الطنطورة... ليست الوحيدة

جانب من أسماء ضحايا مجزرة الطنطورة خلال إحياء ذكراها لأوّل مرّة، 2018 | هدى عريدي

 

هل نحتاج اعترافًا إسرائيليًّا؟

إنّنا نعرف جيّدًا ما جرى في قرية الطنطورة في شهر أيّار (مايو) 1948؛ فإلى جانب العمليّات الحربيّة الّتي شنّها «لواء ألكسندروني» في القوّات الصهيونيّة، نفّذ عناصر منه مجزرة رهيبة في أهالي القرية الأبرياء. ولاحقًا أجبروا مجموعة من رجال القرية على حَفر حُفر عديدة لدفن جثث القتلى في قبور جماعيّة، وطمس معالم المنطقة الّتي تحوّلت مع مرور الزمن إلى موقف للسيّارات قرب شاطئ الطنطورة. هذا ما اعترف به عدد من المجنّدين في هذا اللواء أخيرًا، من خلال فيلم للإسرائيليّ ألون شفارتس عن القرية، وهم وغيرهم أنكروا قبل أكثر من عشرين عامًا وقوع المجزرة.

«منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، ثمّ «السلطة الفلسطينيّة»، لم تقوما إلى الآن بأيّ خطوة لجعل المجازر الإسرائيليّة الّتي لحقت بالشعب الفلسطينيّ سلاحًا سياسيًّا...

هل نحن في حاجة ملحّة إلى اعتراف من الطرف الإسرائيليّ، بما اقترفت أيدي عسكريّيه من جرائم بحقّ شرائح وجماعات وأفراد من الشعب الفلسطينيّ؟ وهل نحن على استعداد للتحرّك من أجل تحويل هذه الاعترافات إلى قوّة ضاغطة، وصولًا إلى اعتراف رسميّ من الحكومة الإسرائيليّة؟

سؤالان من الصعب علينا في ظلّ الظروف الراهنة الوصول إلى إجابات قاطعة لهما؛ فـ «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، ثمّ «السلطة الفلسطينيّة»، لم تقوما إلى الآن بأيّ خطوة لجعل المجازر الإسرائيليّة الّتي لحقت بالشعب الفلسطينيّ سلاحًا سياسيًّا، يمكن الاستفادة منه للضغط من أجل إحداث تغيير في التعاطي الإسرائيليّ والعالميّ أيضًا مع الرواية الفلسطينيّة.

 

الرواية الفلسطينيّة

منذ ستّة عقود والرواية الفلسطينيّة تتبلور حول ما جرى عام 1948 تحديدًا، ولاحقًا أيضًا. لكن ما يهمّنا هنا، هو أنّ النصوص الّتي نُشِرَتْ - وهي بالمئات - في ميدان البحوث والدراسات التاريخيّة والأنثروبولوجيّة والسوسيولوجيّة والأدبيّة، وغيرها من ميادين المعرفة، تبيّن أنّ ثمّة عزمًا على مواصلة استثمار وقائع النكبة معرفيًّا، وصولًا إلى الاعتراف بالنكبة حدثًا مؤسّسًا في تاريخ الشعب الفلسطينيّ.

لهذا؛ تواجه الرواية الفلسطينيّة إلى هذه اللحظة هجمات الإنكار من طرف الرواية الصهيوإسرائيليّة؛ فهذه الرواية عملت، ولا تزال، على إلقاء المسؤوليّة على الضحيّة، وتحميلها كلّ الأحداث الّتي أدّت إلى خسارته لوطنه وأرضه، ولاحقت كلّ مَنْ يدّعي عكس ذلك، واعتبرته في بعض السياقات «لاساميًّا».

إنّ إصرار الرواية الفلسطينيّة على تحدّي نهج الإنكار وأساليبه فيه تعزيز لها، وفيه مقولة قويّة يحملها الفلسطينيّون بأنّ ما حصل لشعبهم وأرضهم ليس حدثًا عابرًا، وأنّ المسؤوليّة تقع على المشروع الصهيونيّ وأعوانه والمتعاونين والمتواطئين معه. وأكثر من ذلك، فالرواية الفلسطينيّة تخاطب العالم أجمع ليس فقط للاعتراف بحقّ الشعب الفلسطينيّ في إقامة دولته، إنّما في الاعتراف بوجود هذا الشعب على أرضه، وامتلاكه تاريخًا وحضارة وثقافة عمِلَ المشروع الصهيونيّ على طمسها وإبادتها وتزويرها، وتلفيق رواية بديلة.

