الطباعة المحرّمة: من قوالب الصين إلى طموح الباشا

مطبعة في بئر السبع، 1915 | تصوير: خليل رائد

 

         

الرفض للآخر، لمن يكون أو لما يمثّل، يستتبعه أحيانًا رفض تفاصيل من حضارته واختراعاته ومهاراته ولغته. كان الوازع الدّيني مسوّغًا لهذا الرّفض غير المبرر غالبًا، ولسبب غير مفهوم تأخّرت الثورة الثالثة والأخيرة في عالم صناعة الكتاب من الدخول إلى الثقافة العربيّة على عكس الثورتين الأولتين؛ اختراع الحرف ثمّ اختراع الورق. إنّها ثورة الطباعة، القفزة الّتي غيّرت شكل الكتاب وكيفيّة استعماله وانتشاره إلى الأبد.

عَرَفَ الصينيّون تقنيّات بدائيّة للطباعة على الورق باستخدام القوالب الخشبيّة المحفورة، ولاحقًا الحروف المتحرّكة. هذه القوالب لم تدخل إلى الإمبراطوريّات الإسلاميّة مع الورق أو بعده. بل إنّ تاريخ الطباعة في العالم العربيّ والإسلاميّ يبدأ مع دخول بعض المطابع، بصفتها اختراعًا أوروبّيّا، إلى بعض الأديرة والكنائس في القرن السادس عشر. هذه المطابع لم تكن تستعمل لوقت طويل إلّا لطباعة الكتب الدينيّة المسيحيّة.

 

الطباعة: التقنيّة المحرّمة

إحدى الفرضيّات الّتي يوردها ألكساندر ستيبتشفيتش عن أخصائيّين في كتابه «تاريخ الكتاب» (1985) تقول إنّ الطباعة الأوروبّيّة تأخّرت بسبب رفض العرب لتقنيّات الطباعة الصينيّة. مؤكّدًا أنّ العرب عرفوها لأنّ بعض التنقيبات الأركيولوجيّة وجدت أوراقًا في مصر مطبوع عليها باستخدام تقنيّة القوالب الخشبيّة باللّغة العربيّة، إلّا أنّها لم تكن مقبولة ثقافيًّا أو رسميًّا. وقد ساد اعتقاد أنّ هذه التقنيّة قد استعملها أفراد في أكثر من مدينة، إلّا أنّ مناخ مصر ساعد في حفظ تلك الأوراق دون غيرها من حواضر العالم الإسلاميّ، وهي موجودة حاليًّا في «المكتبة الوطنيّة» في فيينا.

تأخّرت الطباعة الأوروبيّة بسبب رفض العرب لتقنيّات الطباعة الصينيّة. الّتي تظهر بعض آثارها في أوراق أثريّة وجدت في مصر، لكنّها لم تكن مقبولة ثقافيًّا أو رسميًّا.

يستند ستيبتشفيتش لتفسير رفض العرب والمسلمين للطباعة في العصر الوسيط على ما حصل في القرن الثامن عشر مع الدبلوماسيّ العثمانيّ الهنغاريّ الأصل إبراهيم متفرّقة، الّذي أخذ إذنًا عام 1727 بإنشاء مطبعة في الأستانة، إسطنبول، فكان القبول مشروطًا بعدم طباعة القرآن والكتب الدينيّة باستخدام هذه الآلة المستوردة من الغرب.

يذكّر هذا الرّفض بالرفض الأوروبّيّ للورق قبل حروب الردّة الإسبانيّة وأثنائها، بصفتها المادّة الّتي يفضّلها الهراطقة المسلمون على الرقّ والبرشمان اللّذين كانا المادّة الأساسيّة في أوروبّا. يقول كيث هيوستن في «الكتاب» (2016) إنّه لولا أنّ ألفونسو العاشر الملقّب بالحكيم كان متنوّرًا ما يكفي لاستخدام الورق لوثائق أقلّ أهمية من كتب الدين والمعرفة، لتأخّرت أيضًا صناعة الورق في أوروبّا. هيوستن أيضًا يصف في موضع آخر بعض التحفّظات على الطباعة نفسها بعد انتشار اختراع غوتنبيرغ في أوروبّا، حيث بدأت تظهر ادّعاءات للشكل الأخلاقيّ للنسخ اليدويّ وما يمثّله من صبر، بالطبع مذكّـرًا بالرقابة والتخوّف من الكلمة المكتوبة في أوروبّا العصور الوسطى.

