بيننا مدينة ومدينة

بيروت - تصوير جو قسيس

 

في كتاب مذكّراته «ضباب الأمكنة» (2020)، يكتب زهير الجزائريّ عن الأمكنة العديدة الّتي استوقفته في حياته حين عاش فيها، أو مرّ منها، أو مشى في شوارعها، أو قرأ عنها. الأهمّ عن تداخل أو اشتباك هذه الأمكنة بعضها بعضًا بلفيف من النسيان والارتباك والألم النابع من التنقّل المستمرّ والمنفى، ممّا يؤثّر على معرفتنا بها وقدرتنا على منطَقتها وفهمها واستيعاب تأثيرها علينا، "فمعرفة الأماكن تحتاج لذهن رياضيّ يلمّ بخارطة المكان الجغرافيّة والاجتماعيّة". يضيف الجزائريّ قائلًا: "كلّ انتقال وتطبّع على مكان جديد يمسح الضباب بعضًا من ترسّبات المكان السابق. مدينة تمسح ما قبلها بجناح من النسيان".

لكنّني هنا لا أقرأ النسيان كعمليّة تمحي مكانًا لتستقبل مكانًا آخر بديلًا عنه. فليس ثمّة من مكان يزول من الوجود بشكل نهائيّ، بل تتشكّل طروس وطبقات ومستويات من الأمكنة والذكريات في مكان ما، تشكّل بدورها ماهيّة هذا المكان في ذهننا، والّتي بدورها تولّد علاقتنا وارتباطنا به وتحدّدها. فتصبح مدينة واحدة تحتوي مدنًا انطبعت فينا، وتشكّلنا كأفراد وجماعات فيها. كم مدينة تسكن تجربتي لبيروت مثلًا؟ كم نسخة من بيروت تعيش في المدينة الساكنة في مخيّلتي وذاكرتي ووعييَ الجمعيّ المدينيّ؟

لا أملك جوابًا أو خلاصة لسؤال وبحث وتنقيب كهذا سوى أنّه هاجس لا ينفكّ يراودني عندما أفكّر في علاقتي مع بيروت.

لا أقرأ النسيان كعمليّة تمحي مكانًا لتستقبل مكانًا آخر بديلًا عنه. فليس ثمّة من مكان يزول من الوجود بشكل نهائيّ، بل تتشكّل طروس وطبقات ومستويات من الأمكنة والذكريات في مكان ما...

لذلك لا أسعى من هذا المقال تقديم حلول والإجابة عن أيّ سؤال إشكاليّ، بقدر ما أحاول طرح ومشاركة المزيد من الأسئلة والهواجس الّتي أعرف ضمنًا أنّها لا تخصّني أنا وحدي في علاقتي مع مدينة مثل بيروت، أو أيّ مدينة أخرى نعاملها وتعاملنا على أنّها مدينتنا الأولى، فيها تشكّل وعينا السياسيّ والاجتماعيّ والمكانيّ.

 

المدينة كفضاء اجتماعيّ 

أُقارب المدينة هنا كفضاء اجتماعيّ مُعاش وانطلق لطرح تساؤلاتي من ثلاث مقولات رئيسة؛ أوّلها مقولة العالمة الجغرافيّة البريطانيّة دورين ماسي Doreen Massey (1944 – 2016)، الّتي تعتبر الفضاء الاجتماعيّ - مثل المدينة - مكوَّن من مجموعة سرديّات متعدّدة ومتناقضة تتداخل وتتحاور في ما بينها وتدخل في عمليّات تفاوض دائمة ومستمرّة. ثانيًا، مقولة المنظّر الفرنسيّ ميشال دو سيرتو Michel de Certeau (1925 - 1986) الّذي يشبّه فعل المشي في المدينة بقصيدة طويلة، أي يعتبر المشي والكتابة فعليّ ممارسة اجتماعيّة - مكانيّة يوميّة (everyday socio-spatial practice) بحيث يمكننا اعتبار (مقاربة/ قراءة) النصّ كمدينة والمدينة كنصّ. ثالثًا الكاتب الايطاليّ ايتالو كالفينو Italo Calvino (1923 – 1985) الّذي يعتبر أنّنا أفراد نكوّن تجربتنا المدينيّة من خلال مجموع تجاربنا المكانيّة، إذ يعتبر نفسه حصيلة جميع المدن الّتي زارها وعشقها وعاش فيها.

