حين يمسك الأطفال يد الشمس... عن ورشات الكتابة والفنون

مخيّم البدّاوي للاجئين الفلسطينيّين، لبنان - تغريد عبد العال (الجزيرة)

 

أتيت إلى عالم التدريب من شغف بالكتابة، ومن باب الفضول، لاكتشاف عالم الأطفال الّذي تسكن فيه أسئلة العالم البريئة، فدخلت المخيّم مرّة أخرى للذهاب معهم في رحلة طويلة إلى مجهول يودّون أن يطلّوا عليه، فربّما نكتشف معًا عالمًا آخر ينتهي إليه الزقاق الضيّق في حارة منسيّة. في تلك التجربة الّتي تكرّرت في أكثر من مخيّم ومدينة، حاولت مع الأطفال أن نذهب إلى أزقّة الكتابة لنطرح أسئلتها الطريّة، في تجربة تركت داخلي الأثر الّذي من خلاله تعلّمت أن أقرأ الأشياء من حولي.

 

لماذا نكتب؟

دخلت ذلك المكان، الّذي أسمّيه ورشة، لأسأل نفسي ذلك السؤال البريء: هل سيحبّ الأطفال الكتابة؟ لا أعرف إلى أيّ حدّ جعلت المدرسة الكتابة واجبًا، لكنّي أفهم أيضًا أنّ الحياة جعلت الكثير من الأشياء تقع تحت تصنيفات ومسمّيات عديدة. في تلك الورشة، تذكّرت ما قاله الشاعر ريلكه لشاعر شابّ: لا تكتب الشعر إلّا عندما تشعر بأنّك ستموت إن لم تفعل. ما يعني أنّه يومئ إليه أنّ الكتابة ضرورة، بالطبع هي كذلك، ليست واجبًا لكنّها ضرورة مثل الهواء والماء، كيف سيشعر الأطفال كذلك؟ اكتشفت أنّ ذلك كان سؤالهم، صحيح أنّهم يحبّون الكتابة، لكنّهم حين كانوا يبحثون عن الكلمات هنا وهناك، أو يفكّرون طويلًا أثناء كتابة جملة ما، كأنّهم يسألون سؤالي بطريقة أخرى: لماذا نكتب؟

تذكّرت ما قاله الشاعر ريلكه لشاعر شابّ: لا تكتب الشعر إلّا عندما تشعر بأنّك ستموت إن لم تفعل. ما يعني أنّه يومئ إليه أنّ الكتابة ضرورة...

لم يكن ذلك السؤال غريبًا، لكنّه كان يفتح أمامي طرقًا للتعامل معهم ومع نفسي، كنت مثل من يحاول أن يبحث معهم عن تلك الكلمات، ومشاهدتها وهي تسقط على الورقة من مكان آخر. آنذاك، قرّرنا معًا أن نشاهد الكلمات وهي تمشي معنا ونسير معها، فنراها على الطرقات وفي التلفاز، ألّا نجدها فقط في الكتب والقواميس. في تلك الرحلة، بدت الكلمات مثل أحلام مكوَّمة داخلنا. لماذا تركنا تلك الكلمات بعيدًا ورحنا نبحث عنها؟ سألنا أنفسنا ذلك السؤال في لعبة ’الغمّيضة‘ ونحن نغمض أعيننا لكي تُفاجِئنا وتسقط وحدها. عندئذٍ، أدركنا أنّ اللعبة صعبة جدًّا لكنّها جميلة أيضًا، وربّما على كلّ واحد منّا أن يبتكر لعبته الخاصّة الّتي سيسمّيها ما يشاء، وستدلّه هي وحدها على ما يودّ أن يقوله، وعليه ربّما يخبرنا في نهاية المطاف ماذا تعني بالنسبة إليه، فهل تغيّر معناها؟

 

الخوف... الكائن في داخلنا

هكذا تقاطعت أسئلتنا معًا فحاولت ألّا أجيب، أن أترك تلك الأسئلة مكانها في القلب لتتحوّل إلى تجربة، ومن هنا وجدنا أنّ هناك في تلك الأزقّة القصيّة، كائنًا اسمه الخوف.

ربّما لم يكونوا جميعًا خائفين، لكنّ بعضهم دخلوا ذلك النفق المريب الّذي سمّيته الحيرة. كنت أريد ذلك؛ فذلك من صلب التجربة، هذا الكائن الغريب هو الّذي ربّى تلك المشاعر الغريبة الّتي يحاولون وصفها. بعضهم أيضًا وقف أمام ورقته البيضاء، وهو يخاف أن يكتب أشياء لا تعجبنا أو لا تعجبني أو لا تعجب أحدًا، وآخر كان خائفًا ألّا يكتب شيئًا، وآخر كان يخاف أن يذهب في هذه التجربة فنعرف فيمَ يفكّر وكيف يحلم. وربّما خاف آخرون أن يكتبوا ما يشعرون به لمجرّد الإحساس بأنّ ذلك حقيقيّ.

أجلسنا ذلك الكائن معنا في الورشة، شعرنا بأنّه هو أيضًا يتدرّب على أن يقول لماذا يفعل ذلك. تأتي إلى ذهني عبارة للشاعر الفرنسيّ آلان بوسكيه: "أنا خائف على الدوام، لكنّي أقلّ خوفًا حين أكتب: ’أنا خائف‘". نحاول أن نروّض ذلك الكائن بإقناعه أنّنا نلعب، وأنّ الآخرين مثلنا تمامًا خائفون، وأنّنا - ولأوّل مرّة - نصعد جبلًا دون أن نعرف ما وراءه، لكنّ الرحلة جديرة بالمتابعة. ألم نفعل ذلك في زقاق بعيد في المخيّم حين كنّا نخاف العتمة؟ ومن قال إنّ ذلك المكان لا يشبه أزقّة الكتابة؟ قال لي طفل في الورشة إنّ في نهاية الزقاق والعتمة سيكون هناك يد تمسك به، وقال آخر إنّ هذه اليد ستكون هي الشمس. أو ربّما قلت لهم: سنمسك جميعًا يد الشمس إلى آخر الزقاق.

