الكتب وسجون إسرائيل

جوزيف جويسي

 

تنصّ التعليمات على...

تنصّ تعليمات «مصلحة السجون الإسرائيليّة» (פקודת בתי הסוהר [נוסח חדש], התשל"ב- 1971)، على "حقّ كلّ سجين في الاندماج في نشاط/ فعاليّة ترفيهيّة أو تربويّة على نطاق وبشروط تحدّدها مصلحة السجون وأنظمتها" (بند 11 ج).

تحدّد التعليمات أنّه "في كلّ سجن يُقام ويُنَظَّم برنامج تعليميّ، إلّا إذا قرّر المسؤول العامّ لمصلحة السجون [נציב] غير ذلك؛ وتُعْطى للأسرى التسهيلات والإمكانيّات لتوسيع معرفتهم في ساعات الفراغ؛ ويُعْطى اهتمام خاصّ لتعلّم القراءة والكتابة مِمَّنْ لا يعرفونها" (بند 47 لأنظمة السجون، 1978)، وتنصّ هذه الأنظمة على أن تُقام في كلّ سجن مكتبة، يحقّ لكلّ سجين استعمالها وفق تعليمات مدير السجن (بند 48 هناك)، ويحقّ للسجين شراء كتب ومجلّات وصحف على حسابه الخاصّ، شرط أن يحصل على إذن/ موافقة مدير السجن (بند 49 هناك).

تسري هذه التعليمات على السجناء الجنائيّين، أمّا مَنْ تصنّفهم إسرائيل بـ ’سجناء أمنيّين‘ فلا تشملهم هذه التعليمات، وتسري عليهم وعلى تعليمهم وثقافتهم تعليمات أخرى مشدّدة ومقيّدة.

تسري هذه التعليمات على السجناء الجنائيّين، أمّا مَنْ تصنّفهم إسرائيل بـ ’سجناء أمنيّين‘ فلا تشملهم هذه التعليمات، وتسري عليهم وعلى تعليمهم وثقافتهم تعليمات أخرى مشدّدة ومقيّدة. وهو تعريف سياسيّ للأسرى السياسيّين الّذين تعتقلهم إسرائيل على خلفيّة مقاومة الاحتلال، والّذين من المفترض أن تسري عليهم المواثيق الدوليّة كـ «اتّفاقيّة جنيف الثالثة» في شأن معاملة أسرى الحرب و«اتّفاقيّة جنيف الرابعة»، لكنّ إسرائيل بتعريفها لهم ’سجناء أمنيّين‘ تحرمهم حتّى من الحقّ الأساسيّ في معاملتهم بصفتهم أسرى حرب، وتفرض عليهم تقييدات إضافيّة، وتجرّدهم بهذا التعريف من الصبغة السياسيّة لتضفي صبغة أمنيّة على ما قاموا به من أفعال نضاليّة، وتحويل المسار من مقاومة الاحتلال بصفته حقًّا من حقوق الشعوب الواقعة تحت الاحتلال، إلى عمل أمنيّ تخريبيّ يهدف إلى المسّ بسيادة دولة إسرائيل وأمنها.

سنّت «مصلحة السجون» أنظمة خاصّة للأسرى الأمنيّين، وتشمل أنظمة السجون [פקודת הנציבות] تعريفًا لمَنْ هو السجين الأمنيّ (بند 3ب عمليّة تعريف سجين أمنيّ/ رقم 04.05.00)، وخصّصت أنظمة خاصّة للتعامل معهم (رقم 03.02.00).

وفي حين تشجّع «مصلحة السجون» تعليم السجناء الجنائيّين، والحصول على الكتب، بل تعطيه الحقّ في الحصول على المنح التعليميّة (أنظمة تفعيل سجون للسجناء الجنائيّين [פקודת הנציבות]، رقم  03.01.00)، فإنّها تحدّد الفعاليّات التربويّة للأسرى السياسيّين فقط داخل زنازينهم/ غرفهم، وتعطي لنفسها الحقّ في المداهمات المفاجِئة، ومصادرة الكتب وأيّ موادّ تدّعي أنّها تحريضيّة، وتمنع تعليمهم العالي، وبالمراسلة، كما هو الأمر مع الجنائيّين. ومع أنّها تسمح بوجود مكتبة للأسرى السياسيّين، إلّا أنّها تمنع وجود أكثر من ثلاثة في نفس الوقت فيها (بند 21 ب/ بند 21 د، أنظمة تفعيل سجون للسجناء الجنائيّين [פקודת הנציבות]، رقم 03.01.00). ويفيد الأسرى أنّ المكتبة عبارة عن رفّ في غرفة الغسيل، يحوي كتبًا قديمة مهترئة أحيانًا، كان الحصول عليها من زمن طويل، من خلال «الصليب الأحمر».