بناءً على ما سبق، سأحاول هنا أن أستشكل التالي: أولًا، التعدّديّات والتناقضات والاختلاف الّذي يكوّن ويمكّن السرديّات الّتي يقوم عليها المخيال الجمعيّ عن المكان، ويضمّ ذلك الوعي المكانيّ الّذي ينعكس على نوعيّة التجربة المكانيّة، الفرديّة منها والجمعيّة. ثانيًا، الكتابة عن مدينة ما اختبرناها وعشناها - أو نعيشها ونعيش فيها - فنحن حين نكتب عن مدينة ما، لا نكتب عنها - أو نكتبها - نيابةً عن أو انعكاسًا لهذا المخيال الجمعيّ، بل نكتب سرديّتنا الفرديّة فيها. إضافة الى ذلك، حين نكتب عن مدينة ما، هل نقوم حقًّا بالكتابة عن مدينة واحدة؟ فكم مدينة تعيش فينا وتستوطننا؟

بدلًا من البحث في سؤال المشي في المدينة كما أصبحت العادة، سأحاول استنطاق المدينة نفسها عبر الانطلاق من السؤال التالي: كم مدينة تمشي فيّ وتكتبني؟

 

بيروت المتعدّدة في مخيال ساكنيها

بوصفنا سكّان فضاءات اجتماعيّة، نقوم بشكل يوميّ بإنتاج أماكننا من خلال أفعال وممارسات اجتماعيّة – مكانيّة إمّا راضخة للمنظومة الاجتماعيّة – السياسيّة – المكانيّة، أو محرّضة ومستفزّة وفي بعض الأحيان مقاومة لها. تتناسق هذه الممارسات مع تصوّراتنا المكانيّة الّتي غالبًا ما تكون يوتوبيّة في مخيالنا السياسيّ الّتي تقوم عليه فردانيّتنا (singularity) وفعاليّتنا (agency) الشخصيّة. هذا التصوّر يحقّق لنا ضمنًا حقّنا في المدينة أو الـ (oeuvre) كما أسماها هنري لوفيفر Henri Lefebvre (1901 - 1991)، ويمكّن عمليّة إنتاج الفضاء الاجتماعيّ.

من هذا المنطلق، على الرغم من التشابه النابع من فكر سياسيّ جامع، على سبيل المثال، لكلّ منا تصوّره وصورته الخاصّة عن مدينته، تتحدّد بفعل خصوصيّة خوضنا لها كتجربة معاشة، تجسيديّة (embodied). فنحن نسكن الفضاء ونحوّله إلى أماكن فيها ذكريات وآمال ومخاوف وقصص وغيرها من الانطباعات والمشاعر، الّتي تنمّي حسّ التعلّق والانتماء والهويّة، وتسهم في إنتاج معنًى وفكر ومعرفة ذاتيّة، مكانيّة، وجمعيّة في آن. لذلك، لا يمكن الحديث عن بيروت واحدة لجميع ساكنيها. لكن في الوقت عينه، هل كلّ منّا فعلًا يخوض تجربة مدينة واحدة في بيروت؟ بمعنى آخر، هل نستطيع، ولو مجازًا، أن نجرّد تجربتنا لمدينة ما من جميع تجاربنا السابقة لمدن أخرى قد عشناها وعشقناها وسكنّاها؟ أو عن تصوّراتنا - الفعليّة/ المعاشة منها والنظريّة/ المتخيّلة - لمدن معيّنة، أو قراءاتنا عنها أو الروايات والسير واليوميّات والمدوّنات والصور وغيرها الّتي من خلالها نكوّن المفهوم الأوسع للمدينة في أذهاننا ومخيّلتنا؟ لنستطيع التكلّم والتحدّث - عن وإلى - مدينة ما، وصياغة معنًى لعلاقتنا معها، ننطلق من فكرة ما – قبل - التجربة الحسّيّة. أي تلك التخيّليّة التصوّريّة الّتي تسبق العين وأخواتها من الحواسّ؛ فتجربة المدينة هي في نهاية المطاف تجربة تجسيديّة وامتداد لتجربتنا وعلاقتنا مع فضائنا الأوّل: الجسد.

