"كَمَشوه معه كورونا": قوّة الاستعارة في زمن الوباء

روبرت نيوبيكر | Siencemag

خاصّ فُسْحَة - ثقافيّة فلسطينيّة

الاستعارات الّتي نحيا بها

ادّعى باحثا اللسانيّات الشهيران جورج ليكوف ومارك جونسون في كتابهما "الاستعارات الّتي نحيا بها - Metaphors We Live By"، أنّ الاستعارات ليست أدوات لغويّة جماليّة فحسب، بل تمثّل الخريطة السيميائيّة العميقة الّتي بمساعدتها نفهم ونتعاطى مع العالم. يطرح هذا الادّعاء فكرة أنّ ثمّة استعارات أساسيّة وبسيطة، تحكم فَهْمَنا جميعَ الظواهر اليوميّة المتعلّقة وتؤثّر فيه، وأُعطيت اسم "Conceptual Metaphors"، وأعتقد أنّ المقابل العربيّ الأفضل لها: "استعارات مفاهيميّة".

الوظيفة الأساسيّة للاستعارات المفاهيميّة تكمن في فَهْم الأشياء المجرّدة وغير المحسوسة؛ مثل الوقت أو الحياة أو العلاقات الإنسانيّة، الّتي من الصعب إيجاد مفردات خاصّة لتداولها دون ربطها بالعالم المحسوس

ضمن الأمثلة الشهيرة الّتي يطرحها المؤلّفان، فإنّهما يتطرّقان إلى الاستعارة المفاهيميّة "الوقت مال"؛ فإنّ هذه الاستعارة ليست تشبيهًا أحاديًّا فقط بين الوقت والمال، بل إنّها تَحْكُم فهمنا العميق للوقت؛ مثلًا، نقول "الوقت ثمين"، "لا تضيّع الوقت"، "وفّرت الكثير من الساعات"، "ليس لديّ أيّ وقت لإعطائك"، "استثمرت الكثير من الوقت"، "وقته غالٍ"، "شكرًا على وقتك"، أو "الوقت ينفد"... إلخ. يمكن ادّعاء أنّ كلّ هذه الاصطلاحات محكومة باستعارة مفاهيميّة واحدة: "الوقت مال". من هذا المثال، نستنتج أنّ لدى العديد من الاستعارات المفاهيميّة القوّة لتصميم وعينا اليوميّ، بلا أيّ حاجة إلى اعترافنا بهذه القوّة.

في نظر الباحثين، الوظيفة الأساسيّة للاستعارات المفاهيميّة تكمن في فَهْم الأشياء المجرّدة وغير المحسوسة؛ مثل الوقت أو الحياة أو العلاقات الإنسانيّة، الّتي من الصعب إيجاد مفردات خاصّة لتداولها دون ربطها بالعالم المحسوس. مثلًا، نقول عن الشخص الطيّب القلب إنّه "دافئ"، وعن الفظّ "بارد"، في حين أنّ الدفء والبرد أمران محسوسان.

 

لغة الإنسان فكره

قد يتساءل البعض إذا ما كانت هذه الاستعارات المفاهيميّة مشتركة بين جميع الثقافات والشعوب، أو مبتكرة وديناميكيّة ومتغيّرة. لهذا التساؤل إجابات مقنعة من عالم اللسانيّات الإدراكيّة، تُظهر تنوّع الاستعارات وأحيانًا تضادّها عند المقارنة بين الثقافات واللغات المختلفة، وهذا أحد الأساسات النظريّة القويّة للادّعاء بأنّ التفكير يختلف جوهريًّا حسب اللغة المستخدمة. مثال على ذلك، قد نلحظ أحيانًا وجود تنوّع أو تضارب بين الاستعارات المفاهيميّة الّتي تتطرّق إلى شيء مجرّد واحد، وربّما المثال الأوضح على هذا الاختلاف يكمن في الاستعارات الّتي تتطرّق إلى "فكرة". قد نلحظ وجود الاستعارة المفاهيميّة "الفكرة غذاء"، الّتي تتجلّى بعبارات مثل "أريد هضم الفكرة"، أو "فكرة عالقة في الحنجرة". في المقابل، ثمّة الاستعارة المفاهيميّة "الفكرة إنسان"، الّتي تتجلّى في مصطلحات مثل "وُلِدَت فكرة جديدة"، أو "ماتت الفكرة". ومن جهة أخرى، نرى الاستعارة المفاهيميّة "الفكرة كنبات"، فيقولون "أثمرت أفكاره"، أو "أرضيّة خصبة للأفكار"... وغيرها كثير.

