نسويّتي، وزوجة أبي الأسود الدؤليّ

Sayfy

          

سؤال العدل الإلهيّ

لا أذكر لحظة أو نقطة بدء بعينها، ولا موقفًا محدّدًا انبثق فيه وعيي النسويّ فجأة أمام عينيّ، بل كان الموضوع تراكميّا، وانبنى يومًا بعد يوم، مع سلسلة من المشاهدات في المحيط الاجتماعيّ حولي، والكثير من الأسئلة الملحّة. ربّما بدأ وعيي النسويّ في التشكّل منذ كنت طفلة تحاوطها التراتبيّة الجندريّة، وممارسات ذكوريّة عتيدة كنسب الابنة والابن للأب حصرًا دون الأمّ، وغيرها من تمظهرات للنظام الأبويّ، لكن دون أن أستطيع تسمية كلّ هذا أو أن أعيه من الأساس في ذاك الوقت المبكّر. 

في مرحلة المراهقة، كنت أفكّر كثيرًا في علاقات النساء والرجال حولي، في اختلالها البيّن من جهة المساواة، وفي الإعلاء المستمرّ للرجال على النساء، والإذعان العامّ له، وفي ما كان يُسْتَبْطَن ويُرَدَّد على الأسماع دومًا من «بداهة» سيادة الرجل على المرأة، وما ينبني عليه من اعتبار النساء أدنى مرتبة من الرجال، ومن وجوب الخضوع وطاعة الزوجة لزوجها.

كان الحديث عن حقوق الزوجة على زوجها حديثًا نادرًا، ولا تبدو فيه حقوق الطرفين متماثلة أبدًا، كأنّ حقوق الزوجة وحقوق الزوج أمران لا يحملان نفس المعنى.     

كانت كثافة الحديث عن واجبات الزوجة تجاه زوجها، أو حقوق الزوج على زوجته، والتذكير الدائم من الجميع بقائمة الواجبات تلك، والترهيب من الإخلال بها يشي بأنّ الحقوق والواجبات ليست تبادليّة، ومتكافئة في العلاقة الزوجيّة، وبأنّ المرأة خُلِقَت لأداء الواجبات وللبذل فقط، ولحمل أعباء العلاقة الزوجيّة وحدها. كان الحديث عن حقوق الزوجة على زوجها حديثًا نادرًا، ولا تبدو فيه حقوق الطرفين متماثلة أبدًا، كأنّ حقوق الزوجة وحقوق الزوج أمران لا يحملان نفس المعنى.     

لم تَبْدُ هذه أفكارًا رحيمة قطّ، ولم تَبْدُ ممارسات عادلة؛ لم أستطع أن أُمَنْطِقَها بأيّ صورة. كنت أغضب بشدّة من جعل النساء موضوعًا لاشتهاء الرجال ورغباتهم وأمزجتهم. أمّا الأشدّ إلحاحًا على عقلي الصغير حينئذٍ، فكان تفكيري في كيف يُسَيِّد الله إنسانًا على إنسان، وقد خلق كليهما من طين وسوّاهما من لحم ودم. ألا تطعن هذه التراتبيّة الجندريّة المُفْتَرَضَة مبدأ العدل الإلهيّ في الصميم؟ 

 

عبء الاشتهاء

لم يهدأ عقلي، وكان يشتبك مع نفسه. مرّة أخرى كانت ممارسات وأفكار تلاحقني تناقض مفهوم العدل، خاصّة إن نُسِب إلى الإله العليّ. هذه المرّة كنت أفكّر في خطاب الحجاب وما يُرَوَّج حوله. كنت أسمع مثلًا ما يُقال من أنّ هدف الحجاب بصورة رئيسيّة الحفاظ على العفّة والفضيلة للمجتمع، وكيلا يُفْتَنَ الرجال بالنساء. لم أفهم هذا الخطاب الإشكاليّ، وفي القلب منه ذلك التهافت والإجحاف الكامنان في فكرة أنّ «عفّة» و«فضيلة» الرجل - بصرف النظر عن مفهومَي «العفّة» و«الفضيلة» - مرتهنان بشخص آخر غيره، بكيان خارجه، كما بدا لي أنّ تحميل النساء مسؤوليّة «عفّة» الرجال، ينزع الأهليّة والعقل والإنسانيّة عنهم.

