آني إرنو... «نوبل» تكرّم الكتابة العارية

الكاتبة الفرنسيّة الحائزة على «جائزة نوبل» (2022) آني إرنو

 

أثار منْح «جائزة نوبل للآداب» (2022) للكاتبة الفرنسيّة آني إرنو Annie Ernaux عاصفة في فرنسا؛ فإذا كانت «الأكاديميّة السويديّة» قد أثنت على الروائيّة الفرنسيّة، وعلى دقّة ملاحظتها الاجتماعيّة، ومهارة توظيفها للذاكرة العابرة للشخصيّات والأجيال في كتاباتها، فإنّ الرأي العامّ الفرنسيّ بدا أمام هذا الحدث منقسمًا. مع أنّ الاستقبال الأوّليّ لخبر فوزها تمثّل باحتفالات وثناء وفرح، خاصّة على شبكات التواصل الاجتماعيّ، إلّا أنّ ذلك تغيّر لاحقًا، وظهرت تعليقات تتّهم الكاتبة بالسطحيّة، وأنّها صاحبة كتابة تفتقر إلى العمق والأصالة، وليست أكثر من امرأة تجترّ ذكرياتها، وتدلق تفاصيل مملّة ووقحة على قارئها. حقيقةً، نادرًا ما شهدنا هذا الانفجار من الكراهية تجاه كاتب، لأوّل امرأة تفوز بـ «جائزة نوبل» في تاريخ فرنسا، رغم أنّها حصلت سابقًا على «جائزة رونودو - Renaudot» المرموقة، عن روايتها «المكان - La Place» عام 1984، وهذا ما وفّر لها اعترافًا أدبيًّا ونقديًّا جيّدًا، محلّيًّا وعالميًّا. 

 

ما بين رواية عارية وأخرى كلاسيكيّة

يكفي الاطّلاع على ما جاء في الصحافة الفرنسيّة من مقالات ومتابعات؛ لاستنتاج أنّ الهجمات ضدّ آني إرنو حملت الطابعين السياسيّ والاجتماعيّ من جهة، والآخر الأدبيّ. أمّا الّذين هاجموا إرنو لأسباب سياسيّة واجتماعيّة، فإنّهم يطلقون عليها تهمًا عديدة؛ فيرون أنّها معادية للساميّة، وبعضهم الآخر يرى أنّها عنصريّة، أو انفصاليّة، وحتّى إسلاميّة؛ فقد حوّل الجدل العامّ النقاش الإيجابيّ المتوقّع حول الكاتبة وأعمالها، إلى تهم مطلقة تجاه شخصيّتها وسيرتها الذاتيّة. واتُّهِمَت أيضًا بأنّها مناصرة لليسار الراديكاليّ، وبأنّها نسويّة لا تكتب أدبًا بل مجرّد خطابات، واعتبروا أنّ اختيارها لـ «جائزة نوبل» جاء لهذا الاعتبار؛ أي لأنّها امرأة ونسويّة في المقام الأوّل.

الكتابة المسطّحة، والأسلوب البسيط "écriture plate" الّذي تُتّهم به الكاتبة، هو ما تعترف الكاتبة به، وقد اتّخذت منه أسلوبًا في التعبير. وقد كان هذا خيارًا فنّيًّا واعيًا لدى الروائيّة، في كلّ أعمالها الأدبيّة...

أمّا الأسباب الأدبيّة فيمثّلها ما يمكن أن نطلق عليهم ’عشّاق الأدب بصورته الرسميّة الكلاسيكيّة‘، هم الّذين ينزعون إلى الأدب الخالص النقيّ. بالنسبة إلى هؤلاء، أدب إرنو هو ’ضدّ الأدب‘، ونصوصها عرض طويل من التفاهات اليوميّة الوقحة لامرأة من الطبقة المتوسّطة. ويرون أنّ كاتبة «الأنا والحميميّة» تفتقر نصوصها ’إلى البُعد الإنسانيّ الأصيل الّذي يجب على الأدب أن يجسّده ويعبّر عنه’.

