«المكتبة الإسلاميّة» في مدريد... عَيْش في التاريخ

من مخطوطات «المكتبة الإسلاميّة» في مدريد

 

إنّ فعل وصول الطلبة المتخصّصين في الدراسات العربيّة أو الإسلاميّة، إلى إحدى الجامعات الإسبانيّة، محفّز للتعرّف إلى المصادر التعريفيّة الّتي تساعدهم في كتابة أبحاثهم وأطروحاتهم الجامعيّة، والتعرّف عن قرب إلى الفضاءات الثقافيّة الّتي تقرّبهم إلى عالم تلك الدراسات. وتُعْتبَر «المكتبة الإسلاميّة» في مدريد من هذه الفضاءات المركزيّة، الّتي أسهمت في تحقيق فعل التقريب ذاك؛ فهي مساحة علميّة تضمّ عددًا مهمًّا من الكتب والمجلّات المتخصّصة في العلوم العربيّة والإسلاميّة كافّة، وباللغات المحوريّة الثلاث: العربيّة، والإسبانيّة، والإنجليزيّة، إضافة إلى القليل من المؤلّفات بالفرنسيّة والألمانيّة، فضلًا على زوايا تضمّ ’نوادر الكتب‘ والمخطوطات، الّتي تحاكي التاريخ الّذي عاشه العرب والمسلمون في شبه الجزيرة الإيبيريّة.

 

تاريخ الأندلس

تتبع «المكتبة الإسلاميّة» لـ «الوكالة الإسبانيّة للتعاون الدوليّ والتنمية»، المعروفة بـ (AECID)، وتديرها الأستاذة لويسا مورا Luisa Mora، الّتي ساهمت في تطوير المكتبة، ومواكبة كلّ ما هو جديد لضمّه إلى رفوفها. تقع المكتبة في وسط العاصمة الإسبانيّة مدريد، بالقرب من منطقة مونكلوا، والمدينة الجامعيّة التابعة لـ «جامعة كومبلوتنسي»، وهذا يساعد في تسهيل الوصول إليها، ومباشرة العمل، بالبحث والتنقيب عن الجماليّات الموجودة فيها.

لذلك؛ فإنّ هذا ’الحيّز الثقافيّ‘ أصبح مكانًا تاريخيًّا، في الوقت الّذي، كما يقول مارك أوجيه، "تتضافر فيه الهويّة والعلاقة"، متحوّلًا بذلك إلى ’مكان أنثربولوجيّ‘، يشعر الباحث فيه بأنّه "يعيش في التاريخ ولا يصنعه"[1]. وهو الشعور الملازم، فعليًّا، لمَنْ يطّلع على الجمال النصّيّ الّذي تتضمّنه المكتبة، وقراءة الكتب المتخصّصة، ورؤية المخطوطات النادرة، والكتب المترجمة، والروايات والدواوين الشعريّة المناسبة، وتخصّص المكتبة ورؤيتها. حتّى أنّ الباحث في مجال التاريخ الأندلسيّ وآدابه، أو متعلّقات التاريخ الأندلسيّ والإسلاميّ، على سبيل المثال، يجد كلّ ما يتعلّق بتخصّصه، مع إضافات معرفيّة أخرى. فإذا كانت الكتابة عن حقبة تاريخيّة ما في ذلك الزمن، فلا تحتوي المكتبة الكتب التاريخيّة والثقافيّة المتعلّقة بها فحسب، بل أيضًا نصوصًا روائيّة حاكت تلك الحقبة أيضًا، وقصائد شعريّة ’مثّلتها‘؛ فامتازت «المكتبة الإسلاميّة» بشموليّتها، وحرصها على تحقيق رؤيتها، ومواكبة كلّ ما هو جديد متعلّق باهتماماتها؛ لينتج ذلك حيّزًا معرفيًّا محوريًّا، يساعد الباحثين، ويحفّزهم لتعرّف كلّ ما يتعلّق بمجال دراساتهم المتنوّعة.

 

لويسا مورا، مديرة «المكتبة الإسلاميّة»

 

يُعْتبَر وجود «المكتبة الإسلاميّة» مكوّنًا رئيسيًّا من مكوّنات الحفاظ على الإرث التاريخيّ الأندلسيّ، وما ارتبط به من دراسات تاريخيّة وثقافيّة وأدبيّة وفنّيّة مختلفة، وهذا ما جعلها مكانًا دلاليًّا بالنسبة إلى الباحثين المتخصّصين في الموضوعات الّتي تدرس تلك الحقبة الزمنيّة، على سبيل المثال. ويشير تحوّل المكان إلى مَعلم دلاليّ إلى فاعليّة ذلك المكان، وأهمّيّة ما ينتجه من معارف على الدارسين، ليس الإسبان فحسب، بل من العالم كلّه؛ فهذه المكتبة، كما تصف لويسا مورا، تخلق روابط بين الباحثين، بخيط واحد هو العلوم العربيّة والإسلاميّة.

 

من «الآداب» إلى «العقد الفريد»

تضمّ المكتبة نحو مئة ألف وثيقة، تشكّل الوثائق المكتوبة باللغة العربيّة ما نسبته 30% منها. تتنوّع هذه الوثائق في موضوعاتها؛ فهناك الموضوعات الأدبيّة، والفكريّة، والدينيّة، والسياسيّة، والجغرافيّة، والتاريخيّة، والاقتصاديّة. بالإضافة إلى كتب التراث والمعاجم والدوريّات الّتي يبلغ عددها نحو إثنا عشرة ألف مجلّة. تعتمد المكتبة في جزء كبير من مقتنياتها على التبرّعات الفرديّة والمؤسّساتيّة، ويُخَصَّص لها مشتريات من الخزينة المُخَصَّصة للمكتبات التابعة لـ «لوكالة الدوليّة للتعاون الإسبانيّ».