لم أستسغ قطّ هذه الفكرة المهينة للرجال بالقدر الّذي تهين فيه النساء، فإن كان هذا الخطاب يُشَيِّئ المرأة ويُجَنْسِنَها؛ فإنّه يُحَيْوِن الرجل ويطعن في رشده، وهو خطاب مهين للعقل والممكنات والتمايزات الإنسانيّة في المقام الأوّل.

مرّة بعد أخرى كنت أصطدم بفكر تصير فيه المرأة محض موضوع للاشتهاء والتحديق والإظهار والإخفاء. مرّة بعد أخرى تُحَمَّل النساء وأجسادهنّ قسرًا أعباء مادّيّة ورمزيّة نيابة عن غيرها، وعن الجميع. مرّة بعد أخرى يُمْلى على النساء ما يجب عليهنّ فعله، وما يجب الامتناع عنه.

أسرتني هذه الحكاية من يومها. أسرتني قوّة المرأة (الّتي لم أجد أثرًا لاسمها) في مواجهة عالِم النحو المفوّه، ومالك نواصي الكلام وأدوات الحجاج والبلاغة، ومنافحتها بمنطق مُحْكَم وإصرار عن حقّها في ابنها...

لم أرتضِ هذه الأفكار المجحفة لنفسي؛ لم أرتضِها لله.

في مرحلة لاحقة، استمرّ الغضب، وازدادت الأسئلة الكاشفة. في لحظة ما تأمّلت ما كانت تفعله جدّاتنا، خاصّةً إن ابتغين دعاء ملحًّا وإجابة عاجلة، إذ كنّ يبدأن أدعيتهنّ بفعل كشف الرأس، قائلات "كشفت راسي ودعيت ...". أخذني التأمّل إلى التساؤل: ألا نبدو أصدق وأقرب إلى السماء دون أغطية على رؤوسنا؟

 

زوجة أبي الأسود... مجهولة الاسم

كنت أكبر وتكبر معي الأسئلة والمشاهدات والمعرفة. سمعت مرّة حكاية طليقة أبي الأسود الدؤليّ، المحدّث وعالِم النحو الذائع الصيت في زمنه؛ إذ يُرْوى أنّه نازعها في ابنٍ لهما، فلمّا اختصما إلى والي البصرة في الأمر، قالت المرأة: "أصلح الله الأمير، هذا [ابني [بطني وعاؤُه، وحِجْري فناؤُه وثديي سقاؤُه، أَكْلَؤُهُ إذا نام، وأحفظُهُ إذا قام، فلم أزل بذلك سبعة أعوام حتّى إذا استوفى فصالُه، وكملت خصالُه، وأملتُ نفعَه، ورجوتُ رفعَه، أراد أن يأخذه منّي كُرْهًا". فقال الدؤليّ: "أصلحك الله، هذا ابني حملتُه قبل أن تحملَه، ووضعتُه قبل أن تضعَه، وأنا أقوم عليه في أدبه، وأنظر في أوده"، فحاججته المرأة بقولها: "صدق، أصلحك الله، حملَه خفًّا، وحملتُه ثقلًا، ووضعَه شهوةً، ووضعتُه كرهًا"؛ فلم يجد والي البصرة أمام حجّتها وبيانها إلّا أن يقضي بالولد لها، قائلًا لأبي الأسود الدؤليّ: "دعني من سجعك"[1]. 

أسرتني هذه الحكاية من يومها. أسرتني قوّة المرأة (الّتي لم أجد أثرًا لاسمها) في مواجهة عالِم النحو المفوّه، ومالك نواصي الكلام وأدوات الحجاج والبلاغة، ومنافحتها بمنطق مُحْكَم وإصرار عن حقّها في ابنها، وثقتها الجليّة في قدرتها على استرداده، وعلى غلبة مَنْ شاء أن يسلبه منها. لفتتني بديهتها الحاضرة وتفكيكها ببساطة بالغة لحجج أبي الأسود الدؤليّ المرتكزة، كالسرديّة الذكوريّة ذاتها، على فكر واهٍ ومتعالٍ وامتيازات مُكْتَسَبَة بالقوّة، وبحكم العادة، لا بالمنطق، وبالاستناد إلى أسس عادلة. لم أزل أُعْجَب بهذه المرأة، لم أزل أحسبها من أوائل الأصوات النسائيّة الّتي أثّرت في وعيي النسويّ.