وقد خصّصت «مصلحة السجون» أنظمة خاصّة لموضوع الكتب والمجلّات والمعايير (رقم 04.50.00).

يُضاف إلى ذلك تقييدات صارمة على نوعيّة الكتب الّتي يحقّ للأسرى الحصول عليها، وعلى كمّيّة الكتب المسموح بها؛ فيسمح لكلّ أسير بالاحتفاظ بثلاثة كتب فقط، إذ يحصل على الكتب من خلال العائلة في أثناء الزيارة، ويُسْمَح لكلّ أسير بالحصول على كتابين مرّة في الشهر.

وتخضع الكتب للتفتيش، ويُمْنَع الكثير منها؛ فالأغلفة السميكة ممنوعة، والكتب الّتي تحوي صور شخصيّات فلسطينيّة معيّنة، أو أسرى سابقين، وما إلى ذلك، ممنوعة. وفي فترات معيّنة مُنِعَت كتب التاريخ والسياسة، وسُمِحَ فقط بالروايات، ويُضاف إلى ذلك أنّ كتب التعليم والقواميس ممنوعة لأنّ التعليم ممنوع، والكتب الّتي تحوي خرائط ممنوعة، والكتب الّتي تشمل تاريخ فلسطين أو إسرائيل، أو تحوي مصطلحات ’أمنيّة‘ ممنوعة، وممنوع الكتابة على الكتاب، لا إهداء ولا ملاحظات، قبل توصيلها إلى الأسير.

لا يُسْمَح للأسير بمراكمة الكتب؛ فمقابل كلّ كتاب يدخل فعلى الأسير أن يُخْرِج كتابًا، وهي عمليّة مضنية، وأحيانًا تضيع الكتب بين هذا وذاك.

وكثيرًا ما أُعيدَتْ الكتب ولم تدخل السجن لسبب من هذه الأسباب، وأحيانًا لسبب غير واضح، فكثيرًا ما يحدث في فترات الإضرابات عن الطعام، مثلًا، أن يُعاقَب المضربون والمتضامنون بسحب امتيازات ومنها الكتب، فتُصادَر الكتب الموجودة، وتُمْنَع الكتب الداخلة إلى السجن. ولا يُسْمَح للأسير بمراكمة الكتب؛ فمقابل كلّ كتاب يدخل فعلى الأسير أن يُخْرِج كتابًا، وهي عمليّة مضنية، وأحيانًا تضيع الكتب بين هذا وذاك.

وثمّة مَنْ خاض معارك قضائيّة في هذا الصدد، لكنّ الإنجازات في هذا المضمار قليلة؛ فالمرجعيّة هي القوانين والنظم القائمة، وحجّة ’الأمن‘ هي البقرة المقدّسة الّتي تخشى المحاكم المسّ بها وبقدسيّتها؛ فتشرعن التمييز والتضييق لصالح هدف أعلى سامٍ؛ أمن الدولة. ويبقى الحيّز المتاح للأسرى وعائلاتهم حيّز المراوغة والتحايل على هذه الأنظمة، وسياسات المدّ والجزر الّتي تشهدها السجون، حيث تغيّر في سياساتها أحيانًا، أو تغضّ النظر عن بعض الأمور لتحصل على ’هدوء نسبيّ‘ داخل السجون؛ لعبة يعرفها كلّ مَنْ عاش تجربة الأسر لسنوات، أو عمل بالمجال عن قرب.