لكلّ منا تصوّره وصورته الخاصّة عن مدينته، تتحدّد بفعل خصوصيّة خوضنا لها كتجربة معاشة، تجسيديّة (embodied)...

يقول حسين البرغوثي (1945 – 2002) أنّ المكان فكرة في عقل أحدهم. ذلك قول يذكّرني بما سبق وذكرت على لسان هنري لوفيفر الّذي يقول إنّ كلّ إنتاج مكانيّ لا بدّ له أن ينبثق من تصوّر يوتوبيّ ذهنيّ وتخيّلي (spatial imaginary). بالنظر إلى أنّ تجربة المدينة هي تجربة تجسيديّة بامتياز، فلنا إذن أن نستحضر دور الجسد والحركة والمخيال والذاكرة والنسيان والمشي والكتابة في قيادة وصوغ وتطويع تجربتنا المدينيّة وسرديّتنا الخاصّة بنا. فلا نستغرب مثلًا كيف يقوم عقلنا باستحضار القاهرة حين نجول شوارع بيروت، أو لندن في الدوحة، وهو استحضار ليس قائمًا بالضرورة على أيّ تشابه أو تطابق صوريّ بين المدن، بل نابع من علاقتنا الحسّيّة بالمكان. فنحن، كما يقول الباحث عبدالله البيّاري، لا نخرج من مدينة ما بشكل كامل ولا ندخل مدينة ما بشكل كامل. بل، وسأضيف، نحن من تنتقل المدن فينا، وليس العكس.

 

المدينة متعدّدة المدن 

زرت بيروت بعد أشهر فقط من انتقالي منها إلى العمل والسكن في الدوحة. في بيروت عزفت عن استكمال قراءة رواية كنت قد بدأتها في الدوحة قبل توجّهي إلى بيروت لقضاء عطلة رأس السنة: «ماكيت القاهرة» (2021) لطارق إمام. رواية أقلّ ما يقال فيها إنّها غريبة بعض الشيء، لكنّها ممتعة ومثيرة. فقد طبعت في نفسي وعقلي تساؤلات عن علاقتنا الشخصيّة بمدننا لطالما استفزّتني: ماذا نعني حين نقول إنّنا نكتب صورة مدينة ما؟ أو إنّنا نصنع مجسّمًا مصغّرًا لمدينتنا حسبما نراها نحن ونحاول توثيق علاقتنا بها من خلاله؟ كيف يستطيع هذا المجسّم أو هذه الصورة الممثّلة كتابيًّا أن تعبّر عن تجربتنا الشخصيّة المخياليّة والمعاشة اليوميّة في آن؟ وإذا ما توفقنا هنا، ألا يعني ذلك أنّ مدينة واحدة تحتوي على مدن بأسرها؟ وفقًا للطرق العديدة والصور الوفيرة والتجارب المختلفة الموجودة في مدينة واحدة، تتعدّد بتعدّد واختلاف تجارب ساكنيها؟ فبيروتي لا تشبه بيروتة أحد.

