العصابات الصهيونيّة: من جيش الأمّة إلى عصابات المستوطنين (3/3)

إسحاق رابين وديفيد بن غوريون ويغال ألون مع قوّات «البالماخ» في النقب.

 

كيف أصبحت العصابات الصهيونيّة جيشًا إسرائيليًّا؟

قُبيل عام 1948، كان المستوطنون اليهود يميلون إلى الفعل العسكريّ بوصفه حلًّا للمشاكل السياسيّة، وفق مبدأ العمل العسكريّ العدوانيّ، المنظِّم للدبلوماسيّة اليهوديّة؛ لذا كانت العصابات الصهيونيّة المنفذ الوحيد لدفع السياسيّين نحو أهداف متطابقة. كانت نقطة الانطلاق في تمّوز (يوليو) 1946، عندما أمر بن غوريون ببناء 22 مستوطنة؛ لإفشال خطّة هربرت موريسون السياسيّة لفلسطين الفيدراليّة؛ وهي أن يعيش اليهود والعرب في شبه كانتونات؛ وعليه اختار بن غوريون الردّ العسكريّ لتطبيق سياسة احتلال الأرض «كيبوش هاداما»، وهو المصطلح العبريّ الّذي يعني «احتلال أرض».

على إثر هذا الأمر، جرى اتّحاد القوّات الثلاث؛ «الهاغاناه»، و«الإرغون» و«ليحي»، والتنسيق العسكريّ في ما بينهم رغم الخلافات الأيديولوجيّة، وتزامنت الأنشطة العسكريّة بينهم، ما خلق واقعًا جديدًا على الهياكل القياديّة للتنظيمات، إلّا أنّها لم تعانِ بسبب خبرات الجنود، وهياكلهم القياديّة السليمة، وقد شُكِّل الجيش المحترف في عام 1948. نفّذت القوّات المشتركة «العصابات الصهيونيّة»، قبل إعلان تشكيل الجيش، عمليّات عسكريّة ضدّ الانتداب البريطانيّ، وضدّ المجتمعات العربيّة. وأبرز هذه العمليّات قصف مقرّ القوّات البريطانيّة في «فندق الملك داوود» في تمّوز (يوليو) 1946، قُتِل على إثره 91 يهوديًّا وعربيًّا وبريطانيًّا. وذلك لإيمان الصهاينة بأنّ بريطانيا لم تعُد مفيدة للمشروع الصهيونيّ؛ فقد كانت عائقًا أمام الاستيلاء على البلاد، حيث كانت الصهيونيّة تجهّز نفسها بثقة عالية لبدء صراع حقيقيّ مع الفلسطينيّين.

ما ميّز الجيش الاستعماريّ الإسرائيليّ هو عدم الفصل بين النشاطين المدنيّ والعسكريّ، بل دمجتهما، وهي رؤية بن غوريون المتمثّلة بـ "أمّة تحت السلاح"...

ما ميّز الجيش الاستعماريّ الإسرائيليّ هو عدم الفصل بين النشاطين المدنيّ والعسكريّ، بل دمجتهما، وهي رؤية بن غوريون المتمثّلة بـ "أمّة تحت السلاح". وتحوّلت وظيفة الجيش الإسرائيليّ من جيش يقاتل إلى قوّة احتلال واستيطان؛ إذ استُخْدِمت القوّة العسكريّة لاستيطان فلسطين حتّى قبل عام 1948. ويمكن اختصار عقيدة الجيش الاستعماريّ الإسرائيليّ في: احتلّ، موّل، أدار، أمّن، استقرّ. ثمّ الاستيلاء على الأراضي الفلسطينيّة، والسيطرة على كلّ القطاعات القانونيّة، والاجتماعيّة، والعسكريّة، والثقافيّة، والدينيّة، والصناعيّة.