 

بلا إهداء

عندما اعْتُقِلَ زوجي أمير عام 2010، وحُكِمَ بالسجن لمدّة تسع سنوات بتهم سياسيّة، كان من الأمور الّتي شغلتني في حينه، كيفيّة تسهيل الأمر عليه لقضاء مدّة حكمه، بشكل عمليّ ومفيد يحرّره بعض الشيء من السجن. لم أكن حينذاك محامية، بل درست المحاماة إثر اعتقاله وبسببه، وخلال فترة السجن حصلت على رخصة مزاولة المهنة، وتوقّفت عن العمل معالِجة. لكنّ العامل النفسيّ كان يشغلني، كنت أتساءل: كيف يقضي الأسير وقته بالزنزانة ومنها إلى الساحة - الفورَة، المغلقة سماؤها إلّا من بعض الفتحات خلال الشبك المعدنيّ المكثّف، ومن ثَمّ إلى الزنزانة؟ كيف يمرّ الوقت؟ كيف يجد المعاني للاستمرار؟

شغلتني آنذاك قضيّة الكتب والمكاتيب؛ إذ واجهنا، نحن العائلة، إشكاليّات جمّة في إيصال الكتب بسبب سياسات «مصلحة السجون» وتقييداتها؛ فمرّة اسم الكتاب ممنوع، ومرّة اسم كاتبه، ومرّة جلدته القاسية والسميكة ممنوعة؛ والحلّ إمّا إعادة الكتاب وإمّا سلخ الجلدة. ومرّة أخرى يُمْنَع الكتاب بسبب الإهداء الموقّع على الصفحة الأولى منه؛ هذا الإهداء لكاتب الكتاب الّذي طلب منّي إيصاله إلى أمير، أو أحد الأصدقاء والصديقات، وهم كثر؛ إذ اشتروا الكتاب وطلبوا إيصاله إليه؛ لأنّهم ممنوعون من الزيارة، بمقتضى تعليمات «مصلحة السجون» الّتي تحدّد الزيارات فقط للأقرباء من الدرجة الأولى. وحدث أن انقطع أسرى كثيرون عن العالم لأنّهم سُجِنوا في جيل الشباب والعزوبيّة، وتوفّي أهلهم خلال فترة السجن، ولم يعد لهم أقارب بدرجة أولى يزورونهم كما تحدّد أنظمة السجون!

جرّاء هذه السياسة؛ سياسة المنع والتقييد، تجمّع لديّ في البيت رزمة من تجاليد الكتب الملوّنة والسميكة وأوراق الإهداء المقطوعة والمسلوخة عن كُتِبَها الأصليّة، واتّفقنا - أمير وأنا - على حفظها، وعَمَل معرض منها، أو تحويلها هي نفسها إلى مجلّد ربّما نسمّيه «مسلخ الكتب»، أو «الكتب المسلوخة من السجن»، أو شيئًا من هذا القبيل... هذا المشروع لمّا يخرج بَعْدُ إلى حيّز التنفيذ، هو والكمّ الهائل من بطاقات التضامن الّتي وصلت أميرًا بالعشرات، ووصلت المئات خلال تسع سنوات السجن؛ حين تجمّع الكثير من الموادّ والأفكار تصلح لتكون خامة لكثير من المعارض والرسومات، وأساسًا للعديد من المقالات والكتب.

لنا مع الكتب الممنوعة من دخول السجن قصص تمتدّ على مدى تسع سنوات الأسر، أذكر منها هنا اثنتين:

 

دون كيخوته ينتظر

كانت فترات تمرّ تُمْنَع فيها الكتب بتاتًا، أو نوع محدّد منها. أذكر على مدار أكثر من سنتين مُنِعَت الكتب السياسيّة، والاجتماعيّة أيضًا، إضافة إلى المنع الدائم للكتب التعليميّة الّذي توقّف منذ عام 2011 بأمر من «مصلحة السجون»، مع أمر توقيف التعليم العالي بالمراسلة للأسرى، إبّان «صفقة وفاء الأحرار» (شاليط) الّتي تمّت لاحقًا، لكنّ الكتب التعليميّة والتعليم بقيا ممنوعين؛ فكان عليّ أن أُبْدِعَ في الاختيار، وتحوّلت مهمّة اختيار الكتب إلى مهمّة شاقّة؛ فصرت أشتري الروايات، وكم من الروايات ممكن شراؤها والتنويع في المضامين والأسلوب كي لا يملّ الأسير! وعلى مدار تسع سنوات، حدث غير مرّة أن اشتريت الكتاب ذاته مرّتين؛ إذ لم أعمد إلى تدوين أسماء الكتب الّتي أشتريها كما فعلت مع الرسائل الّتي رقّمتها منذ أوّل رسالة بعثتها إلى أمير في السجن.

