"كيف بدأت اللغة": وقفة مع كتاب دانييل إفيريت

دانييل إيفيريت مع بعض أفراد قبيلة الـ "بيراها" | 52-insights

 

إلى قبيلة الـ "بيراها" في عمق الأمازون

إذا كان ثمّة تعريف لعبارة "مُبشّر ثنائيّ الاتّجاه"، فبلا شكّ أنّ دانييل إفيريت، عالم الإدراك واللسانيّات الشهير، وكاتب كتاب "كيف بدأت اللغة - How Language Began"، هو الشخص الأكثر ملاءمة لتجسيدها. عام 1975، تسجّل إفيريت ضمن برنامج يهدف إلى تأهيل مبشّرين للديانة المسيحيّة، يختصّون في تبشير القبائل المعزولة، وشمل هذا أيضًا ترجمة الكتاب المقدّس إلى لغات معزولة وغير مألوفة. بعد ذلك، عام 1977، رحل إفيريت إلى البرازيل من أجل تعلّم اللغة البرتغاليّة، ولغة إحدى القبائل المُسمّاة "بيراها - Piraha" في عمق الأدغال الأمازونيّة، وتشمل هذه القبيلة ما لا يزيد على 380 فردًا فقط، لا يتقنون إلّا لغة "بيراها".

 

غلاف الكتاب

 

فلنتخيّل أنفسنا أفرادًا من هذه القبيلة، الّتي لا تملك أيّ طريقة تواصل مع العالم الخارجيّ، ولا يمكنها أن تحاكي الحضارات و"التقدّم" التكنولوجيّ والديانات والصراعات العالميّة. قد يبدو الأمر غريبًا وكأنّ أفراد "بيراها" يخسرون الكثير من التسهيلات واليُسر. دانييل إفيريت ظنّ ذلك أيضًا، وتحديدًا في ما يخصّ الديانة المسيحيّة.

 

ذهب ليبشّرهم، فبشّروه

بالنسبة إلى إفيريت، تعريف أقلّ من 380 شخصًا بالسيّد المسيح، من أجل نَيلهم الخلاص والإنقاذ، كان أمرًا يستحقّ أن يحرق سنين كثيرة في تعلّم لغة كاملة من الصفر وإتقانها. وفعلًا، بعدما أتقن إفيريت لغة "بيراها"، وأثرى العلوم الأنثروبولوجيّة واللسانيّة بمعلوماته النادرة عنها، بدأ بمسيرة التبشير لتلك القبيلة العزلاء.

حين يقصّ إفيريت سيرورة تبشير أفراد قبيلة "بيراها"، بوجود شخص باسم السيّد المسيح، فإنّه يحبّ أن يروي إحدى مكالماته مع فردَين بالغَين من القبيلة. في أحد الأيّام، حين كان يقضي الوقت في الأدغال الأمازونيّة مع أفراد القبيلة، بادر إفيريت إلى مكالمة مع شخصين يعدّهما صديقين مقرّبَين له. قال لهما إنّ عليهما أن يعلما أنّ ثمّة شخصًا مهمًّا جدًّا لخلاصهم وإنقاذهم من العذاب باسم السيّد المسيح، ردّا مُتسائلَين: "أهذا الشخص الّذي تتكلّم عليه أسمر مثلنا أم أبيض مثلك؟"، "لا أعلم، لم أره قطّ"، فردّا: "إذن، كيف وصفه لك والدك أو أصدقاؤك الّذين رأوه؟"، "لا، لا أعرف أيّ إنسان يمكن أن يكون قد رآه"؛ فردّا باستغراب: "إذن، لماذا تُحدّثنا عنه؟". بعد سنوات عدّة، رجع دانييل إفيريت إلى الولايات المتّحدة لادينيًّا، ولا يعتبر اليوم نفسه مبشّرًا أو حتّى مسيحيًّا مؤمنًا. ذهب ليُبشّر القبائل، فبشّروه.

 

لماذا يحتاج الكائن البشريّ إلى التخطيط والتبحّر؟

أمّا عن بداية اللغة، فيسرد الكتاب النظريّات العديدة الّتي تتناول قضيّة نشأة اللغة وتطوّرها. من الثابت القول إنّ النظريّات العلميّة جميعها، تفترض صحّة "نظريّة التطوّر الداروينيّة" وتنطلق منها؛ أي من نقطة التحوّل من الكائن البشريّ القديم "هومو – إريكتوس"، إلى البشريّ الحديث  - أي نحن - "هومو – سابيينس". في نقطة التحوّل تلك، الّتي قد تكون قبل ما بين 150 - 300 ألف عام، تدلّ الحفريّات والأركيولوجيا على أنّ جمجمة الإنسان تغيّرت إلى ما يشير إلى كبر القسم الأماميّ من المخّ، وهو الجزء المسؤول عن التخطيط والعمليّات الذهنيّة العالية. لكن، لماذا يحتاج الكائن البشريّ إلى التخطيط والتبحّر في الماضي والمستقبل، من دون غيره من الكائنات؟ للإجابة عن هذا السؤال، قد نخوض أيضًا في مسألة نشأة اللغات، تحديدًا في "نظريّة الاستبدال الإدراكيّ Cognitive Tradeoff Hypothesis".