لكنّ الكتابة المسطّحة، والأسلوب البسيط (écriture plate) الّذي تُتّهم به الكاتبة، هو ما تعترف الكاتبة به، وقد اتّخذت منه أسلوبًا في التعبير. كان هذا خيارًا فنّيًّا واعيًا لدى الروائيّة، في كلّ أعمالها الأدبيّة، ولا سيّما الأخيرة منها. كذلك منْحها «نوبل» لهذا النهج في الكتابة أيضًا خيار واعٍ لدى «الأكاديميّة السويديّة» كما يتّضح من إعلان الجائزة، على لسان الأكاديميّ أنديرس أولسون، أستاذ الأدب السويديّ، وعضو «الأكاديميّة السويديّة»: "على الرغم من أسلوبها الأدبيّ المرح عن وعي، فهي إثنولوجيّة بعملها أكثر منها كاتبة روائيّة"، وقالت «الأكاديميّة السويديّة» أيضًا: "عندما تسلّط الضوء، بشجاعة وذكاء إكلينيكيّ، على تناقضات التجربة الاجتماعيّة، واصفة الإحساس بالخزي، والذلّ، والغيرة، أو عدم القدرة على رؤية مَنْ نحن، فإنّها تحقّق بهذا شيئًا مثيرًا للإعجاب، وهو قادر على الاستمرار لوقت طويل".

هذا يبدو، إذن، انحيازًا لنهج محدّد في الأدب، النصّ العاري، الكاشف، الّذي لا يلجأ إلى الغموض، ولا يستلهم فنّيّاته، ولا ترتكز جماليّاته الأدبيّة على المُوارَبة أو تعدّد المعاني، ولا حتّى على الخيال الّذي ينسج القصص، ويخلق الشخصيّات والعوالم والأحداث. وظيفة الخيال هنا مُغايِرَة، تتمثّل في الاسترجاع، واصطياد الأحاسيس، والتقاطها بملاقط حادّة، إنّها كتابة تشريحيّة إكلينيكيّة. وفي خيار كهذا من قِبَل أكاديميّة نوبل التفاتة واضحة إلى شكل من أشكال أدب المقاومة، ذات الطابع الشخصيّ، الحميميّ، العابر لغير جيل، وعبر غير ذاكرة؛ ففي ظلّ تعدّد الحركات والمذاهب الفنّيّة العالميّة، حاليًّا، حدّ التخبّط، في الأدب كما في الفنّ، هنا عودة إلى الوظيفة الأولى في الكتابة: التعبير المباشر عن آلام الإنسان وهواجسه وكوابيسه. إنّه الأدب الّذي يحمل رسالة جليّة، شديدة الذاتيّة، والخصوصيّة، دون محسّنات بديعيّة، أو بلاغة أو شاعريّة؛ فالاستعارة قد تكون أداة للكشف، لكنّها أيضًا، وفي أحد وجوهها، قناع يخفي الحقيقة، يواريها، ويشتّت المعنى؛ فالإزاحة، والتعتيم، والانعطافات اللغويّة، ليست من تقنيّات إرنو في الكتابة، الّتي هي بالنسبة إليها عمليّة كشف متواصل، كلّ عبارة في نصوصها تطمح إلى الوصول إلى معنًى محدّد.

لهذا السبب بخاصّة؛ لسنا هنا أمام كاتبة من طراز ملارميه، وليست عظيمة كمارسيل بروست، أو سان جان برس، ولا تحمل صورة الأدباء الشبه المقدّسة الّتي اعتاد عليها القارئ الفرنسيّ. إنّ أدب هؤلاء الكتّاب سيبدو أرستقراطيًّا بالنسبة إلى أدبها؛ فهي امرأة تكشف عريها، وإحساسها بالعار والإهانة والخزي. كوّنت ثقافتها في مرحلة الستّينات، فترة انتفاضة الطلّاب في فرنسا، المرافقة لحركات التحرّر في العالم، وحركة التحرّر الاجتماعيّ والجنسيّ في فرنسا، الّتي حملت شعار ’كلّ ممنوع ممنوع‘، وهي مرحلة سيمون بولفار، وعالم الاجتماع الفرنسيّ بيير بورديو، وسارتر، وغيرهم من رموز تلك الفترة. 

 