انتهت الزيارة، وعدنا ودون كيخوته معنا لحيفا، وبقي على الرفّ بانتظار أمير عامين إضافيّين، حين اشتريت نحو خمسين كتابًا آخر خلال هذه المدّة؛ لأنّ تعليمات «مصلحة السجون» تسمح بدخول كتابين كلّ شهر للأسير.

في إحدى المرّات استعنت بصديق كاتب، طلبت منه مساعدتي في تحضير قائمة بأسماء كتب قرأها أو يوصي بها لأشتريها لأمير، ومن ضمنها كان كتاب «دون كيخوته دي لا مانتشا» لثيربانتس (النسخة المترجمة إلى العربيّة)، فلم يكن أمير يجيد الإسبانيّة رغم أنّه بدأ مرّة بتعلّمها. وفعلًا ذهبت لشراء الكتب من «متجر فتّوش» في حيفا. فاجأني حجم الكتاب الضخم، 1063 صفحة. كان من الواضح لي أنّ إدارة السجن لن تسمح بدخوله؛ فهو يضاهي حجم القواميس الممنوعة أيضًا، لكنّي قلت لنفسي فلنجرّب؛ إذ اعتدنا كلّ هذه المدّة على مقارعة السجّانين والمنظومة كلّها. قلت لنفسي: لن أخسر من التجربة، لكن إن نجحت فلربّما نسجّل سابقة. الكتاب كبير، وإذا دخل السجن فسيغنيني لأشهر من مهمّة الاختيار، وسيلهي أميرًا لفترة كافية يقضي فيها وقته أيضًا بشكل مفيد. صادفت في الفترة ذاتها زيارتي مدينة طليطلة والانكشاف على تماثيل ورسومات تحمل اسم دون كيخوته وصورته يحارب طواحين الهواء. لم أشترِ لأمير بلوزة من هناك رغم أنّي أردت ذلك؛ لمعرفتي أنّها لن تدخل السجن.

وصلنا مدخل غرفة الزيارات، وحاولت تمرير الكتاب من الفتحة الزجاجيّة الصغيرة الّتي فتحها السجّانون أمامنا لتدخيل الكتب، هي نفسها الفتحة الّتي يكون منها تدخيل الثياب الّتي تُبَدَّل مرّتين في السنة، ومنها أيضًا تُدَخَّل الصور الّتي يُسْمَح بدخولها شرط ألّا يتعدّى عددها خمسًا، إضافة إلى شروط مقيِّدة أخرى.

مددت يدي أحمل دون كيخوته؛ وإذ بالسجّان يصيح: واو! ما هذا؟ ممنوع ممنوع. ودار بيننا نقاش طويل حول الكتاب، مؤكّدة أنّ الكتاب رواية ليس إلّا، وهو يشدّد على أنّ وزنه وحده يكفي لمنعه. وعاد يصرخ: ممنوع، ممنوع. حاولت أن أقترح أن يفحص الأمر مع مسؤوليه؛ أن يطلب منهم أن يتصفّحوه كما يفعلون بالكتب، لكنّه رفض وأكّد أنّ دون كيخوته لن يدخل السجن.

أعدت الكتاب وأنا أفكّر في الخطوة القادمة؛ خوض معركة قضائيّة نيابة عن دون كيخوته، لكنّ الأمر سيبدو تمامًا كما كان يفعل الدون كيخوته نفسه؛ محاربة طواحين الهواء! أو أذهب إلى المطبعة وأطلب تقسيم الكتاب إلى ثلاثة أجزاء أو أربعة، وإحضاره مُجَزّأً إلى أمير، أو أبقيه كما هو إلى حين التحرّر، وكان قد بقي على ذلك عامان فقط.

انتهت الزيارة، وعدنا ودون كيخوته معنا لحيفا، وبقي على الرفّ بانتظار أمير عامين إضافيّين، حين اشتريت نحو خمسين كتابًا آخر خلال هذه المدّة؛ لأنّ تعليمات «مصلحة السجون» تسمح بدخول كتابين كلّ شهر للأسير. دخلت غالبيّة الكتب، ما عدا بعضها، وبقي دون كيخوته في الانتظار.