 

توحيد العصابات الصهيونيّة

قبل الدخول في عام 1948 بشهرين، تحديدًا في تشرين الأوّل (أكتوبر) 1947، طلب ديفيد بن غوريون من «اللجنة التنفيذيّة للوكالة اليهوديّة» خطّة من أجل تحويل منظّمة «الهاغاناه» والعصابات الصهيونيّة المشتركة معها، إلى قوّة عسكريّة نظاميّة. وشرعت «هيئة الأركان العامّة» في إعداد خطّة حربيّة، متضمّنة الهدف السياسيّ والعسكريّ للييشوف زمن الحرب، وبعد إتمام الجلاء البريطانيّ. وجرى هذا الأمر، على أن تكون القوّة العسكريّة النظاميّة خاضعة لـ «هيئة الأركان العامّة»، وألّا تكون موازية للهيئة. وكان الصهاينة مدركين أنّ الحرب ستتضمّن ثلاثة أنواع من القوّات العسكريّة العربيّة: قوّات محلّيّة صغيرة ’عصابات مقاتلة‘، وجيش محلّيّ نظاميّ مؤلّف من بضعة آلاف من الرجال، والجيوش العربيّة النظاميّة.

بدأ طابع التطوّر بمسمّى «قوّات إسرائيليّة» يظهر على العصابات الصهيونيّة المشتركة، من خلال أربع مراحل رئيسيّة في النكبة الفلسطينيّة، أو ما يُعْرَف إسرائيليًّا بـ «حرب التحرير». بدأت المرحلة الأولى في الثلاثين من تشرين الثاني (نوفمبر) عام 1947، وتميّزت هذه المرحلة بالتمسّك بسياسة بناء المستعمرات في المناطق النائية؛ لأغراض العمليّات "خلف خطوط العدوّ"، وتخفيف الضغط العربيّ على المراكز اليهوديّة في السهول. وكان يجب تخفيف حدّة الاشتباكات مع الإنجليز إلى حين إتمام الجلاء، وأيّة هجمات عسكريّة ضدّ العرب من الممكن أن تؤدّي إلى تدخّل بريطانيّ، لعدم إعاقة خطّة الجلاء. وكذلك المحافظة على الاتّصال الإقليميّ بين المناطق ذات الأغلبيّة اليهوديّة، للحفاظ على إمكانيّة خلق وضع عسكريّ؛ لمواجهة الغزو الرسميّ الّذي هدّدت به الدول العربيّة.

ساهمت المرحلة التمهيديّة في تطوّر القوّات المشتركة الإسرائيليّة، من خلال التركيز على التريّث أمام البريطانيّين إلى حين الإجلاء، والبناء والتوزيع لما بعد الجلاء. وقد دخلت «البالماخ» بأربع كتائب كاملة التعبئة في إطار واحد، وتوسّعت سريعًا في ما بعد إلى عشر كتائب مقسّمة إلى ثلاثة ألوية، وكانت هذه الألوية تتبع قيادة مركزيّة على مقربة من القيادة العليا لـ «الهاجاناه»؛ لتسهيل الاتّصال حول المهامّ الخاصّة داخل فلسطين. فُصِلت القوّتان البحريّة والجوّيّة، وأصبح لكلٍّ منهما قوّة مستقلّة لها قيادتها، تتبعان «هيئة الأركان العامّة للقوّات المشتركة». وأُنْشِئ حرس وطنيّ من الرجال المسنّين، والنساء، والشباب تحت سنّ 18، وسُمِّي «الحرس القوميّ للهاجاناه»، وظيفتهم حماية القرى والمدن اليهوديّة، والدفاع ’السلبيّ‘ عن الأحياء اليهوديّة داخل المدن المختلطة.

 

الحرب بوصفها بوتقة صهر 

انطلقت المرحلة الثانية مطلع الأيّام الأولى من آذار (مارس) عام 1948، حتّى الرابع عشر من أيّار (مايو) 1948، حين كانت المعركة مباشرة بين اليهود والعرب، في غياب للاستعمار الإنجليزيّ، لكن بحضور سياسيّ؛ فاحتلّت «الهاغاناه» آنذاك مناطق مهمّة جدًّا لإقامة اتّصالات إقليميّة داخل المناطق اليهوديّة، ومن أجل تدعيم ترتيباتها الدفاعيّة استعدادًا للجيوش العربيّة، فاحتلّت «الهاغاناه» الجليل الأعلى وبيسان، صفد وطبريّا، الجليل العربيّ بما فيه مدينة يافا، وقرًى محيطة بالقدس. إلّا أنّ هذا التحرّك الهمجيّ لـ «الهاغاناه»، ورغم احتلالهم مدنًا مهمّة في فلسطين، جعلهم يمرّون بنكسات أليمة؛ من قتلى في صفوف القوّات العصابيّة المشتركة، وتدميرٍ للقوافل اليهوديّة وعربات النقل وهي في طريقها إلى المستوطنات حول القدس.