تتنوّع المصادر المعرفيّة الّتي تحتوي عليها المكتبة؛ فهي تتضمّن موضوعات شموليّة تتوافق والثقافة العربيّة بمختلف عصورها؛ فنجد في المكتبة كتب التاريخ والتراث العربيّ القديم، والدراسات النقديّة القديمة والحديثة والمعاصرة، والدراسات الفكريّة المتنوّعة، وكتب العلوم السياسيّة والفلسفة والدين. غير أنّ أكثر العناوين حضورًا على رفوفها، هي الكتب المتخصّصة في الدراسات الأندلسيّة المكتوبة بالعديد من لغات العالم، ولا سيّما الإسبانيّة، والعربيّة، والإنجليزيّة، والفرنسيّة. وحظيت هذه العناوين باهتمام الباحثين المتخصّصين في هذه الحقبة الزمنيّة، الّذين يدرسون في مختلف الجامعات الإسبانيّة وغير الإسبانيّة أيضًا.

 

من المخطوطات القديمة الّتي تحتويها «المكتبة الإسلاميّة»

 

أمّا المجلّات، فتحتفظ المكتبة بعدد كبير من المجلّات العربيّة القديمة، مثلًا: «مجلّة الهلال»، و«مجلّة المشرق»، و«مجلّة الآداب»، بالإضافة إلى عدد من المجلّات العربيّة الحديثة، مثلًا: «مجلّة نزوى» العمانيّة، و«مجلّة الدوحة»، كما تحتفظ بأعداد شبه كاملة من المجلّات الإسبانيّة المتخصّصة في الدراسات العربيّة والأندلسيّة، الصادرة عن بعض الجامعات داخل إسبانيا، مثلًا: «مجلّة القنطرة»، و«مجلّة الدراسات العربيّة» في «جامعة كومبلوتنسي»، و«مجلّة الدراسات العربيّة والعبريّة» الّتي تصدرها «كلّيّة الآداب» في «جامعة غرناطة»، و«مجلّة المعهد العربيّ» في مدريد، الّذي أسّسه طه حسين، و«مجلّة الأندلس»، وغيرها من المجلّات المحوريّة في هذه الموضوعات.

وتحتفظ المكتبة بعدد من الدواوين الشعريّة الأولى لعدد من الشعراء العرب المشهورين، منهم: بدر شاكر السيّاب (1926 - 1964)، وعبد الوهّاب البيّاتي (1926 - 1999)، ونازك الملائكة (1923 - 2007)، وصلاح عبد الصبور (1931 – 1981)، ومحمود درويش (1941 - 2008) وغيرهم. وحرصت المكتبة أيضًا على الاحتفال بيوم اللغة العربيّة، وبأيّام بعض الكتّاب المشهورين، ومُثِّلَت تلك الاحتفاليّات بعرض المؤلّفات الّتي تهمّ ذلك اليوم، وعرضها للقرّاء الإسبان والوافدين، وتعريفهم بأهمّيّتها، ومحتوياتها، وأثرها في الثقافة العربيّة.

واللافت في المكتبة احتواؤها على عدد من المؤلّفات النادرة الّتي تتحدّث عن الوجود العربيّ الإسلاميّ في شبه الجزيرة الإيبيريّة. ومن هذه المؤلّفات، على سبيل المثال، روايات كلاسيكيّة، مثّلت ذلك الوجود أدبيًّا، وكُتِبت هذه الروايات في فترات زمنيّة مختلفة، فوجدتُ بعضها كُتِب في نهايات القرن الثامن عشر، وبعضها في القرن التاسع عشر. وقد خُصِّصت زوايا منفردة للكتب المكتوبة باللغة العربيّة، تضمّ عددًا من أمّهات الكتب التراثيّة، منها «لسان العرب»، و«الأغاني»، و«العقد الفريد»، و«نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب»، وغيرها.

 

من الكتب الّتي تحتويها «المكتبة الإسلاميّة»

 

لهذا كلّه، استحقّت «المكتبة الإسلاميّة» في مدريد حصولها على «جائزة اليونسكو» – الشارقة، لعام 2015؛ تقديرًا للثروة المعرفيّة الّتي قدّمتها، وما زالت تقدّمها للباحثين المتخصّصين في المجالات المشار إليها سابقًا؛ فوجود هذا المكان الثقافيّ، والاهتمام به، وتطويره، وتحفيز المهتمّين للاستفادة من كلّ ما فيه، إشارة مهمّة إلى القيمة المعرفيّة الّتي تنتج باستمرار، حول تاريخ وجود العرب والمسلمين في شبه الجزيرة الإيبيريّة، وهذا يتوافق والندوات والمؤتمرات السنويّة الّتي تُعْقَد في مراكز ثقافيّة مختلفة في إسبانيا والبرتغال؛ لدراسة الجزئيّات المختلفة الّتي تتعلّق بذلك التاريخ، ومن منظورات منهجيّة مختلفة.

 


إحالات

[1]  أوجيه، مارك، اللاأمكنة "مدخل إلى أنثروبولوجيا الحداثة المفرطة"، ترجمة ميساء السيوفي (المنامة: هيئة البحرين للثقافة والآثار)، ص58.

 


 

حسني مليطات

 

 

 

أكاديميّ ومترجم فلسطينيّ، حاصل على الدكتوراه من «جامعة أوتونوما» في مدريد، متخصّص في الأدب المقارن والدراسات الثقافيّة والفنّيّة، يعمل أستاذًا مساعدًا في «الجامعة العربيّة الأمريكيّة» في فلسطين.