هل يمكن أن توجد صورة موحّدة وتجربة حاضنة لجميع التجارب المتناقضة والمتعدّدة لمدينة واحدة خارج السرديّة المهيمنة أو الصورة النمطيّة الرومانسيّة والنوستالجيّة لمدينة ما؟ وكيف يمكننا المساهمة في إنتاجها؟ هل وجود هذه الصورة يعني تلقائيًّا رمنستها وتنميطها وهيمنتها؟ كيف نحتوي صورة مدينة حاضنة وضامّة لجميع تعدّديّاتها وتناقضاتها في وعي جمعيّ مدينيّ/ مكانيّ أو سرديّة جمعيّة من دون تطويع أو طمس هذه السرديّات والاختلافات؟

قد تبدو مهمّتنا صعبة، لكنّ طريق الوصول، طريق البداية، سياسيّة، جمعيّة، معاشة، وممارسة يوميّة، تبدأ من كلماتنا ومخيالنا والتأكيد على ضرورة التحدّث معها ومنها وإليها ولها، ومقاربة أرشفتها وكتابتها بطرق بديلة، حاوية، جامعة، عادلة، غير إقصائيّة. فالعدالة المكانيّة تقع في صلب العمل تجاه أيّ شكل من أشكال العدالة الاجتماعيّة.

ما قد يخرجني من مأزق دوّامة التساؤلات هذه هو محاولة أَشْكَلَة هذه الهواجس وتأطيرها لترتيبها عبر الحفر فيها وتفكيكها، للتفكير فيها من زوايا مختلفة لربّما يوصلني ذلك إلى بداية طريق معرفيّة ما. أتذكّر هنا عبارة لطالما ردّدها إلياس خوري: "ينتهي الحبّ حين ينتهي الكلام". تذكّرني بدورها بمقولة عبد الكبير الخطيبي (1938 – 2009) الّذي قال إنّ المدن تتحوّل إلى ركام حين تهجرها الكلمات. فأتحوّل هنا بدوري إلى الكلمات، تحديدًا إلى اللغة الأمّ وعلاقتنا معها، كمحاولة لمقاربة مدينتنا الأولى عبر النسق نفسه.

يتساءل عبد الفتاح كيليطو عن إمكانيّة أن يكون المرء أحاديّ اللغة/ اللسان، وهو تساؤل مشابه لذلك الّذي بدأت فيه هذا المقال، أي إمكانيّة أن يكون المرء أحاديّ المدينة - ليس هويّاتيًّا أو انتماءً، بل معرفيًّا، والّذي ينعكس تجربة وممارسة بمعنى (praxis). للترحال والرحلة والفقدان والبعد والغربة المكانيّة تأثير أيضًا في هذه التجربة، وكذلك اللغة. فيقول كيليطو في مقالته «كيف يمكن للمرء أن يكون أحاديّ اللسان؟»: "لا تغيير للمكان من دون عقاب. فقد ينسى المرء لغته. وبعبارة أخرى، قد يصبح آخرًا". هذا الإحساس بالفقدان والغربة يتعدّى إذن مسألة كونه مجرّد انسلاخ عن مكان  - أو مطرحنا في هذا العالم ، بل أيضًا عن تجربتنا اليوميّة لذاتنا، وأدائيّتنا لها ولمكاننا المباشر المادّيّ المعاش من جهة، وموقعنا في هذا العالم من جهة أخرى - فضلًا عن قدرتنا على التعبير عن ذلك.

إنّ المدن تتحوّل إلى ركام حين تهجرها الكلمات. فأتحوّل هنا بدوري إلى الكلمات، تحديدًا إلى اللغة الأمّ وعلاقتنا معها، كمحاولة لمقاربة مدينتنا الأولى عبر النسق نفسه...