جاءت المرحلة الثالثة لهذا التفوّق العسكريّ في التنسيق، من 15 أيّار (مايو) إلى 10 حزيران (يونيو) 1948، إذ بدأت الجيوش العربيّة هجماتها على كلّ الجبهات، حيث كان التفوّق العربيّ عدديًّا وأدواتيًّا، هو الغالب، والأكثر قدرة على الانتصار. لكنّ القوّات الاستعماريّة الإسرائيليّة تمكّنت من تحويل المعركة لصالحها بعد تفوّق عربيّ، عبر سياسة ’الدفاع الإيجابيّ‘؛ إذ اعتمدت هذه السياسة على الهجمات المضادّة، ولكن سرعان ما خسرت العصابات مناطق مهمّة في الحرب، مثل تحرير الجليل الأعلى، واللدّ، والرملة، وتدمير الحيّ اليهوديّ في القدس. لكنّ الاندفاع الهجوميّ للجيوش العربيّة سرعان ما فقد زخمه، وكان الإسرائيليّون ضعافًا في شنّ هجوم كبير بسبب ازدياد نشاطهم في الدفاع، واتّفقوا على وقف إطلاق النار لمدّة ستّة أشهر، تبدأ يوم 11 حزيران (يونيو).

خلال هذه الهدنة، جرى أوّل احتفالات عسكريّة إسرائيليّة، وأُعْلِنت «الهاجاناه» أوّل جيش رسميّ للدولة الاستعماريّة الجديدة، وأُطْلِق عليها اسم «زاحال»، وهي الأحرف الأوائل للكلمات العبريّة لعبارة «جيش الدفاع الإسرائيليّ». أدّت القوّات قسم الولاء للدولة، وأُدْخِل زيّ رسميّ موحَّد، وأُنْشِئت رتب للضبّاط وضبّاط الصفّ، وكانت الرتبة العليا والأبرز «ميجور جنرال»، وكان صاحب هذه الرتبة ’يعقوب دوري‘ رئيس «هيئة أركان الحرب»، وكان قبلها رئيس أركان حرب «الهاغاناه». وتوزّعت الرتب بين ضبّاط «البالماخ» برتبة «بريجادير جنرال»، الّتي حصل عليها ضبّاط السلاح الجوّيّ، والأسطول البحريّ، واللواء المدرّع، وعدد من ضبّاط «هيئة الأركان العامّة».

آنذاك، أمرت الحكومة الاستعماريّة الإسرائيليّة بقيّة المنظّمات السرّيّة الشبه المستقلّة بحلّ نفسها، واستوعب الجيش أعضاءها أفرادًا. ووصل تعداد الجيش البرّيّ الإسرائيليّ إلى سبعة ألوية نظاميّة، ثلاثة ألوية «بالماخ»، ولواء مدرَّع واحد، ومع الأسلحة التشيكوسلوفاكيّة والفرنسيّة، أصبحت القوّات الجوّيّة مستعدّة بوصول عدد من طائرات «ميسير شميت» التشيكيّة، وطائرات «ستيفاير» الإنجليزيّة، بالإضافة إلى عدد من طائرات «داكوتا». في نفس الوقت، حسّن الأسطول البحريّ من تجهيزه وتدريبه لحرب العصابات البحريّة، وأصبح لكلّ وحدة قيادتها المباشرة، تحت قيادة «هيئة أركان الحرب العامّة»، المسؤول أمام رئيس الوزراء ووزير الدفاع آنذاك ’ديفيد بن غوريون‘.

وصل تعداد الجيش البرّيّ الإسرائيليّ إلى سبعة ألوية نظاميّة، ثلاثة ألوية «بالماخ»، ولواء مدرَّع واحد، ومع الأسلحة التشيكوسلوفاكيّة والفرنسيّة، أصبحت القوّات الجوّيّة مستعدّة بوصول طائرات «ميسير شميت» التشيكيّة...