بالنظر إلى ما حصل مع إبراهيم متفرّقة وقبله في أوروبّا، يكون التفسير استنادًا إلى الفتوى الدينيّة بأنّها السبب برفض القوالب الخشبيّة في العصر الوسيط مفهومًا. لكن ثمّة حلقة مفقودة وغير واضحة؛ فنحن الآن أمام ثلاث أشكال من الرفض على ثلاث مراحل مختلفة، الأولى هي رفض المسلمين لتقنيّة القوالب الخشبيّة، الثانية هي رفض الأوروبّيّين لتقنيّات صناعة الورق وتحفّظهم الشديد على الطباعة، وأخيرًا رفض دخول الطباعة الأوروبّيّة إلى العالم الإسلاميّ في العصر العثمانيّ، وقد تحوّل الرفض الأخير إلى قبول مشروط بعدم طباعة «القرآن». فإن كانت القوالب الخشبيّة مرفوضة في العالم الإسلاميّ بسبب أنّها اختراع كافر لا يناسب العلوم والدين، فكيف إذن لا يكون الورق المصنوع من تقنيّات الكافر نفسه مرفوضًا للأسباب نفسها؟

التفسير الأوّل هو احتماليّة أن يكون الورق الصينيّ قد لَقِيَ أيضًا معارضة إسلاميّة لكنّه نجا منها، مقابل القوالب الّتي ظلّت موضع رفض. التفسير الثاني قد يكون متعلّقًا بأخلاقيّات الناسخ - تمامًا كما حدث في أوروبّا - إلّا أنّ ما ذُكِرَ عن حرفة النسخ لا يذكر بأنّها نشاط مُهذِّب للنفس تقابله الطباعة الشريرة. التفسير الثالث الممكن أيضًا أن تكون ثمّة فرقة إسلاميّة قد حبّذت استخدام الطباعة فرفضتها المذاهب الأخرى على هذا الأساس الخلافيّ الداخليّ.

التفسير الّذي أميل إليه له علاقة بالمشهد الاقتصاديّ لسوق الورّاقين نفسه، وهنا أستحضر قصّة الصنبور في القرن التاسع عشر. حيث قام السقاؤون بالاعتراض على هذا الاختراع الّذي سيكلّفهم مهنتهم ومصدر رزقهم، فرفعوا شكواهم إلى الشيوخ والعلماء حيث أفتت جميع المذاهب بعدم جواز صنبور المياه باستثناء المذهب الحنفيّ الّذي لم يَرَ ضيرًا فيه، وتبعة ذلك أنْ بدأ أتباع المذاهب الأخرى بالتهكّم على الصنبور بتسميته «حنفيّة»، وهو الاسم الّذي ما زال سائدًا في اللّغة المحكيّة. هنا نستطيع أن نفترض أنّ رفض القوالب الخشبيّة يمكن أن يكون نتيجة اعتراض الورّاقين عليها لأنّها ستقطع رزقهم، حيث كانوا على اتّصال وارتباط بالعلماء والشيوخ، ومن الممكن أنّهم استطاعوا منعها بالتأثير عليهم بشكل ما لإصدار فتوى هي أكثر براغماتيّة من كونها دينيّة.

رفض القوالب الخشبيّة يمكن أن يكون نتيجة اعتراض الورّاقين عليها لأنّها ستقطع رزقهم... ومن الممكن أنّهم استطاعوا التأثير على الشيوخ والعلماء لإصدار فتوى تحرّمها... 

جميع هذه التفسيرات لا دليل لها وتستند إلى الأحدث لتفسير الأقدم، وبقدر ما يبدو الأخير منطقيًّا أكثر من غيره فهو استنتاج يقوم على حدث وقع في القرن التاسع عشر، في المقابل لا أرى التفسير الّذي ذكره ستيبتشفيتش مرتكزًا به على ما حدث مع إبراهيم متفرّقة في القرن الثامن عشر أكثر أو أقلّ منطقيّة، فهو لا يقوم على دليل أيضًا. كلّ ما نعرفه أنَ العرب بكلّ تأكيد عرفوا القوالب الخشبيّة الصينيّة وربّما تقنيّة الحروف المتحرّكة، لكنّ هذا الاختراع لم ينتشر كما انتشر الورق أو كما انتشرت الورّاقة.

الرفض الأوروبّيّ للورق والرفض العثمانيّ لتقنيّات الطباعة الأوروبّيّة يبدوان أقرب إلى بعضهما من رفض العرب القديم للقوالب الخشبيّة. فالرفض الأوروبّيّ للورق الآتي من بلاد المسلمين، وللطباعة في بداياتها لأنّها ساهمت في نشر الكثير من الأفكار الهرطوقيّة، خاصّة بعد حركة الإصلاح البروتستانتيّ، يسبغ انطباعات حضاريّة على هذا الرفض يمكن تفسيرها سياسيًّا. في المقابل، كانت أوروبّا "الغرب الكافر" تشكّل تهديدًا حضاريًّا للدولة العثمانيّة في القرن الثامن عشر ما أدّى إلى كثير من التحفّظ على اختراعات ومكتشفات وصناعات الغرب، مثل تقنيّات الملاحة، اكتشاف العالم الجديد، طريق رأس الرجاء الصالح، الرصد الفلكيّ، الصنبور، وطبعًا الطباعة.