 

المخيّم وفلسطين

ستكون تلك الشمس فلسطين، قالت فتاة، فعلى الطرف الآخر تطلّ أحلامنا دائمًا. من هذا المكان الّذي لم يغب عن الكتابة، سأل أحد الأطفال: عمّ نكتب؟ أعن فلسطين أم عن المخيّم؟ كان المكان حاضرًا في أسئلة الكتابة وليس غائبًا عنها. حاولت معهم أن ندخل المكان أيضًا من جهات أخرى، ونرى مواضيع أخرى تلوح فيه، بقربه، أو بعيدًا عنه. ربّما ونحن نلمس أشياءنا الخاصّة أو نعود إلى بيوتنا الصغيرة.

كان المكان حاضرًا في أسئلة الكتابة وليس غائبًا عنها. حاولت معهم أن ندخل المكان أيضًا من جهات أخرى، ونرى مواضيع أخرى تلوح فيه، بقربه، أو بعيدًا عنه...

قالت لي فتاة إنّ "المخيّم مبتسم دائمًا لكن لا أحد يرى ذلك"، بعد أن قرأت لهم ما قال محمود درويش: "عندما يبتسم المخيّم، تعبس المدن الكبرى". هكذا حاولنا الابتعاد عن الموضوع كلّما اقتربنا منه. كان هاجس الأطفال وقتذاك ألّا يقتربوا من الأشياء الّتي قلناها كثيرًا، وأن يكتبوا شيئًا عزيزًا جدًّا وخاصًّا جدًّا من وحي هذا المكان. وهنا اكتشفنا أنّنا بحاجة إلى اكتشاف هذين المكانين مرّة أخرى، وبصمت.

 

الشعر الغائب

 يغيب الشعر من كتبهم المدرسيّة، ويحضر في ألعابهم اليوميّة، في وقوفهم شاردين أمام دروس صعبة. ربّما سنبحث عنه، هكذا قرّرنا، وربّما نجده في أماكن أخرى. لماذا كان علينا دائمًا أن نقرأه بصمت؟ هل لأنّنا نتذكّره كشيء حميم وهادئ؟ ربّما علينا أن نصادفه في رحلتنا في البحث عن شيء آخر.

 يذكّرني ذلك ما قاله الشاعر الأرجنتينيّ روبيرتو خواروث: "دائمًا ما يؤدّي البحث عن شيء ما، إلى العثور على شيء آخر".

ربّما تلك مهمّة صعبة، ولا نستطيع أن نجد كلّ شيء في ورشة واحدة، لكنّ الأسئلة كانت جديرة بأن تُسْأَل مرّة واحدة، وهنا وقفنا أمام أنفسنا جاهزين لأن نبدأ في رحلة مجهولة، لا ندري فيها إلى أين نذهب.

لكن لماذا أكتب تلك اللحظات؟ ببساطة لأنّي شعرت بأنّي أقترب معهم من طفولتي المخبأة في الكتابة، وفيها ما لامس روحي وجعلني أتشوّق إلى تجارب من هذا النوع، لكن كلّ مرّة أبدأ ليس كالمرّة الأولى، وهنا أتذكّر هذه اللحظة الجميلة: حكيت للأطفال قصّة «الطفلة الزجاجيّة» للرسّامة بياتريس أليمانجا، تلك الطفلة وُلِدت شفّافة، وبقيت طوال حياتها هكذا، عالمها الداخليّ واضح للعالم الخارجيّ، وعانت طوال حياتها خوفًا من أن تكسر، لم تعرف تلك الطفلة كيف تكسر هشاشتها، لكنّها علمت في ما بعد أنّ الناس يخافون صدقها، وأنّ عليها أن تحتوي نفسها، وسألتهم: هل تحبّون أن ترسموا ما بداخلها؟ كان جواب أحد الأطفال: "ربّما تحزن إن فعلنا ذلك".

لا نستطيع أن نجد كلّ شيء في ورشة واحدة، لكنّ الأسئلة كانت جديرة بأن تُسْأَل مرّة واحدة، وهنا وقفنا أمام أنفسنا جاهزين لأن نبدأ في رحلة مجهولة...

ربّما انتهت الورشة وبدأت واحدة أخرى، في مكان آخر، مع أطفال آخرين. قرّرت مع الأطفال أن نحمل ورقة ونخرج لنتحاور مع الأشجار، فربّما سيقولون لنا أشياء أخرى لا نعرفها. قالت لمى إنّ "شجرتها لا تودّ إخبارها بشيء إلّا حين تكون وحدها". هكذا قرّرنا أيضًا أن نسمّي الورشة ’تجربة‘ والكتابة ’محاولة‘، واللعبة الّتي لعبناها ’رحلة‘، وكلّ الأحلام الّتي رأيناها تطلّ من حولنا ’ذاتنا الجديدة‘؛ لنكتشف أيضًا أنّ لكلٍّ منّا ورقته الخاصّة، واسمه الخاصّ، وتوقيعه، ولوحته، وحلمه، وتجربته، وهذيانه الشخصيّ، وطريقه إلى ما يحلم.

 


 

تغريد عبد العال

 

 

 

كاتبة فلسطينيّة مقيمة في لبنان، صدر لها ثلاثة مجموعات شعريّة، تكتب في الصحافة الثقافيّة. فاز ديوانها «العشب بين طريقين»، بجائزة عبد المحسن القطّان 2019.