مرّت السنوات، واستغرقت في الملاحظات والمشاهدات والأسئلة والمحاورات الذاتيّة، رافقتها منذ سنوات الجامعة قراءة ودراسة نصوصًا وكتبًا ومقالات في الفكر النسويّ. عمّقت القراءات النسويّة فهمي للذات وللعالم، وقدّمت بعض إجابات كانت مؤجّلة، وأثارت أسئلة وتأمّلات جديدة، ورسّخت في عقلي مفاهيم وأسس مهمّة، ووفّرت مجالًا لتعرّف تجارب معيشيّة متنوّعة لنساء أخريات، ولاكتشاف تقاطعيّة صنوف القهر وتأثيرها المتفاوت في النساء في مختلف بقاع الأرض. مهّد لذلك ما كان سابقًا عليه من أسئلة واستياءات وغضب ورفض لكلّ ما يحطّ من شأن النساء، ويُعْلي الرجال عليهنّ. شكّل هذان الرافدان، إذن، صيرورة تكوّن وعيي النسويّ من المشاهدة والتساؤل والتجربة الشخصيّة، وبفعل الواقع المعيش، إلى أن أصبح أمرًا واعيًا ومقصدًا ضروريًّا.

 

قصّة كلّ امرأة

إنّ قصّة أيّ امرأة لحياتها كما هي عليه حقيقةً هو فعل نسويّ في حدّ ذاته، والانخراط في فعلٍ كهذا كفيل بتبيان لِمَ وكيف يمكن النساء أن يصرن نسويّات حتّى دون أن يَعين أو يُرِدْن ذلك بالضرورة. ليس ضروريًّا أن تطّلع المرأة على النظريّة النسويّة لتكون نسويّة، وليس شرطًا أن تحوز على درجة علميّة، أو أن تنخرط في التنظير النسويّ، أو في مظاهرات نسويّة لتصبح كذلك، بل ليس ضروريًّا أيضًا أن تعي المرأة ماهيّة النسويّة لتكون نسويّة. النسويّة كامنة في حيوات النساء حول العالم، على اختلاف التجارب والخبرات والإمكانات والامتيازات وطرق العيش بينهنّ وتعدّدها؛ وهو ما يمكن أن يكون بيانًا نسويًّا في حدّ ذاته، وما يمكن أن يُبين عن صور القهر الذكوريّ المتعدّدة، وعن تقاطعها في أحيان كثيرة مع طبقات ومستويات أخرى من العنف.

إنّ قصّة أيّ امرأة لحياتها كما هي عليه حقيقةً هو فعل نسويّ في حدّ ذاته، والانخراط في فعلٍ كهذا كفيل بتبيان لِمَ وكيف يمكن النساء أن يصرن نسويّات حتّى دون أن يَعين أو يُرِدْن ذلك بالضرورة.

قبل مدّة، كنت أكتب تعريفًا قصيرًا بي لأحد المواقع الإلكترونيّة، وخطر ببالي حينذاك أن أكتب ضمن التعريف أنّني نسويّة، لكنّني تراجعت إذ قلت لنفسي إنّ نسويّتي جزء أصيل من كوني امرأة؛ إنّها جزء لا ينفصل عن هويّتي الإنسانيّة الأنثويّة، ولا يقبع خارجها، ولذلك ليس ثمّة داعٍ للإشارة إليه.

تبدو لي النسويّة قضيّة ترافقنا منذ الولادة، ومن لحظة حَملِنا لاسم وكيان مؤنّث؛ تبدو قدرًا وضرورة للعيش في عالم ذكوريّ بامتياز، وتبدو أداة لا غنى عنها لفهمه.

أنا نسويّة، وكنت كذلك حتّى قبل أن أُدْرِكَ ذلك وأقصده؛ لأنّني امرأة، ولأنّ الذكوريّة كانت ولم تزل دين العالم وديدنه. 

 


 

إحالة

[1] أبو الحسن بن عبد الملك، شرح صحيح البخاريّ لابن بطّال، تحقيق أبو تميم ياسر بن إبراهيم، ج9  (الرياض: مكتبة الرشد)، ص 190.

 


 

أميرة عكارة

 

 

 

باحثة، مهتمّة بسؤال اللغة وعلومها، وبدراسات التحليل النقديّ للخطاب، وبقضايا ودراسات الجندر والجنسانيّة. تكتب في عدّة مجلّات ومواقع عربيّة.