شهدت المرحلة الرابعة يوم 18 حزيران (يونيو) 1948، تحوّلًا جذريًّا في القوّات القتاليّة، والإدارة والتنظيم، والإمداد والتموين للجيش الإسرائيليّ. أخذت إسرائيل قرارًا باستكمال الحرب وشنّ الهجوم في نفس لحظة انتهاء وقت الهدنة رسميًّا، ونجحت عمليّة المباغتة، وحُرِّرت اللدّ والرملة، واستمرّ الهجوم الإسرائيليّ لليوم الثاني من انتهاء الهدنة، ولولا تدخّل «الأمم المتّحدة» لفرض هدنة ثانية يوم 19 تمّوز (يوليو) 1948، لانسحبت الجيوش العربيّة في وقت أبكر. في هذه الفترة، قُسِّمت فلسطين ’إسرائيليًّا‘ إلى أربع جبهات قتاليّة بأربع قيادات إقليميّة؛ الجبهة الشماليّة شملت الجليل كلّه لمواجهة القوّات اللبنانيّة والسوريّة والعراقيّة، والجبهة الشرقيّة لمواجهة الجيش الأردنيّ والعراقيّ، والجبهة الوسطى/ القدس لمواجهة الجيش الأردنيّ والعراقيّ والمصريّ، وأخيرًا الجبهة الجنوبيّة لمواجهة الجيش المصريّ والسعوديّ. وبعد انتهاء الهدنة في العاشر من تشرين الأوّل (أكتوبر) عام 1948، كان واضحًا تمكّن العصابات الصهيونيّة من الاستفادة من أكبر قدر ممكن من التعاون العسكريّ والأمنيّ في ما بينهم خلال الحرب.

 

كيف بنى الجيش الإسرائيليّ أُمّة وطهّر أُمّة؟

أوّلًا، في عام 1938، قال ديفيد بن غوريون: "هذه ليست سوى مرحلة في تحقيق الصهيونيّة، ويجب أن تُمهَّد الطريق لتوسُّعنا في جميع أنحاء البلاد، من خلال اتّفاق يهوديّ عربيّ، ومع ذلك يجب على الدولة فرض النظام والأمن، ولن تفعل ذلك عن طريق الوعظ والأخلاق، ولكن بالبنادق الآليّة الّتي سنحتاج إليها". أدّت مثل هذه القناعات الراسخة إلى حرب عام 1956 واحتلال سيناء، إضافة إلى حرب عام 1967 الّتي كانت نصرًا إسرائيليًا غير متوقّعًا للعرب واليهود، وتباعًا لهذا الأمر؛ عملت الحكومة الإسرائيليّة آنذاك على السيطرة على معظم المناطق المحيطة بحائط البراق، ومُنِح السكّان الفلسطينيّون بضع ساعات لمغادرة منازلهم، بنظام كولونياليّ يتحدّى «اتّفاقيّات جنيف»، وقرارات «الأمم المتّحدة»، وحقوق الإنسان في ما يخصّ طرد الفلسطينيّين. منذ ذلك الحين، أقامت إسرائيل شبكة ضخمة من المستوطنات غير القانونيّة، تغطّي الأراضي الفلسطينيّة بأكثر من 750 ألف مستوطن يهوديّ، وشبكة طرق تخترق الفلسطينيّين وتُبعدهم. كما سيطرت على جميع الموارد، وحرمت الفلسطينيّين من المياه والكهرباء، وسيطرت على إمدادات الغذاء والأدوية، إضافة إلى تشييد أكبر جدار فاصل في العصر الحديث، وهو جدار فصل الفلسطينيّين عن بعضهم بعضًا، وعزلهم عن أراضيهم.

هذه الخطّة طويلة المدى وُضِعت في عام 1963، وكشفها إيلان بابيه، إذ اعتُبرت المستوطنات امتدادًا للجيش الإسرائيليّ، وكان هناك ثلاثة أهداف للجيش من خلال المستوطنات، أوّلًا: تحويل مصادرة الأراضي إلى واقع ملموس، ثانيًا: كانت المستوطنات عبارة عن جهاز مدنيّ لمراقبة السكّان الفلسطينيّين وضبطهم، ثالثًا: شكّلت المستوطنات خطّ دفاع إسرائيل ضدّ الأعداء الخارجيّين، ونُشِرت لمساعدة الجيش على حراسة الحدود، وتأمين الطرق، وضمان الاتّصالات الداخليّة. ومن السذاجة تجاهل عمليّة تسليح المستوطنين من قِبَل الجيش الإسرائيليّ وقوّات حرس الحدود، وهي العمليّة الّتي يمكن تسميتها بـ ’تجييش المدنيّ‘ وبناء ’الأمّة العسكريّة‘.