لتأطير ما أحاول قوله هنا، سأستعير مفهوم جاك دريدا Jacques Derrida (1930 - 2004) عن أحاديّة اللغة. إذ ينطلق من مقولتين قد تبدوان للوهلة الأولى متعارضتين أو متضادّتين: الأولى، نحن نتكلّم لغة واحدة، والثانية نحن لا نتكلّم أبدًا لغة واحدة فقط. لشرح هاتين الجملتين وما تحملانه من تناقض مبدئيّ، أستحضر كيليطو مرّة أخرى: "إنّ كلّ متكلّم يعبّر باللغات الأجنبيّة انطلاقًا من لغته الّتي يمكن التعرّف عليها عن طريق نبرة شاذّة أو لفظ أو تركيب، وأيضًا عن طريق النظرة وسمات الوجه - أجل، للّغة وجه -  مهما كانت الكلمات الأجنبيّة الّتي أتلفّظها، تظلّ العربية مسموعة من خلالها كعلامة لا تمّحي. أتكلّم اللغات جميعها، لكن بالعربيّة".  

حرّرتني كلمات كيليطو من هواجس كثيرة تجاه بيروت، وخفّفت من ثقل حمولة الإحساس بالغربة والفقدان والخذلان والذنب تجاهها. فأنا أتكلّم وأكتب وأمشي وأعيش وأحبّ وأكره المدن جميعها من خلالها. فبيروتتي، كعربيّتي، خاصّة بي، وفكرة في عقلي، وتجربتي الشخصيّة، ومكاني ومطرحي أنا. ولا أطمح هنا إلى مقارنتها بمدينة أخرى، أو بتجربة مدينة أخرى، أو باختزال جميع المدن فيها واختزالها فيهنّ. لكنّ مدينتي الأولى نقطة انطلاقي لفهم ذاتي وأماكني أينما كانت وكنت، خريطتي في هذا العالم.

 

ليست مدينة واحدة أبدًا 

أستعيد دريدا مرّة أخرى لأقول: ١. أكتب مدينة واحدة ٢. لا أكتب أبدًا مدينة واحدة.

تمشي معي بيروت في جميع المدن الّتي أزورها، أتعرّف عليها جميعًا من خلال مدينتي الأولى، في كلّ شارع وعلى كلّ رصيف إضافة لطرس، لنصّ، لطبقة أعرف المكان الّذي حولي منها، وأعرف مكاني فيها، في هذا العالم. فكم من مدينة مشت فيّ ومعي، أكتبها وتكتبني؟

في المشي كما في الكتابة، تيه ودوران وتفاوض ونقاش محتدم بين المشّاء والشارع، بين الكاتب ونصّه، وهي عمليّات ضروريّة لأيّ إنتاج مكانيّ/ معرفيّ. فنحن جميع المدن الّتي زرناها، وجميع الكتب الّتي قرأناها، كما يقول بورخيس Jorge Luis Borges (1899 – 1986). يمكن التفكير في هذه التعدّديّة والتناقضات وعمليّات التفاوض، الّتي أحيانًا ما تأخذ أشكال عنيفة وتترك آلامًا وآثارًا فينا، بأنّها كامنة في خصوصيّة تجربتنا الفردانيّة والشخصيّة في الحياة وأمكنتها، الّتي وإن شاركنا آخرون فيها، فهم لا يشاطروننا التجربة نفسها. فلا يكتبون نصوصًا مطابقة لنصوصها - بل محاورة معها أو متنافرة حتّى في بعض الأحيان - ولا يخطون الشارع نفسه بالطريقة نفسها.

يمكن تفسير ذلك استنادًا إلى فكرة المخيال المكانيّ - أو البعد التخيّليّ اليوتوبيّ الّذي يوطّد علاقتنا بالمكان. ذلك ما أسماه المعماريّ والكاتب العراقيّ أسعد الأسديّ بالوهم. فيقول في كتابه «معرفة المكان» (2016): "ليس ثمّة ما هو أشدّ التصاقًا بنا من المكان، وما هو أحوج منه كي يبعده عنا توهّم ما يمكّننا من رسم صورة ملتبسة له تفارق بديهيّة حضوره". فيعتبر الأسديّ الوهم عنصرًا أساسيًّا لفهم المكان والخروج من اعتباره مجرّد وعاء مادّيّ، إلى اعتباره عنصرًا فاعلًا وفعّالًا في إنتاج المعنى الّذي "نعتقده في المكان ونضفيه عليه". أي، نحن بحاجة إلى هذا الوهم لتكوين معرفة به من جهة، ولخوضه كتجربة إنسانيّة من جهة أخرى.