حتّى جاءت اللغة، وهي القدرة على إنتاج أصوات - ورموز لاحقًا - بمنزلة دلالات على عوامل مهمّة للبقاء من البيئة المحيطة، حين جاءت - أو طُوّرت - بدا أنّ حدّة الحواسّ لم تعُد بتلك الأهمّيّة للبشر كما كانت من قبل

تدّعي "نظريّة الاستبدال الإدراكيّ" أنّ عمليّة الانتقال، من بيئة العيش على الأشجار إلى الأراضي والسهول، لم تكن بتلك السهولة والسلاسة الّتي نعتقد؛ فحياة إنسان (ما بين الإنسان والأب القديم) في السهول الأفريقيّة قد تكون مليئة بالمخاطر بسبب الحيوانات المفترسة، الّتي تمتلك أسلحة طبيعيّة مثل المخالب والأسنان والسرعة والقوّة، ما لم يكن من نصيب البشر. ولذلك، من أجل الحياة والبقاء بين كلّ هذه التحدّيات، وخاصّة حين يفقد الكائن منظومته للحماية الرئيسيّة، وهي العيش في الارتفاع على الأشجار بعيدًا عن المفترسات؛ فعليه أن يطوّر منظومة تعوّضه عن تلك السابقة.

 

من الحواسّ... إلى اللغة

إنّ المنظومة الّتي غيّرت كلّ سيرورة تطوّر الجنس البشريّ كانت اللغة، وفي كلمة "لغة" نحن لا نعني منظومة تواصُل عاديّة؛ فمنظومة كهذه ليست فريدة وجديدة في عالم الأحياء، بل في كلمة "لغة" نقصد منظومة قد تتيح للكائن البشريّ أن يتلاعب في مِحورَي الزمان والمكان. لاحقًا، قد يتّضح - جدلًا - أنّ اكتساب منظومة اللغة وتطويرها اصطحب معه عظَمة وقوّة، تكفيان لأن يستغني الكائن البشريّ عن الحواسّ الحيوانيّة الحادّة، والقوّة الجسمانيّة القديمة؛ وبهذا يتمّ الاستبدال الإدراكيّ، استبدال الإدراك والوعي بالحواسّ والقوّة الحيوانيّة!

الحواسّ أداة لإدراك البيئة المحيطة؛ نُبصر الألوان، منها الأخضر والأزرق، الّتي تدلّ على الماء والغذاء، ونستخدم خشخشة الأعشاب والأوراق للإنذار عن أيّ مفترس يتربّص ويقترب عن طريق السمع، ونتذوّق أطعمة ما يلامس ألسنتنا، من أجل أن تُعلِمنا غرائزنا إذا كان الطعام سامًّا أو غير صالح... حتّى جاءت اللغة، وهي القدرة على إنتاج أصوات - ورموز لاحقًا - بمنزلة دلالات على عوامل مهمّة للبقاء من البيئة المحيطة، حين جاءت - أو طُوّرت - بدا أنّ حدّة الحواسّ لم تعُد بتلك الأهمّيّة للبشر كما كانت من قبل. ولكن، لماذا؟ وما العلاقة بين هذا وذاك؟

 

حين اكتشف الكائن البشريّ إمكانيّة استخدام العلامات

إحدى النظريّات الّتي تُعنى بفجر اللغة ونشأتها الأوّليّة، وقد تقرّب لنا الإجابة عن هذه التساؤلات، تُدعى "نظريّة بيرس Peirce". بيرس من أهمّ مؤسّسي "علم العلامات" أو "السيميولوجيا - Semiotics"، وفي نظريّته يدّعي أنّ المرحلة الأولى في تطوّر العلامات والرموز، حجارة البناء لمنظومة اللغة، كانت فهم العلامات. يقصد بيرس في العلامات أشكالًا ورموزًا من البيئة المحيطة، الّتي تدلّ على شيء آخر غير موجود في البيئة المحيطة في اللحظة نفسها. على سبيل المثال، رؤية عُشّ بصفته علامة، تدلّ على طير سيرجع إليه بعد وقت ما، أو رؤية آثار أرجل كائن مفترس، قد تدلّ على وجوده في المنطقة القريبة. إدراك هذه العلامات كان بمنزلة فهم ما وراء المكان والزمان، فلا يُشترط أن يكون الطير أو المفترس في البيئة المحيطة لكي نستدلّ على وجوده من العلامات تلك.

بيرس من أهمّ مؤسّسي "علم العلامات" أو "السيميولوجيا - Semiotics"، وفي نظريّته يدّعي أنّ المرحلة الأولى في تطوّر العلامات والرموز، حجارة البناء لمنظومة اللغة، كانت فهم العلامات

ما جعل ذلك أكثر مصيريًّا، حقيقة اكتشاف الكائن البشريّ إمكانيّة استخدام تلك العلامات للتواصل في المجموعة المصغّرة الّتي يعيش بها؛ فحين يستطيع أحد أفراد المجموعة أن يؤشّر أو يثير انتباه الآخرين لتلك العلامة العينيّة، فهكذا تستطيع المجموعة كلّها فهم ما يفهمه، وهكذا بدأ التفكير ينتقل من الفرد إلى المجموعة، لتكوين إرث وثقافة ومن ثَمّ حضارة.

حتمًا، لا يمكنني الإحاطة بكلّ ما وجدته بين طيّات كتاب "كيف بدأت اللغة"؛ ففيه وفرة وكثرة من المعلومات والنظريّات من كلّ المجالات والحقول الممكنة، الّتي تعكس رغبة الإنسان في فهم ماضيه القديم. هذا الماضي القديم ليس الماضي الّذي يحكي عن الحروب والملوك والديانات والدول والإمبراطوريّات، بل الماضي الأقدم الّذي يحكي قصّة كائن محدود البيئة المعيشيّة، طوّر توجّهًا عجيبًا، تكلّل باختراعه اللغة، وهو ما جعله بارعًا في التأقلم للحياة على الكوكب الأرضيّ، بصيغة كسرت محدوديّته.

 

 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.