 

عبور فانون

في إحدى الزيارات، طلب منّي أمير أن أحضر له كتاب «بشرة سوداء... أقنعة بيضاء» لفانون، وكان متأكّدًا أنّ لدينا نسخة في البيت. مرّ أسبوعان - وهي المدّة الزمنيّة بين زيارة وأخرى - بشكل سريع جدًّا. وكان عليّ تحضير الكتب للزيارة القريبة. بحثت عن فانون فلم أجده على رفوف مكتبتنا، وحاولت شراءه فلم أجده متوفّرًا في المكتبة. 

سألني عن موضوع الكتاب، وكانت جلدته تحمل عنوانه؛ فرحت أشرح له عن الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، وقمع شعبها، وكيف أنّ بعضهم سود البشرة، أرادوا التشبّه بأسيادهم وتماهوا معهم، ونَسَوْا لون بشرتهم...

كان لديّ على الرفّ الكتاب باللغة العبريّة، شريته في أثناء تحضيري لرسالة الماجستير؛ إذ اعتمدته لشرح كيفيّة عمل آليّات القهر والقمع. لكنّ الكتاب، إضافة إلى أنّه باللغة العبريّة، كان مليئًا بالملاحظات الّتي دوّنتها في فراغات الكتاب، وأيضًا باللون الأصفر المشدّد على بعض الجمل. كان من الواضح لي من تجربتي مع الإهداءات على الكتب أنّ الكتاب لن يمرّ. لكن قلت لنفسي: فليكن، لِمَ لا أجرّب؟ وكان هذا الأسلوب الّذي اتّبعته على مدار تسع سنوات، فقد اعتدت خلال سنوات الأسر على ’مفاقعة‘ السجّانين، وتحدّي تلك المنظومة، وعدم التسليم بما أرادونا أن نعتبره مسلّمات.

أخذت الكتاب معي، وتقدّمت للفتحة الزجاجيّة في مدخل السجن، ومددت يدي بالكتاب للسجّان، كان هناك مسؤول الزيارات وهو أثيوبيّ الأصل (وأذكر هذه المعلومة لعلاقتها بالحدث)، وكان يعاملني بشكل عامّ باحترام، ربّما أصوله الأثيوبيّة تحمل معاني من احترام النساء، أو الأكبر سنًّا، أو ما إلى ذلك. كان يتوجّه إليّ في الحديث بصفتي محامية، ولمّا أكن قد صرت بعدُ كذلك. لا أذكر كيف عرف أنّي أدرس القانون، لربّما من الرسائل الّتي أبعثها إلى أمير وتصلني منه؛ إذ يفتّشونها ويقرؤونها. أو ربّما ذكرت ذلك أو ذكرته إحدى العائلات. المهمّ ما حدث أنّي بادرته الحديث شارحة له كلّ ما حصل معي بالضبط، منذ أن طلب أمير الكتاب، إلى حين البحث عنه، وإيجاد النسخة العبريّة، شارحة له ما تعنيه الملاحظات والكتابات والتشديدات بالأصفر على الكتاب.

سألني عن موضوع الكتاب، وكانت جلدته تحمل عنوانه؛ فرحت أشرح له عن الاحتلال الفرنسيّ للجزائر، وقمع شعبها، وكيف أنّ بعضهم سود البشرة، أرادوا التشبّه بأسيادهم وتماهوا معهم، ونَسَوْا لون بشرتهم، وحاولوا تغطيته بقناع أبيض ووووو... كان من الواضح أنّ الموضوع أثار اهتمامه، ولربّما ذكّره بماضيه وماضي أجداده.

فاجأني بقوله: "سأفحص، ادخلوا الآن، وإذا رُفِضَ الكتاب تأخذونه معكم بطريق الخروج"، وأضاف: "أنا متأكّد من أنّك لا تريدين التسبّب لزوجك في مشاكل"؛ بمعنى أنّي لن أكتب شيئًا ممنوعًا أو محظورًا – في مفاهيمهم - وكان هذا نوعًا من الضوء الأخضر للكتاب، لكنّي قلت في قرارة نفسي: انتظري، لا تفرحي فسياستهم هي المفاجَأة الدائمة لنا.

انتهت الزيارة، خرجنا من الباب، لم يكن ’شاحَر‘ السجّان يحمل بيده الكتاب، سألته بلهجة استفسار:

الكتاب؟ فقال: آه، نعم، دخل الكتاب، سنعطيه لأمير.

