزهايمر»، بل تعالج، على نحو أدقّ، حالة شخص مصاب به في مجتمعات نيوليبراليّة مُعَوْلَمَة مضبوطة بالزمن المؤسّساتيّ، غير الذاتيّ ولا الطبيعيّ، وقد أبرز ذلك الخروج والدخول المستمرّين من ذات أندريه إلى السياقات المؤسّساتيّة والبيروقراطيّة الّتي تحيط به: وظيفة آنْ ومتطلّباتها، الرعاية الصحّيّة المنزليّة، المحامي، ملكيّة الشقّة، دار الرعاية الطبّيّة وموظّفوها، وغير ذلك. ولأنّ كلّ ذلك يقع في دائرة اللّايقين بسبب حالة أندريه، فلا نعرف ما هو حقيقيّ وما هو وهم، فإنّنا نرى نظامنا الحياتيّ المعاصر، لمدّة 90 دقيقة على الخشبة، في حالة من الاضطراب المهدّدة لنا، لأنّها تهدّد ما عُوِّدْنا أن نعتبره استقرارًا وأمانًا؛ وفي هذا تكمن شعريّة وجوديّة في المحتوى.

 

الهُجْنَة

النصّ المسرحيّ للفرنسيّ فلوريان زيلر المُعَنْوَن بـ «Le Père»، نصّ ذكيّ بمعايير عالميّة، عُرِضَ في فرنسا لأوّل مرّة عام 2012، وحصل على «جائزة موليير» لعام 2014، وهي أرفع وسام مسرحيّ في فرنسا، بالإضافة إلى سلسلة من الإشادات النقديّة والجوائز والترشيحات العالميّة والنُّسَخ المُمَثَّلَة في دول عديدة، لينتقل النصّ بعدها إلى الشاشة، عام 2020، في أوّل عملٍ سينمائيّ يشارك زيلر في كتابته وإخراجه بعوان «The Father»، دون تحويرات نصّيّة كبيرة على الأصل المسرحيّ، وهو من بطولة أنتوني هوبكنز، الّذي أدّى دور الأب، أندريه، وحاز على جائزة «الأوسكار» عن هذا الأداء.

يتعدّى سؤال الزمن في المسرحيّة الفَهْمَ العامّ لبيولوجيّة الإنسان المرتبطة بأطوار عمره، وتحوّلات جسده خلالها، وحتميّة موته.

يصل هذا النصّ فلسطين بعد عشر سنوات من عرضه أوّل مرّة، بصيغة معرّبة حافظت على أسس النصّ الأصليّ، مع تغييرات سعت إلى ملاءمته مع بيئته الجديدة؛ وحيث تحضر المحكيّة الفلسطينيّة، بما تشتمل عليه من أمثال شعبيّة وعبارات استعاريّة وقَفَشات، وغيرها من خصوصيّات لسانيّة ثقافيّة، فإنّها بلقائها مع أسماء غير عربيّة للشخصيّات، فرنسيّة تحديدًا، وفي سياق مكانيّ يراوح بين باريس ولندن نصًّا، وخصائص ثقافيّة تنتمي إلى مجتمعيهما وأنماط عيشهما، فإنّ هذا اللقاء يخلق هويّة عَبْر محلّيّة على الخشبة، أو عَبْر وطنيّة، في حالة من الهُجْنَة الّتي لا يمكن التأكّد من أنّها قَصْدِيّة أم لا لدى صانعي العمل الشاميّين؛ إلّا أنّ هذه الهُجْنَة، ورغم انحيازها العامّ للمرجعيّة الغربيّة، حتّى بعد التعريب، لم تأتِ على حساب محلّيّة بيئة النصّ الجديدة وجمهورها، ما يجعل نقل العمل إلى بيئة ثقافيّة عربيّة سلسًا وذا خفّة، كما أنّ هذه الهُجْنَة جاءت متجانسةً مع إنسانيّة الحالة المتناولة وشموليّتها العابرة للهويّات الجماعيّة؛ حالة إنسان مصاب بـ «الألزهايمر».

إنّ النقل التعريبيّ لعمل من هذا النوع، بما حقّقه الأصل ونُسَخُهُ المسرحيّة والسينمائيّة من حفاوة عالميّة، وقياسًا على مقيّدات الصناعة الفنيّة في فلسطين تمويليًّا ولوجستيًّا، لا بدّ وأنّه يمثّل تحدّيًا كبيرًا، وأظنّ أنّ فريق مسرحيّة «الأب» نجح في هذا التحدّي إلى درجة كبيرة. لقد خرجت من العرض مستمتعًا ومفكّرًا، رغم ما يمكن أن يُعَدَّلَ في العمل، تحسينًا وتطويرًا.

 


مسرحيّة «الأب»، 2022.

تأليف: فلوريان زيلر؛ ترجمة: حسن طه؛ إخراج: خولة إبراهيم؛ بمشاركة: يوسف أبو وردة، لنا زريق، شادي فخر الدين، شادن قنبورة، سماء واكيم، غسّان أشقر؛ سينوغرافيا: أشرف حنّا؛ تصميم إضاءة: أوري موراج؛ موسيقى: رامي نخلة؛ تصميم ملابس: نانسي مكعبل؛ مساعد مخرج: فداء زيدان؛ تصميم بصريّ وتصوير: جنان شقير؛ إدارة إنتاج: فايز أبو حيّة.

 


 

علي مواسي

 

 

شاعر وباحث. يعمل محرّرًا لمجلّة فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة، بالإضافة إلى تحرير إصدارات مؤسّساتيّة وخاصّة، وتدريب مجموعات، وتدريس العربيّة وآدابها، واستشارة ثقافيّة. له مجموعة شعريّة بعنوان "لولا أنّ التفّاحة" (الأهليّة، 2016)، وكتاب من تحريره بعنوان "الثقافة الفلسطينيّة في أراضي 48" (مدار، 2018)، ومشاركات في مشاريع كتابيّة وإصدارات جماعيّة عديدة.