في عالم الطبّ والأمراض، ظهرت دراسات سابقة ترصد تأثير الاستعارات في المرضى والتعاطي مع المرض. من أشهر الأمثلة على ذلك الدراسة الّتي فحصت تأثير تعريف الإصابة بمرض السرطان بأنّه مثل "حرب"، مقارنة بتمثيله كأنّه "رحلة"، وفيها أوصى الباحثون بوجود إيجابيّات في استخدام استعارة الـ "رحلة" على تعافي المصابين؛ أي من المفضّل أن نقول "رحلتي مع السرطان"، عوضًا عن "حربي مع السرطان"؛ والتفسير يكمن في تسبيب استعارة الـ "حرب" في رفع مستويات التوتّر والخوف عند المصابين.

يقول البعض "كَبَشو/ كَمَشو فلان معه كورونا". تحت هذا التعبير تختبئ الاستعارة المفاهيميّة "الفايروس جريمة"، والفعل "كَبَشو/ كَمَشو" يُستخدم عادةً للكشف عن إخفاء المخدّرات أو السلاح بحوزة شخص بشكل غير قانونيّ

 

الكورونا... كالغبار، كالزيت، كالفلفل

من هنا يُطرح السؤال: كيف تتعاطى المجتمعات الإنسانيّة مع جائحة الكورونا؟

إنّ الفايروس "كوفيد – 19" كائن غير مرئيّ، وقد يكون بمنزلة شيء مجرّد وغير محسوس؛ أي أنّه أرضيّة خصبة لتطوّر استعارات متنوّعة وكثيرة. يمكن تقسيم الاستعارات عن "كوفيد – 19" إلى مستويات عدّة؛ أوّلها المستوى الوقائيّ، عن طريقه تحاول المؤسّسات الطبّيّة والحكوميّة توعية الناس البسيطة البعيدة عن عالم الميكروبولوجيا أو الفايروسيّات، وفي هذا المستوى نريد تفسير كيفيّة انتشار الفايروس وانتقال العدوى. من هنا نرى إشارات لاستخدام الاستعارة المفاهيميّة "الفايروس كالغبار"، الّتي تدلّ على أنّ الفايروس قابل للتنقّل عبر الهواء والهبوط على المسطّحات؛ وهذا ما يشجّع الناس على التباعد الاجتماعيّ والالتزام بالحجر الصحّيّ. استعارة أخرى هي "الفايروس مثل الزيت"، بمعنى أنّه قابل للتنقّل عبر اللمس، وأنّه يبقى طويلًا على المسطّحات؛ لذلك من المهمّ تعقيم اليدين بعد ملامسة أيّ مسطّح عامّ. وقد شبّه – بشكل مثير - أحد الفيديوهات التوعويّة الفايروس بـ "الفلفل الحارّ"؛ وهذا من أجل إيصال فكرة تعقيم اليدين جيّدًا قبل ملامسة الوجه؛ لأنّك قد "تحرق" نفسك إذا لم تلتزم بذلك.