 

المطبعة العثمانيّة الأولى

تبدأ قصّة المطبعة الأولى كما سردها المؤرّخ خالد زيادة في كتاب «المسلمون والحداثة الأوروبّيّة» (2010) مع عودة سفارة كان قد أرسلها السلطان أحمد الثالث، أوّل السلاطين الإصلاحيّين، إلى أوروبّا. حيث رفع إبراهيم الهنغاريّ، الّذي كان دبلوماسيًّا برتبة متفرّقة، رسالة بعنوان «وسيلة الطباعة» إلى الصدر الأعظم وشيخ الإسلام يؤكّد فيها على ضرورة إدخال فنّ الطباعة إلى الدولة العثمانيّة.

أخذ إبراهيم الإذن بالعمل على إنشاء المطبعة وإدارتها بعد اشتراط شيخ الإسلام عدم طباعة الكتب الدينيّة، وقام بتعيين شخصين يقومان بالرقابة على جميع منشورات المطبعة. بقيت هذه المطبعة تعمل منذ تأسيسها عام 1727 وحتّى وفاة مؤسّسها عام 1745. ولم تمنعه ثورة الانكشاريّة الّتي حصلت عام 1730 وأدّت إلى خلع السلطان أحمد الثالث من الاستمرار بالعمل في الطباعة. لكنّه تفرّغ إلى التأليف مبتعدًا عن العمل الدبلوماسيّ لفترة. اعتُبِر إبراهيم الشخص المثاليّ لإدارة هذه المنشأة بسبب اهتماماته العلميّة وإتقانه لعدّة لغات منها الهنغاريّة والإيطاليّة والفرنسيّة، إضافة إلى العربيّة والتركـيّة.

كان إبراهيم متفرّقة من المتنوّرين العثمانيّين الّذين دعوا إلى الانفتاح على التقدّم الأوروبّيّ في الشؤون العلميّة والعسكريّة والأخذ بها لإعادة الاعتبار إلى الدولة العثمانيّة. كان قد استشهد في كتابه «أصول الحكم في نظام الأمم» (1731) بمثال قيصر روسيا بطرس الأكبر الّذي حوّل «الموسكوف» من قبائل همج إلى منافس حقيقيّ على الخريطة السياسيّة عبر تبنّيه لعدّة إصلاحات أوروبّيّة.

عادت مطبعة متفرّقة إلى العمل في نهاية القرن الثامن عشر مع السلطان سليم الثالث صاحب الميول الإصلاحيّة، حيث قام بتأسيس المدارس المختلفة في السلطنة وإنشاء مطبعة جديدة في «مدرسة الهندسة».

على الرغم من أنّ مطبعة متفرّقة قامت بالطباعة باللغة العربيّة، إلّا أنّ أوّل مطبعة أُنْشِئَتْ في العالم العربي تأخّرت حتى عشرينيّات القرن التاسع عشر. وكانت أيضًا تحت إشراف سياسيّ متأثّر بمظاهر القوّة العسكريّة الأوروبّيّة. فبعد أن استلم محمّد علي باشا ولاية مصر أراد تأسيس جيش قويّ يماهي بحداثته جيش نابوليون الّذي ترك أثرًا في نفسه. فبدأ الباشا بإعداد وإنشاء اقتصاد كامل بهدف دعم الجيش، ومن ضمنه إنشاء «المطبعة الأميريّة» في منطقة بولاق لطباعة الكتب العسكريّة للجيش المصريّ.

قد لا تكون الطباعة العربيّة في بداية القرن التاسع عشر في مصر انطلقت بهدف علميّ تنويريّ بحت، لكن مع النصف الثاني من القرن تحوّلت المطبعة إلى العامود الأساس الّذي بُنِيَ عليه في ما بعد ما عُرِفَ بـ «النهضة العربيّة». حيث انتشرت حركة التأليف والنشر في الولايات الشاميّة ومصر وتونس، وتأسّست جملة من الصحف والمجلّات السياسيّة وغير السياسيّة المعنيّة بالأدب والعلوم الطبيعيّة والاجتماعيّة واللغويّات والتاريخ والإصلاح الفقهيّ. أدّت هذه الحركة في ما بعد، بعد أن تحوّلت حينها المطابع إلى ملكيّات خاصّة، إلى توسيع شبكة التوزيع مع اشتراكات هذه المجلّات، فأصبحت المطابع تتبنّى الكتب وتستغلّ أسواق الكتب الحديثة في نشر الكتاب وتوزيعه.