 

"قبروهم هنا"!

كلّ هذا يتمثّل في الطنطورة؛ فهذه القرية الساحليّة الوادعة الجميلة شكّلت بواقعها حتّى عام 1948 استمراريّة تاريخيّة لآلاف السنين، من علاقة وطيدة بين الأرض والبحر؛ فالبحر يصل إلى البيوت، صوته مسموع فيها، أينما جُلْتَ وتحرّكت تسمع البحر وكأنّه يتحدّث معك، فالأهالي في الطنطورة عرفوه وتعاملوا معه لأنّه جزء من حياتهم الإنسانيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والتراثيّة. حتّى المجزرة الّتي نفّذها الجنود كانت على شاطئ هذا البحر، وليس في معسكراتهم أو ثكناتهم العسكريّة القريبة، ولا في تلال جبل الكرمل وهضابه، القريب والمحاذي للقرية. إنّ مخزون الذاكرة بحلوه ومرّه عالق في ذهن الأهالي الناجين من المجزرة والأجيال اللاحقة.

في كلّ مرّة نمرّ قرب موقف السيّارات لنركن سيّارتنا هناك، أو في إحدى زواياه إذا تيسّر الأمر، يلفظ والدي نفس الجملة: "قبروهم هنا"، ويقولها بحسرة؛ إذ إنّه عرف عددًا من أهالي الطنطورة قبل وقوع النكبة...

بحر الطنطورة فيه خاصّيّة لافتة جدًّا، وقد أجعل خبرتي التاريخيّة، بل الشخصيّة، تتدخّل في هذه الجزئيّة لعلّها تضيف بعض التفاصيل على حكايتنا مع الطنطورة، حيث كان والدي - رحمه الله - يصرّ على أن نستجمّ ونسبح على شاطئ الطنطورة، في مواسم السباحة في كلّ صيف حين كنّا صغار السنّ. لم نكن وحدنا نذهب إلى هناك، بل عشرات العائلات الحيفاويّة، وأيضًا من شفا عمرو والناصرة وعدد من القرى في الجليل والمنطقة.

في كلّ مرّة نمرّ قرب موقف السيّارات لنركن سيّارتنا هناك، أو في إحدى زواياه إذا تيسّر الأمر، يلفظ والدي نفس الجملة: "قبروهم هنا"، ويقولها بحسرة؛ إذ إنّه عرف عددًا من أهالي الطنطورة قبل وقوع النكبة، وأمضى ليالي طوالًا فيها لدواعي العمل. ثمّ نصل إلى البحر للاسترخاء والسباحة. وبقي اسم الطنطورة عالقًا في ذاكرتي وحاضرًا في مخيّلتي إلى هذه اللحظة. وكلّما طُرِحَ موضوع المجزرة تحرّكت مشاعري، وأعود بشريط الزمن إلى تخيّل ما وقع لأهالي القرية ومصير الناجين منهم.

 

رقيّة

وإن تكن الرسالة الجامعيّة لتيدي كاتس من جامعة «جامعة حيفا»، بإشراف قيس فرّو، قبل أكثر من عقدين من الزمن قد أثارتني، فإنّ رواية «الطنطوريّة» لرضوى عاشور، الّتي صدرت قبل أكثر من عقد من الزمن، قد حرّكت فيّ فهمًا معمّقًا للعلاقة بين أهالي الطنطورة والبحر، وأيضًا التصاق البحر وشاطئه في الذاكرة الجمعيّة الباقية والمستمرّة والمرافقة لمسيرة حياة الطنطوريّين. رقيّة (الشخصيّة الرئيسيّة) تروي لنا في هذه الرواية حكاية القرية وأهاليها، خلال النكبة والمجزرة وما بعدها في مسارات التشرّد واللجوء. أعادتني رقيّة إلى زمن الطنطورة حين قالت:

"البحر حدُّ البلد، يُعيرها أصواته وألوانه، يلفّها بروائحه، نشمّها حتّى في رائحة خبز الطابون.