أمّا في المستوى الثاني، وهو التفاعل الاجتماعيّ مع الفايروس، فقد يختبئ بعض الاستعارات المفاهيميّة الّتي تؤثّر في تقييمنا، سلبًا أو إيجابًا، للأحداث المتعلّقة؛ مثلًا، يقول البعض "كَبَشو/ كَمَشو فلان معه كورونا". تحت هذا التعبير تختبئ الاستعارة المفاهيميّة "الفايروس جريمة"، والفعل "كَبَشو/ كَمَشو" يُستخدم عادةً للكشف عن إخفاء المخدّرات أو السلاح بحوزة شخص بشكل غير قانونيّ. هذه الاستعارة تؤدّي إلى تعزيز ثقافة الخجل من المرض وإخفائه، وعدم التوجّه إلى العلاج، وهو ما قد يفاقم الإصابات والتفشّي، جدلًا.

 

بين الحرب والكارثة الطبيعيّة

مثال آخر على مستوى السجال الدوليّ، الجملة الشائعة عند السياسيّين "سننتصر على الكورونا"، الّتي تخبّئ في طيّاتها الاستعارة المفاهيميّة "الجائحة حرب"، هذه الاستعارة الّتي تصوّر الجائحة كحرب، تحتّم وجود عدوّ ما؛ قد يكون الفايروس نفسه أو دولًا منافِسة، وهذا قد يغذّي نظريّات المؤامرة، وهي تصوّر أيضًا أعضاء الطواقم الطبّيّة كجنود الجيش، وكلّ مَنْ يخالف التعليمات الحكوميّة كخائن. هذه الاستعارة تصوّر وجود وضع طوارئ يقتضي التضحية والانصياع للأوامر بلا تشكيك وتساؤلات، وقد تُستغلّ سلبًا في محاور مثل السياسة؛ لذلك فخلال الأشهر الأخيرة قام الكثير من الناشطين والباحثين بالمعارضة العلنيّة لحكوماتهم، في استخدامها استعارة "الجائحة حرب".

بالإمكان ادّعاء أنّ تصوير "كوفيد – 19" كارثة طبيعيّة قد يقلّل من "نظريّات المؤامرة"، وقد يضع زمام الأمور في أيدي العلماء والمختصّين، بدلًا من السياسيّين والانتهازيّين.

الاستعارة المنافِسة لـ "الجائحة حرب"، هي "الجائحة كارثة طبيعيّة"، تتجلّى في تعابير مثل "حكومة بريطانيا تتيح المجال للنيران لتتفاقم"، أو "تسونامي من الإصابات"، أو "الكورونا ضربت البلد". بالإمكان ادّعاء أنّ تصوير "كوفيد – 19" كارثة طبيعيّة قد يقلّل من "نظريّات المؤامرة"، وقد يضع زمام الأمور في أيدي العلماء والمختصّين، بدلًا من السياسيّين والانتهازيّين.

إلى جانب هذه الأمثلة للاستعارات المفاهيميّة، ثمّة عدد هائل من الاستعارات الّتي تظهر كلّ يوم: "الفايروس مخادع"، أو "تأثير الفايروس مثل أحجار الدومينو"، أو استخدام "تسطيح الدالّة" (Flattening The Curve).

لا بدّ من الاعتراف بقوّة الاستعارات في الطريق لتصميم تصرّفات الجموع وهندستها؛ لذا فمن الواجب التفكير فيها وفي تبعاتها، ولا سيّما في عصر التواصل الرقميّ السريع، الّذي يتيح لأصحاب النفوذ والقوّة، تعريف المصطلحات ونشرها بسرعة "كالنار في الهشيم".

 

 

جاد قعدان

 

 

باحث ومدرّب وناشط. متخصّص في علوم الدماغ (بيولوجيا وعلم نفس)، وعلم النفس الإدراكيّ اللسانيّ. يدرس حاليًّا ضمن برنامج الدكتوراه في الدراسات الإدراكيّة اللسانيّة، في "جامعة تل أبيب". معلّم بسيخومتري منذ 2007، ومدرّب للدبكة التراثيّة الفلسطينيّة.