يعتبر الأسديّ الوهم عنصرًا أساسيًّا لفهم المكان والخروج من اعتباره مجرّد وعاء مادّيّ، إلى اعتباره عنصرًا فاعلًا وفعّالًا في إنتاج المعنى الّذي "نعتقده في المكان ونضفيه عليه"...

ما يغذّي هذا الوهم كامن في أسارير كلّ منا، خاصّ بالأفراد أنفسهم، تتبلور فيه عناصر تبدو أحيانًا متنافرة ومتضاربة ومتعارضة: إحساس الألفة والانتماء والسكينة، الإحساس بالغربة والوحشة والفقدان، أطياف الذاكرة والرغبة والحلم والأمل وغيرها من العناصر الّتي تكوّن وتتكوّن بفعل علاقة الفرد بمحيطه من جهة، وانفتاحه/ ا على تجارب مدينيّة أخرى في سيرة حياته/ ا من جهة أخرى.

تتراكم إذن تجربتنا المكانيّة على مرّ السنين، بما في ذلك علاقتنا مع مدينتنا الّتي منها ننطلق وإليها نعود، لتحدّد عبر سياقات مدن وأماكن أخرى، المتخيّلة منها والحقيقيّة. يرافق هذه التجربة نوع من التيه المتواصل. يقول لؤي حمزة عبّاس في مقدّمة كتاب «معرفة المكان» للأسديّ: "في وقت يبدو التيه ملازمًا لإدراك طبيعة التجربة ووعي خلاصتها في ’عيان المكان‘ الّذي تحدّث عنه النفريّ (توفّي 340 هـ) وهو يشير لافتتان الحدود، إنّه بحث في مُمْكِنَات المكان، دراسة طبقاته وتأمّل طرائقه في اقتراح مجال التجربة الإنسانيّة الّتي يجدّد فيها ذاته ويصبح مكانًا مبتكرًا يجسّد مع كلّ انتباهة هندسيّة صلة مقترحة مع الحياة، وهو يمارس حرّيّة أوفى كما في العمارة التفكيكيّة، وهي تعيد ترتيب الوجود وتزعزع بعض قناعاتنا".

إنّ التفكير في المكان من هذا المنطلق يمكّننا من خوضه كتجربة إنسانيّة معاشة، أن نعيش فيه كما نعيشه، كما يقول الأسديّ. أن نتنبّه أيضًا لزمان وذاكرة أماكننا، لسيرورتها وأدائيّاتها، لننفتح على حكايات هذه الأمكنة، بما فيها حكاياتنا. ما علينا لمقاربة معرفة المكان والذات معًا سوى الحفر في طبقاتها وطرق تجلّيّاتها وأثرها وآثارها فينا وفيها. ولعل ميشيل فوكو Michel Foucault (1926 - 1984) في مقاربته للمعرفة كعمليّة حفر أو كعمليّة أركيولوجيّة خير مفتاح لما أطرحه هنا.

فتبقى بيننا وبين مدننا الأولى، مدينة ومدينة.  

 


 

فرح العريضي

 

 

 

أستاذة مساعدة في «برنامج الأدب المقارن» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». حاصلة على الدكتوراه في «الأدب المقارن» من «جامعة غولدسميثس» في لندن، تتمحور اهتماماتها البحثيّة حول الأدب العربيّ المعاصر، الأدب المقارن، والدراسات المكانيّة.