زئبق العربيّة... تأمّلات في سلامة الكلام

الخطّاط محمّد أوزجاي | موقع مشق الروح

 

آذان كأنّها مِنْ زجاج

لماذا يبدو الإجرام النحويّ حتميّة في السياسة العربيّة وخطاباتها؟ لماذا تغيب الظاهرة عن بلاد أخرى ولا يبدو لها مقابل بمثل كثافتها، لا أوروبّيّ ولا لاتينيّ ولا من الشرق الآسيويّ البعيد؟ ولماذا تبدو فيزياء الكمّ وعلوم الفضاء أيسر على نخبتنا من ضبط أواخر الكلمات؟

واحدة من ألغاز الدنيا هي تلك الورقة الّتي يقرأ منها ضيوف القمم العربيّة، رؤساء وملوكًا وأمراء. نادرًا ما ترى من تلك الورقة إلّا ظهرها، ولعلّ ذلك تحديدًا ما يزيد فضولك وأنت تنصت: أتكون مشكولة خطأ من الأساس، أم أنّ حركاتها كُتِبَت على أتمّ وجه، والمشكلة ليست بالمستشار الّذي شكّلها بل بالأمّيّ الّذي يقرؤها؟ أم أنّها – ربّما - تأتي أصلًا بلا حركات، تاركة لجلالته (أو سموّه وسيادته) أن يجود فيها من مزراب عفوه النحويّ؟

يُنْسَب إلى عبد الملك بن مروان أنّه قال في أخطاء الإعراب: "أبشع من الجدريّ في الوجه". ويُرْوى عن أبي الأسود أنّه ساوى بين طعن السكّين وسماع الكلام المكسور: "إنّي أجد للّحن غمزًا كغمز اللحم". ورغم العنف الّذي في هذه المجازات، فهي تقول شيئًا مرهفًا عن قائليها؛ عن ناس آذانهم كأنّها مِنْ زجاج، لا يلزم لكسرها عنف كثير، ويكفيها حرف مهموس بغير حركته حتّى ينكسر بلّور صاحبها، وينزف على خدّيه.

 

الأخضر المرفوع في «الأمم المتّحدة»

في لحظة مسرحيّة على منبر «الأمم المتّحدة»، أطلق ياسر عرفات عبارته الأمميّة الشهيرة: "لا تُسْقِطوا الغصنَ الأخضرُ من يدي"... هكذا، بالأخضر المرفوع. وحتّى ينفي أيّ شكّ، كرّر العبارة ثلاث مرّات كما كان يحبّ أن يفعل كثيرًا، رحمه الله.

 لماذا تفشل النخبة العربيّة في إجادة العربيّة؟ بل لماذا يفشل رأس الهرم القياديّ – ولو وحده - في إتقان هذه اللغة؟

ضمن المألوف النحويّ، بدا الأمر غمزًا مريعًا للحم الناطقين بالعربيّة... لولا مخرج واحد؛ إذ ربّما أنّ عرفات قصد للأخضر أن يكون نعتًا مقطوعًا، وخبرًا لمبتدأ محذوف وجوبًا، لغايات بلاغيّة تزيد الخضرة تأكيدًا. أشكّ طبعًا في أنّ ’الختيار‘ سمع في حياته عن النعت المقطوع أو المبتدأ المحذوف، ولست متأكّدًا إن كان يعرف علاقة النعت بالمنعوت أصلًا. لكنّ الأمر لا يخصّ نيّة المتكلّم ولا قصده، وإنّما يتعلّق بشيء مدهش في اللغة وموسيقاها: كم يبدو اللفظ نشازًا مؤلمًا لمَنْ لا يعرف النعت المقطوع! وكم يسرع هذا النشاز للزوال عندما تُسْتَحْضَر فكرة المبتدأ المحذوف، وتتذوّق اللعبة البلاغيّة في العبارة حتّى لو لم يقصدها صاحبها! لكن، وبعيدًا عن هذا المثال، فكثير من شطحات الراحل النحويّة لم يكن لها مخرج مهما حاولتَ وتحايلت.