 

من الرقابة الحميديّة إلى العسكريّة

أصبحت القاهرة والإسكندرية ملاذًا للكثير من الكُتّاب الشاميّين الهاربين من سطوة الرقابة الحميديّة - نسبة إلى السلطان عبد الحميد الثاني -  حيث كانت مصر تتمتّع بشكل مستقل للحكم.

وجدت في أحد هوامش كتاب «حركة الترجمة في عصر النهضة» (1994) للكاتب لطيف زيتوني أمثلة مضحكة عن سخافة هذه الرقابة في شدّتها. ففي ما يتعلّق بالكتب يذكر شاكر خوري في كتابه «مجمع المسرّات» (1908) ما حدث معه مع الرّقيب حيث قال:

"قبلما شئت طبع كتابي طلبت أحد المراقبين للنظر به حتّى إذا طُبِعَ لا يوجد سبب سياسيّ يوقفه. فحضر وعندما وصلنا إلى لفظة أمير قال: يلزم حذف الحرف الأوّل حتّى لا يشتبه بأمير المؤمنين. فقلت له: إنّ لفظة ’مؤمنين‘ تميّز هذا الشبه. فقال: لا تجادل، هكذا الأمر..."

مع النصف الثاني من القرن تحوّلت المطبعة إلى العامود الأساس الّذي بُنِيَ عليه في ما بعد ما عُرِفَ بـ «النهضة العربيّة». حيث انتشرت حركة التأليف والنشر في الولايات الشاميّة ومصر وتونس...

أمّا المثال الذي أحبّه حقًّا كمثال على الرقابة الحميديّة الأنيسة لا يتعلّق بموضوع المقال، لكنّني لا أستطيع منع نفسي من إيراده هنا. يتعلّق الأمر بإعلان بيع قطعة أرض قام زيتوني بنقله من كتاب «ذكريات أدبيّة» (1954) لنقولا فيّاض فقال:

"إنّ الرقيب العثمانيّ قرأ مرّة إعلانًا معدًّا للنشر يقول: إنّ قطعة الأرض كذا الواقعة بمحلّة كذا ملك الحاجّ فلان معروضة للبيع. فانتفض وصاح: م... ل... ك، لا مَلِك إلّا عبد الحميد. وعبثًا حاول الكاتب إقناعه بأنّ المعنى غير هذا. وأخيرًا سلّم أمره لله، وسأل الرقيب ماذا يريد أن يضع في مكانها. فأطرق هذا واسترسل في التفكير ثمّ فتح عينيه وقد فتح عليه الله: ضع مكانها لفظة إمبراطور. فكان ما أراد، وجاء الإعلان بهذا النصّ: إنّ قطعة الأرض كذا الواقعة بمحلّة كذا إمبراطور الحاجّ فلان معروضة للبيع. وانتهى الإشكال."

فلا غرابة إذن في تخيّل ما قد عاناه النشر في ولايات الشام، ممّا يفسّر انتقال الكثير من المنشورات، حتّى غير السياسيّة منها، إلى مصر، كمجلّة «المقتطف العلميّة» ليعقوب صرّوف وفارس نمر.

لاحقًا في القرن العشرين وبعد الاستعمار الأوروبّيّ ونشوء الدول العربيّة الحديثة، الّتي انتهت معظمها إلى ديكتاتوريّات عسكريّة أو مخابراتيّة، استفردت بيروت بهامش ليبيراليّ أدّى إلى تلقيبها بمطبعة العرب لأنّ كثيرًا من الكُتّاب العرب كانوا ينشرون كتبهم فيها هربًا من الرقابة. كما لا تزال  كثير من دور النشر المشرقيّة والمغربيّة إلى الآن تقوم بالطباعة فيها، وحتّى فتح فروع لها في بيروت.

مطلع القرن الحادي والعشرين بدأت تتغيّر بعض السياسات المتعلّقة بحرّيّة النشر، فأصبح الثقل على الكتاب أخفّ، لكن ليس معدومًا. فالرقابة ما زال لها اليد في سحب نسخ كتاب ما من الأسواق أو منع أحد العناوين من الدخول إلى داخل البلد الّذي تعمل ضمن إطاره. على الرغم من ذلك، فأزمة الرقابة تكاد تصبح هامشيّة أمام أزمة الكتاب المعاصر الحقيقيّة، الّتي تحوّلت إلى مشكلة كساد سوقه وضعف في مهارات توزيعه وتسويقه.

 


 

عمر زكريّا

 

 

 

مؤلّف، روائيّ وكاتب أدب غير تخييليّ يقيم في عمّان، يكتب في عدد من المجلّات العربيّة وصدرت له رواية «القرطبيّ، يستيقظ في الإسكندريّة» عن «منشورات ضفاف» (2021).