تلقّي الجائزة عربيًّا

أمّا عربيًّا فنحن ما زلنا نتلهّف إلى تلقّي الأخبار عن هذه الجائزة؛ لقيمتيها الرمزيّة والمادّيّة الكبيرتين؛ فهي تبدو كنافذة للخلود، يحلم بها كلّ كاتب عربيّ. هذا التلهّف يأتي رغم الغُبن المزمن والإمعان المتواصل في تهميش الكتّاب العرب؛ فمنذ منشأ هذه الجائزة عام 1901 إلى اليوم، لم يفز إلّا كاتب عربيّ واحد من العالم العربيّ كلّه. بينما في فرنسا وحدها، فاز ستّة عشر كاتبًا حتّى الآن. يبدو أنّ فوز نجيب محفوظ لم يكن إلّا لذرّ الرماد في العيون، وللدلالة على انفتاح الجائزة ليس أكثر. ويكفي النظر إلى قائمة الفائزين بها للاستشهاد بذلك، إنّها جائزة أوروبّيّة بامتياز، وتستحقّ منّا، رغم الإجلال والتقدير، وكلّ ما تشاء من مشاعر الاسترجاء، حدًّا أدنى من الشعور بالريبة والنفور، لمركزيّتها الأوروبّيّة المفرطة الّتي لا تتوانى عن الاستمرار فيها، حتّى في أيامنا هذه، زمن الثورات العربيّة، و«حركة المي تو» (Me Too) في العالم، وفي عصر ما بعد الحداثة في الأدب. تصرّ على حمل طابع عالميّ، من خلال ’تفويز‘ كاتب أفريقيّ أو آسيويّ بين فترة وأخرى، لكنّ هذا لا يعبّر عن نهج حقيقيّ لتمثيل خارطة الأدب في العالم، بما أنّها تدّعي العالميّة.

آني إرنو امرأة تكشف عريها، وإحساسها بالعار والإهانة والخزي. كوّنت ثقافتها في فترة انتفاضة الطلّاب في فرنسا، المرافقة لحركات التحرّر في العالم، وحركة التحرّر الاجتماعيّ والجنسيّ في فرنسا، الّتي حملت شعار ’كلّ ممنوع ممنوع‘...

هناك كتّاب عرب كثيرون بقيمة آني إرنو، فنوال السعداوي هي المعادل العربيّ لها، وقد عاشت في بيئة ذكوريّة أقسى وأكثر ضراوة ممّا عاشت فيه إرنو، وتعرّضت للسجن، وكتبت مذكّراتها هناك، الّتي كانت من أهمّ أعمالها. لكنّ سوء حظّها، أنّها نشأت في مكان وظهرت في وقت ليسا من أولويّات «الأكاديميّة السويديّة». ولم يفز بالجائزة محمود درويش ولا حتّى بدر شاكر السياب، إذا شئنا العودة قليلًا في الزمن، ولم يفز بها عبد الرحمن منيف ولا حنّا مينا، ولا الروائيّون المصريّون واللبنانيّون الّذين لم يستحقّ أحد منهم «نوبل» غير نجيب محفوظ، كما يرى جهابذة «الأكاديميّة السويديّة».

 

مفاتيح عالم آني إرنو الأدبيّ 

الكاتبة الفرنسيّة نشرت أكثر من عشرين رواية أتوبوغرافيّة، هنا خمس روايات لاكتشاف عالم هذه الكاتبة الّتي خرجت من بيئة شعبيّة، وانخرطت في السياسة والحركات الاجتماعيّة اليساريّة، الّتي اتّخذت موقفًا جليًّا، لا محاباة فيه، تجاه فلسطين، معتبرة أنّ الصراع هناك ليس بين طرفين متساويين، بل بين قوّة احتلال وشعب محتلّ. أعمالها الأدبيّة هذه تحمل طابع السيرة الذاتيّة، والبوح الكثيف غير المُواري وغير الخجول. هذه الأعمال الخمسة أعمال مفتاحيّة لعالمها الكتابيّ، كما يشير مقال لفارنس كلتور جاء بعنوان «جائزة نوبل للآداب: خمسة كتب للدخول إلى العالم الأدبيّ العالميّ والسهل لآني إرنو»، وهنا ترجمة لهذه العناوين. لكن، في الحقيقة، أنّه حتّى هذه الأعمال لا تحقّق إجماعًا بين القرّاء في فرنسا حول مستواها الأدبيّ؛ فهناك من يعتبر بعضها كما ذكرنا في مطلع حديثنا، بسيطة وسطحيّة، لكنّها رغم ذلك أعمال مفتاحيّة وأساسيّة للدخول إلى عالمها الأدبيّ.

 

«الخزائن الفارغة- Les Armoires Vides»

هي روايتها الأولى الّتي صدرت عن «دار غاليمار» عام 1974، مستوحاة من أحداث حقيقيّة، تروي قصّة الإجهاض الّتي خضعت لها عام 1964 عندما كانت طالبة، في السكن الجامعيّ. يروي الكتاب، اللاذع والقصير، بالتفصيل، كيف كان هذا الإجهاض بمنزلة فشل وإحساس عارم بالذلّ؛ لأنّ الشابّة وُعِدَت بمستقبل باهر. كانت ترى في هذا الحمل حلمًا بالتحرّر من بيئتها الأصليّة؛ ليسقط الحلم من بين يديها. اعتبر بعض النقّاد هذه الرواية أنّها ’فاحشة‘؛ لأنّها حاشدة بتفاصيل عن عمليّة الإجهاض.