لم ينـشأ عرفات في قصر رئاسيّ، ولم ينل تعليمًا استثنائيًّا في طفولته. لعلّ في هذا شفاعة لمَنْ يلتمس الشفاعة، لكنّ الأمر بالكاد يتحسّن مع جيل الزعامات الجديد؛ الجيل الّذي توفّرت له مقدّرات تعليميّة خارقة، وجُهِّز باكرًا لقيادة البلاد وركوب أكتاف العباد.

إنّ السؤال الأوّل بهذا المقال ليس سؤال استنكار ولا تهكّم. إنّ السؤال استفهاميّ بحقّ: لماذا تفشل النخبة العربيّة في إجادة العربيّة؟ بل لماذا يفشل رأس الهرم القياديّ – ولو وحده - في إتقان هذه اللغة؟ هذا الهرم الّذي يُنْفِق أرقامًا فلكيّة كي يلمّع نفسه كلّ يوم، ويَجْهَد لضبط صورته أينما ظهرت. لماذا لا يَجْهَد ليضبط صوته أيضًا، فلا يستحيل أضحوكة كلّما فتح فمه ليقول شيئًا؟ هذا إن تجاهلنا محتوى ما يقوله طبعًا. وربّما حان الوقت لدراسة عن ارتباط محتمل بين الكفاءة النحويّة للنخب الحاكمة (والشخصيّات المعارضة)، وطبيعة أدائها السياسيّ. لا أزعم أنّ ارتباطًا كهذا قائم بالضرورة، لكنّ استكشاف الأمر إحصائيًّا يبدو مغريًا.

 

الرخصة والتشديد

يطرح المقدسيّ في كتابه الجغرافيّ الأثير «أحسن التقاسيم»، رأيًا لافتًا في إجادة العربيّة؛ فيقول إنّ أفضل مَنْ يمسك بهذه اللغة هم أولئك الّذين لم ينشؤوا عليها، بل تعلّموها لغة ثانية: "ألا ترى إلى بلاغتنا في إقليم المشرق (آسيا الوسطى) لأنّهم أصحّ الناس عربيّة؛ لأنّهم تكلّفوها تكلّفًا وتعلّموها تلقّفًا، ثمّ إلى ركاكة كلامنا في مصر والمغرب وقبحه في ناحية البطائح؛ لأنّه لسان القوم".

يطرح المقدسيّ في كتابه الجغرافيّ الأثير «أحسن التقاسيم»، رأيًا لافتًا في إجادة العربيّة؛ فيقول إنّ أفضل مَنْ يمسك بهذه اللغة هم أولئك الّذين لم ينشؤوا عليها، بل تعلّموها لغة ثانية...

كثيرون اليوم لن يعجبهم رأي المقدسيّ هذا؛ فهو يرمي عصًا حديديّة في دولاب الرأي الشائع، ويرى في الاستخدام المعاشيّ للغة مفسدة لها. مَنْ يأتي العربيّة غريبًا عنها يبدؤها من صفحة بيضاء، ولا يلقاها إلّا أدبًا وشعرًا ومصحفًا. وأمّا مَنْ أتاها من داخلها، وكانت العربيّة لغته الأولى، فهو يرزح تحت وطأة اللهجة الدارجة، ويعاني رذيلتَيها: إعطاء ناطقيها إحساسًا زائفًا بمعرفة اللغة، ثمّ التشويش عليهم كلّما حاولوا أن ينطقوا فصاحة.

قبل المقدسيّ بكثير، قال عمر بن الخطّاب عبارة ثريّة المعنى عن العربيّة: "أنحى الناس مَنْ لم يُلَحِّن أحدًا". ومن بلاغة العبارة أنّها تفيض عن مجالها، وتصلح حكمة في سائر العلوم. تُؤْثَر – مثلًا - عن سفيان الثوريّ عبارة هي المكافئ الفقهيّ لعبارة الفاروق اللغويّة: "إنّما العلم عندنا الرخصة (أي الإباحة)، وأمّا التشديد فَيُحْسِنُه كلّ أحد". حتّى في العلوم الطبيعيّة، لا يزيدك التعمّق في ظواهر الطبيعة إلّا حذرًا قبل أن تجترئ على تخطئة أحد. ورغم هذا؛ فمقولة عمر ليست مقصودة حتمًا بحرفيّتها، والخطأ النحويّ سيبقى حقيقة مؤكّدة، وبعض التراكيب ينخرها الغلط، ولا خلاص لها مهما تمرّس المرء في اللغة.