لا أذكر متى تعلّمت السباحة لأنّني لا أذكر متى تعلّمت المشي أو الكلام. لاحقًا وبعد سنوات، قصدتُ المدن الساحليّة. قلتُ بحر بيروت وبحر الإسكندريّة هو نفسه، ولم يكن. بحر المدينة يختلف، تطلّين عليه من شرفة عالية، أو تمشين على طريق الأسفلت ويكون البحر هناك، يفصلك عنه هوّة وسياج. وإذا قرّرتِ الذهاب إليه تأتينه كالغريبة، تجلسين في مقهًى من مقاهي الشاطئ أو تحملين معك زوّادة الغرباء: شمسيّة وكرسيًّا وربّما منشفة ولباس بحر. زيارة موقوتة كزيارات الضيوف، تقضينها ثمّ تحملين أغراضك وترحلين".

هي نفسها رقيّة أخذتني إلى حيث وقعت المأساة، وبالتفاصيل الّتي نقلتها لحظة بلحظة بسرد تاريخيّ أكثر منه روائيًّا، فيه تشابه إلى حدّ كبير لخطوات نفّذتها جيوش أخرى في مواقع أخرى في هذا العالم.

"ساقونا إلى الشاطئ، قسّمونا إلى مجموعتين، الرجال في ناحية والنساء والأطفال وبعض المسنّين من الرجال في ناحية. أوّل مرّة أرى المجنّدات؛ نساء يرتدين ملابس عسكريّة ويحملن السلاح... لم تنتبه المجنّدة للعنزة ولكنّها انتبهت وهي تفتّشني إلى فردتَي القرط في أذني، انتزعتهما انتزاعًا. سال الدم من أذنيّ، مسحته بطرف ثوبي... جُرِّدَتْ أمّي من خاتمها وقرطها وسلسالها... همستُ في أذن وصال: أهكذا استحلّوا بلدكم؟ قالت: لا، لم يوقفونا عند البحر...".

 

ماذا نحن فاعلون؟

كم من موجة ضربت شاطئ الطنطورة منذ ترحيل أهاليها عنها! وكم من غصّة ألم ووجع تحشرجت في حناجر الرجال الكبار الّذين عجزوا عن مواجهة آلة المجرم! وكم من امرأة تركت أحلامها هناك عند رمل شاطئ القرية! وكم من طفل انقطعت علاقته بالبحر قبل نضوجه ونموّه الرجوليّ!

ليست مسألة المجزرة أوراقًا ووثائق يكشفها مندوبون عن المجرم وصاحب السطوة والهيمنة، وكأنّها الكلمة الفصل. إنّ انتزاع حيوات الناس أشدّ وقعًا من كلّ هذه الأوراق، الّتي يحرسها الجاني ويُسَرِّب منها ما يحلو له ويطيب...

ليست مسألة المجزرة أوراقًا ووثائق يكشفها مندوبون عن المجرم وصاحب السطوة والهيمنة، وكأنّها الكلمة الفصل. إنّ انتزاع حيوات الناس أشدّ وقعًا من كلّ هذه الأوراق، الّتي يحرسها الجاني ويُسَرِّب منها ما يحلو له ويطيب؛ فالذاكرة الّتي يحتفظ بها الأهالي في صدورهم وقلوبهم وعقولهم تحمل من القوّة الكثير الكثير؛ للحفاظ على حضور الطنطورة، وتاريخها، وثقافتها، وعلاقتها ببحرها وجبلها.

وإن كنتُ في هذه الفسحة المتاحة قد أجزت لنفسي الخروج عن نظامها البحثيّ الجامد، إلّا أنّ الطنطورة حصريًّا تدعو إلى ذلك. ومَنْ يدري ماذا يخبّئ لنا الزمن القادم من كشف آخر لمجزرة أخرى تعرّض لها شعبنا، سواء في النكبة أو النكسة أو بينهما أو ما بعدهما؟ يبقى السؤال الواحد والوحيد: ماذا نحن فاعلون؟

  


   

جوني منصور

 

 

مؤرّخ ومحاضر من حيفا. له إصدارات عديدة، منها: 'شوارع حيفا العربيّة'، 'الاستيطان الإسرائيليّ'، 'مسافة بين دولتين'، 'إسرائيل الأخرى'، 'الخطّ الحديديّ الحجازيّ'، 'الأعياد والمواسم في الحضارة العربيّة'، 'المدينة الفلسطينيّة في فترة الانتداب البريطانيّ'، 'المؤسّسة العسكريّة في إسرائيل'، 'حيفا، الكلمة التي صارت مدينة'، 'خارطة حيفا العربيّة'.