 

«المرأة المتشنّجة – La Femme Gelée»

في هذه الرواية الصادرة عام 1981، الّتي يمكن ترجمة عنوانها إلى «المرأة المتشنّجة» (أو المتجمّدة)، تواصل الكاتبة عملها الأوتوبوغرافيّ، من خلال تحليل حياتها الخاصّة: من الطفولة إلى البلوغ، من فتاة صغيرة مليئة بالأحلام إلى امرأة ناضجة. تروي ما معنى أن تكون فتاة امرأة، أمًّا في مجتمع لا تزال تعتبره أبويًّا. تروي لنا اكتشاف الفوارق الاجتماعيّة بين النساء والرجال، وعنف عدم المساواة هذا. كما يُلقي الكتاب نظرة على تفكّك زواجها ودورها كزوجة في فرنسا في السبعينات.

 

بعض روايات آني إرنو 

 

«المكان – La Place»

يبدأ الكتاب الّذي صدر عام 1983، بفترة حصول آني إرنو على الشهادة الجامعيّة الّتي أهّلتها للعمل مُدرّسة للأدب الحديث في المدارس الحكوميّة، ثمّ توفّي والدها بعد بضعة أسابيع. الكاتبة ترسم في هذا الكتاب بورتريه لوالدها، وتصف الوضع الحسّاس المرتبط بتغيير بيئتها ومستواها الاجتماعيّ؛ فهي بدءًا من تلك الفترة من عمرها أصبحت ’منشقّة عن الطبقة‘ الّتي جاءت منها؛ فقد وُلِدَت في عائلة نورمانديّة متواضعة للغاية، وكان والدها فلّاحًا وأمّيًّا قبل أن يصبح تاجرًا، ثمّ ابتعدت آني إرنو عن هذه البيئة بدخولها البيئة البرجوازيّة والفكريّة؛ من خلال دراستها وزواجها. الاختلافات في مراكز الاهتمام والانشغالات والأنشطة، خلقت فجوة بين الأب والابنة اللّذين لم يعُد لديهما الكثير ليقولاه لبعضهما بعضًا. وقد تُرْجِمَت هذه الرواية وصدرت بالعربيّة تحت عنوان «المكان» عن «دار شرقيّات».

 

«السنوات – Les Annéees»

يُعتبر أهمّ أعمالها، بل تحفة أعمالها الأدبيّة. صدرت هذه الرواية عام 2008، وتستحضر فيها حياتها لتتتبَّع رواية جيل كامل، متحدّثة عن أطفال الحرب، وعن مرحلة الخمسينات الّتي تميّزت بأفكار المدرسة الوجوديّة. وتستحضر تلك الأجواء من خلال الإشارة إلى الأشياء والكلمات والأغاني والبرامج التلفزيونيّة لتلك الفترة، تعيد حقيقة تلك الحقبة الزمنيّة، قائلة: "إنّها قصّة حياتي، ولكنّها أيضًا قصّة آلاف النساء اللائي كنّ يبحثنّ أيضًا عن الحرّيّة والتحرّر".

 

«ذاكرة طفلة – Mémoire de Fille»

بهذا الكتاب الّذي صدر عام 2016، تنطلق آني إرنو في عمليّة بحث عن فتاة، هذه الفتاة هي نفسها الكاتبة. من الصفحات الأولى من الكتاب، تطلق إنذارًا لتحذير القارئ بما هي على وشك أن تقوله له: "إنّه النصّ المفقود دائمًا، مؤجّل دائمًا، هو الهوّة الّتي لا توصف". هذا النصّ الّذي أهملته لمدّة خمسين عامًا هو قصّة أوّل ليلة لها مع رجل، صيف عام 1958. هي نفسها هذه الفتاة ’اليساريّة‘ الّتي لم تكن تعرف شيئًا عن الحياة، والّتي لم تترك بلدها في مقاطعة نورماندي قطّ. لكنّ هذا النصّ ليس نصًّا حول اكتشاف الإثارة الجنسيّة، إنّه أيضًا لحظة اقتحامها العنيف الأوّل لعالم البالغين.

 


 

أنس العيلة

 

 

 

شاعر وكاتب فلسطينيّ مقيم في باريس، أصدر عدّة مجموعات شعريّة تُرجمت إلى الفرنسيّة، آخرها «عناقات متأخّرة». ينشر مقالاته في مجلّات ثقافيّة وأكاديميّة.