 

السمة المائيّة

يجدر التساؤل إن كان للعربيّة خصوصيّة تجعلها فريسة - أكثر من سواها - لهذا الجدريّ المعاصر؛ هل نقسو على أنفسنا عندما نقارن مأساتنا النحويّة بعافية غيرنا في لغاتهم، ونحمّل أنفسنا المسؤوليّة؟ إنّ الزخم الإعرابيّ لهذه اللغة ليس عاديًّا بالتأكيد، ويفوق أكثر اللغات الأخرى؛ ذاك الزئبق القلِق الّذي يغمر آخر الكلمات، ويجعل صوتها متبدّلًا ومنفعلًا، وشاهدًا موسيقيًّا على دور الكلمة في فضاء جملة.

ببركة هذا الزئبق، تكسب العربيّة سمة مائيّة، ويغدو بوسعك طيّ جملتها على وجوه كثيرة، واللعب بأركانها تقديمًا وتأخيرًا، فحيثما رميت المفردات، حملت معها هويّتها في نغمة حرفها الأخير. "جاءني زيدٌ ضاربًا أبوه عَمرًا". كيف يمكن لجملة كهذه أن يقوم لها معنًى لولا بركة الإعراب؟ وكيف يمكن محقّقًا جنائيًّا أن يدرك مَنْ ضرب مَنْ دون أن يرفع بصمة الصوت عن أواخر الكلمات؟ وبكثرة التمرين والمراس، لا يعود هذا الصوت نَبْت زينة تعلّقه بآخر الحروف، بل عشبة برّيّة تنمو هناك وحدها - دون أن تزرعها - عبر معجزة غريبة ندعوها السليقة.

ببركة هذا الزئبق، تكسب العربيّة سمة مائيّة، ويغدو بوسعك طيّ جملتها على وجوه كثيرة، واللعب بأركانها تقديمًا وتأخيرًا...

كم هو مُوحٍ أن نجد تيّارًا في تراثنا يعادي رسم الحركات في النصوص المكتوبة، وكأنّه عدوان على السليقة وبرّيّة اللغة. يوصينا إبراهيم بن المدبّر بهذا المعنى في «الرسالة العذراء»، قائلًا: "وإيّاك والنَّقْط والشّكل في كتابك، فلَأَنْ يُشْكِل عليّ الحرف أحبّ إليّ مِنْ أن يُعاب بالنقط والإعجام". ماذا كان ليقول - رحمه الله - لو عاد ورآني أقتبس وصيّته وقد ملأتُها نقاطًا وحركات. نسأل الله المغفرة.

 

لغة تعشق الموسيقى

كيف انعقدت هاتان السمتان معًا في العربيّة؛ تعقيد الإعراب، وطواعية الجملة؟ قد لا تكون السمتان منفصلتين تمامًا؛ فالثانية وليدة الأولى. ليس الأمر حكرًا على اللغة بطبيعة الحال. مَنْ يشرّح كفًّا بشريّة فسيجد فيها 27 مفصلًا عظميًّا وبحرًا من الأعصاب. ماذا يبقى مِنْ عبقريّة اليد ورشاقتها دون هذا التعقيد المفصليّ؟ ومرّة أخرى أتساءل؛ كيف انعقدت هاتان السمتان في العربيّة؟

يجازف المرء كثيرًا إن حاول الإجابة، لكنّ الشعر يبدو – على وجه الخصوص - لاعبًا محتملًا. هل كان نهم الشعراء للغة غنائيّة محرّكًا في تطوّر العربيّة، تطوّرًا يسمح بطيّ المعاني على قدّ التفعيلة والبحور، ويوسّع فضاء القصيدة الممكن؟ أيجوز أن يكون هذا ما نحت ملامح العربيّة، وأنبت بكفّيها كلّ تلك المفاصل؟