علامات وجهي كانت توجّه إليه استفسارًا: كيف؟

لم ينتظر، وأكمل قائلًا: تصفّحت الكتاب سريعًا، رأيت أنّك كتبت هناك بملاحظاتك "الأسود جميل".

قلت لنفسي: يبدو أنّ هذا كان سبب دخول الكتاب السجن، إضافة إلى لون بشرة السجّان واسمه، ويبدو أنّهم لا يعرفون مَنْ هو فانون، وهو أمر جيّد لنا.

دخل فانون السجن، وبقي دون كيخوته ينتظر...

 

«كتاب لكلّ أسير»

 بالاعتماد على تجربتي الشخصيّة مع الكتب الممنوعة، والتقييدات على إدخال الكتب إلى السجون، أطلقنا عام 2015 في «المؤسّسة العربيّة لحقوق الإنسان» حملة أسميناها «كتاب لكلّ أسير»، وكنت أعمل هناك مركّزةً لمشروع حقوق الأسرى. توجّهنا من خلالها إلى المؤسّسات البحثيّة والمكتبات الوطنيّة، طالبين منها التبرّع بكتب للأسرى، نوصلها إليهم من خلال عائلاتهم. وجاءت الحملة استمرارًا لروح حملة أطلقناها في السنة الّتي سبقتها، وكانت بعنوان «بطاقة لكلّ أسير».

كان العمل على الحملة على مدار أشهر قد تكلّل بالنجاح؛ جُهِّزَتْ قائمة بأسماء الأسرى وأرقام هواتف عائلاتهم للتواصل، وجرى التواصل معهم وتوصيل شنطة طُبِعَ عليها اسم الحملة، فيها رزمة من الكتب لكلّ أسير...

كان العمل على الحملة على مدار أشهر قد تكلّل بالنجاح؛ جُهِّزَتْ قائمة بأسماء الأسرى وأرقام هواتف عائلاتهم للتواصل، وجرى التواصل معهم وتوصيل شنطة طُبِعَ عليها اسم الحملة، فيها رزمة من الكتب لكلّ أسير. أمّا مَنْ تعذّر علينا الوصول إليهم، فقد وصلنا ساحة السجن يوم الزيارة، وجرى تسليمهم رزمة الكتب.

جاءت هذه الخطوة لتؤكّد دعمنا للأسرى وعائلاتهم، وفي محاولة لتحدّي سياسة التضييق الّتي اتّبعتها «مصلحة السجون» ضدّ الأسرى عام 2011، ومنها قرار وقف التعليم العالي للأسرى بالمكاتبة، الّذي كان متّبعًا منذ عام 1994، حيث سُمِحَ حتّى ذلك الحين للأسرى السياسيّين بالدراسة بالمراسلة في «الجامعة المفتوحة»، مواضيع محدّدة منها علم الاجتماع، والاقتصاد، وعلم النفس، والعلوم السياسيّة؛ إذ أصدر المفوّض العامّ لـ «مصلحة السجون» في حزيران (يونيو) 2011، أمرًا بإبطال "أنظمة تعليم أسرى أمنيّين في الجامعات" (أنظمة السجون رقم 04.48.00). جاء القرار بتوصية من ’طاقم مهنيّ‘، أوصى بذلك لأنّ "الأسرى الأمنيّين يتمتّعون بحقوق زائدة لا يوجد شبيه لها في العالم، وهي غير ملزمة قانونيًّا" (ملفّ 13/204 سعيد صالح ضدّ «مصلحة السجون»، نيسان [أبريل] 2015).

اتّخذت «مصلحة السجون» هذا القرار بوقف التعليم العالي ورقةً للضغط باتّجاه إطلاق سراح شاليط، قبيل «صفقة وفاء الأحرار» (شاليط).تمّت الصفقة، وأُطْلِقَ سراح أسرى فلسطينيّين في المقابل، لكنّ التعليم العالي للأسرى لم يُرْجَع، بل استمرّت سياسة منع الكتب بشكل عقابيّ بين حين وآخر، والتقييدات المفروضة عليها، حجمها ونوعيّتها، وعددها.