في الشعر حصرًا دون سواه، يُؤْذَن للشاعر بالضرورة الشعريّة؛ أن يكسر القانون ويرتكب الحرام، إذا ما سُدَّت دروب النحو في وجهه، تمامًا كمَنْ يُؤْذَن له بمعاقرة الخمر لو أشرف على الهلاك ولم يجد غيرها. بمنظار المجاز، الشعر مسألة حياة أو موت في العربيّة، وقدسيّة النغم تغلب قدسيّة النحو. هذه لغة تعشق الموسيقى، ولربّما أنّ كثيرًا من طبيعتها أتى من هناك.

 

آلات روحانيّة

لكن سواء تعلّق الأمر بالشعر أو النثر، فاللغة تبقى ظاهرة غريبة. كلّما تأمّلتُ جملة (بأيّ لغة كانت) انتهيت غالبًا لنفس الخاطرة: أنّ هناك معجزة حسابيّة فيها؛ أنّ قيمتها (بوصفها جملة) تفوق الجمع الجبريّ لقيمة كلماتها، وكأنّها مائدة مقدّسة تطعم الناس بأكثر ممّا عليها. ولهذا السبب فثمّة شيء من الساعات في عالم الجُمَل؛ تلك التروس الّتي تظلّ صفائح من حديد إلى أن تنتشب ببعضها فتدور، ويسري فيها شيء كأنّه من جنس الحياة.

كان أسلافنا يسمّون الساعات ’آلات روحانيّة‘. ودافِع التسمية - بتعبير نصّ قديم – هو "لارتياح النفس وارتياضها بغرائب هذه الآلات". ولا أجد وصفًا أوفى للغة من هذا؛ أنّها آلة روحانيّة...

كان أسلافنا يسمّون الساعات ’آلات روحانيّة‘. ودافِع التسمية - بتعبير نصّ قديم – هو "لارتياح النفس وارتياضها بغرائب هذه الآلات". ولا أجد وصفًا أوفى للغة من هذا؛ أنّها آلة روحانيّة؛ المعجم فيها يمنحك التروس، وكتاب القواعد يعلّمك التركيب. لا أذكر هذا المجاز تسلية للخيال، بل لأنّه جسري الوحيد لعالم الإعراب. في تلك الأصوات الآتية من خواتيم المفردات، من تلك الزفرة الأخيرة للفظة العربيّة، هناك تحديدًا تنشدّ الأجزاء على بعض، وتدور آلة الجملة. ولعلّنا نتجرّأ فنقول إنّ ما يعطي العربيّة كثيرًا من خصوصيّتها هو تعشّق تروسها ببعض، بحيث لا يسلّم ترس لترس في تتابع خطّيّ فحسب، بل عبر هندسة أكثر تداخلًا وجمالًا... وأكثر عرضة - في الوقت ذاته - للأعطال. هذه آلة جملتنا، بتداخلها وصعوبتها، لكن بإرهافها الدقيق أيضًا.

سؤال طفوليّ أخير نطوي كلامنا عنده: أسهلة العربيّة أم صعبة؟ لا أدري إن كنت حقًّا أريدها سهلة أصلًا. هذه آلة غريبة في دورانها. تنصت لها فتظنّ ما تسمعه أجيجًا من عالم الماء، لا صرير آلة من معدن. ثمّ ترفع غطاءها فترى ألف ترس متعانقًا، ومحاور دوّارة تزاحم بعضها بعضًا دون تماس، وكرات من نحاس وأخرى من رصاص، وسلاسل وبكرات، وتعجب للحديد الّذي يحكّ بالحديد كيف يحكي صوتًا كأنّه المطر!

 


 

عوني بلال

 

 

كاتب مهتمّ بتاريخ العلوم وفلسفتها، العربيّة منها على وجه الخصوص. مختصّ بالكهروديناميكا التطبيقيّة من جامعة بيرمنغهام بالمملكة المتحدة، وله كتابات عدّة في مجموعة صحف ومواقع عربيّة حول مسائل ثقافيّة  مختلفة.