 

«كتاب لكلّ أسيرة»

قبل شهر تقريبًا، بادرني مهنّد من حيفا، ومن ثَمّ بعد أيّام صديقتي سهير - وهما ناشطان من أجل الأسرى والأسيرات - بسؤال عن فكرة تعمل عليها مجموعة ناشطين من حيفا لتبنّي أسيرات الدامون، وكيفيّة مساعدتي في الأمر لأنّي أزور الأسيرات جزءًا من عملي محامية في مجال حقوق الأسرى. ويشمل «سجن الدامون» في أعلى جبل الكرمل قسمًا للأسيرات السياسيّات، وقسمًا للأشبال، إضافة إلى قسم ثالث للجنائيّين. ويزور الأهالي بناتهم من خلال تنسيق الأمر مع «الصليب» (وهو الاسم المختصر «للصليب الأحمر» كما يستعمله الأسرى والعائلات)، الّذي يستصدر التصاريح للزيارة، ويتبنّى إرسال حافلة تقلّ الأهالي في رحلة تبدأ أحيانًا الساعة الخامسة صباحًا، وتنتهي في ساعات الليل المتأخّرة منذ الانطلاق إلى البيت وزيارة السجن، وإلى حين الوصول إلى البيت في آخر اليوم.

فكّرنا في عدد من الأمور، أحدها كان الوجود في المكان أثناء حضور الأهل للزيارات، دعمهم ومساعدتهم في بعض الأمور، كالترجمة أمام السجّانين حين دخول الزيارة؛ إذ يصادف الأهل بعض الصعوبات لأنّ الكثيرين منهم لا يعرفون اللغة العبريّة؛ لغة السجّانين، وأحيانًا يُقال لهم إنّ الأسير/ ة غير متاح، إمّا أنّه في تحقيق وإمّا في جلسة محكمة وإمّا في زيارة إلى المستشفى في بعض الحالات، وإمّا أنّه في عقاب أو ممنوعين من دخول أشخاص غير واحد، رغم أنّ «الصليب» قد استصدر التصريح!

في الأمور الصغيرة تكبر المعاني الكبيرة، فكلّ خطوة صادقة بهذا الاتّجاه مباركة ومطلوبة، سواء كانت رسالة إلى أسير أو كتابًا أو وقفة داعمة أمام السجن، أو زيارة إلى عائلة أسير.

استحسن مهنّد وسهير الفكرة، وأكّدا أهمّيّة ذلك، بل حتّى القيام بفعاليّات ترفيه للأطفال. وتحدّثنا عن أهمّيّة الكتب للأسيرات، خاصّة في الفترة الّتي أُغْلِقَتْ فيها السجون. لكنّني نبّهت من تجربتي إلى أنّ الكتب لا يمكن إدخالها، للأسف، إلّا من خلال العائلات، وبعض العائلات ما زالت لا تقدر على دخول السجن بسبب موانع الكورونا؛ لأنّ بعضهم لم يتلقَّ التطعيم من قِبَل «السلطة الفلسطينيّة»، وهو أمر آخر يطول الحديث عنه.

كم سعدت حين خبّرتني صديقتي سهير هذا الأسبوع بأنّ الأمر قد رُتِّب، والكتب ستدخل السجن؛ «سجن الدامون».

السجن باقٍ ما دام الاحتلال باقيًا، ومنظومة السيطرة والقمع والتضييق باقية ما بقيت السجون.  وما دام القمع والاحتلال فثمّة مقاومة. التخفيف عن الأسرى وعائلاتهم وتحسين ظروفهم إلى حين زوال السجون والاحتلال مسؤوليّتنا جميعًا. وفي الأمور الصغيرة تكبر المعاني الكبيرة، فكلّ خطوة صادقة بهذا الاتّجاه مباركة ومطلوبة، سواء كانت رسالة إلى أسير أو كتابًا أو وقفة داعمة أمام السجن، أو زيارة إلى عائلة أسير.

 


 

جنان عبده

 

 

محامية وفنانة تشكيليّة، من سكّان حيفا. ساهمت في تأسيس عدد من الأطر الأهليّة، ولها إسهامات بحثيّة. صدر لها كتاب «الجمعيّات النسائيّة والنسويّة الفلسطينيّة في مناطق 48» عن «مدى الكرمل». تنشط وتكتب عن قضايا الأسرى والمرأة.