من السذاجة تجاهل عمليّة تسليح المستوطنين من قِبَل الجيش الإسرائيليّ وقوّات حرس الحدود، العمليّة الّتي يمكن تسميتها بـ ’تجييش المدنيّ‘ وبناء ’الأمّة العسكريّة‘...

ثانيًا، استخدام العنف وقوّة السلاح أمر غير قابل للتفاوض في السياسة الإسرائيليّة، إذ تعلّم الحركة الصهيونيّة درسًا مهمًّا أثناء الاستعمار البريطانيّ، وهو أن تتمكّن من إنتاج السلاح وصناعة هويّتها الدولاتيّة أمام الجميع؛ لتفرض من خلال هذا الأمر سيطرتها أوّلًا على الفلسطينيّين، وثانيًا على الحدود لحماية نفسها، وثالثًا من الإقليم المعادي المجاور. مع وصول دفعات جديدة من المهاجرين في عام 1933، أوجد الصهاينة المدن، ووجد العمّال الّذين يعملون في الزراعة، أعمالًا في آلاف المصانع الجديدة الّتي بناها المستوطنون اليهود، وكانت طبيعة اتّفاقيّة «هافارا» الّتي وقّعتها المنظّمات الصهيونيّة مع السلطات النازيّة في برلين، تعني أنّ السبيل الوحيد لليهود الألمان لجلب معظم رؤوس أموالهم معهم، هو استيرادها كسلع صناعيّة ألمانيّة. لكنّ المفارقة أنّ إنتاج الأسلحة والذخائر كان العامل الحاسم في ضمان انتصار اليهود في حرب 1948، فضلًا على التفوّق في أنظمة القيادة والإمدادات الحديثة. لكنّ الشروع في سياسة إنتاج الأسلحة الحديثة لم يصل حتّى عام 1953، عندما أُعيد تصوّر الجيش الإسرائيليّ قوّةً عسكريّة هجوميّة سريعة الحركة. في تلك المرحلة، قرّر بن غوريون الاستثمار بكثافة في بناء صناعات إنتاج الأسلحة.

هذا يؤدّي بإسرائيل إلى تلبية بعض الاحتياجات الأساسيّة للمجتمع والاقتصاد الإسرائيليّ، من خلال التخصّص في السلاح والأمن، والعمل معًا لجعله قلب النظام الاجتماعيّ، الّذي لا يمكن استبداله بسهولة. فالمنطق التاريخيّ كان الخوف من البطالة، الّتي تسبّبت في هجرة اليهود إلى دول أخرى ذات اقتصادات أكبر، من خلال توظيف المهارات الّتي طُوِّرت في صناعات الأسلحة الناشئة. إذ يمكن لإسرائيل دعم قاعدة صناعيّة وتطويرها، توفّر العمالة الكاملة وتزوّد الجيش الاستعماريّ الإسرائيليّ، وتخفّض النفقات العامّة المخصّصة لإنتاج الأسلحة. إضافة إلى استخدام صناعة الأسلحة وتوريدها بوصفها أداةً للدبلوماسيّة الإسرائيليّة، والتأثير السياسيّ الموجَّه نحو حشد الدعم السياسيّ في «الأمم المتّحدة»، وعلى الساحة الدوليّة.

 

نحو السيطرة المطلقة

تختلف السيطرة على السكّان المدنيّين تحت الاستعمار عن خوض المعارك ضدّ الجيوش النظاميّة. ولذلك كان ثمّة حاجة إلى استثمارات ضخمة لبناء نظام جديد للسيطرة؛ فبُنِيت عشرات المستوطنات ومعسكرات الجيش على مدى عقود، في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وكذلك في سيناء، ومرتفعات الجولان الّتي ضُمَّت بشكل غير قانونيّ في عام 1981، دون أيّ ردّ فعل ملحوظ من المجتمع الدوليّ. وسرعان ما بنى الجيش نظامًا يجمع بين ميّزات كُيِّفت لخدمة رؤيتها في بناء أمّة وتطهير أخرى. أُنْشِئت شبكة واسعة من المخبرين والوكلاء والمحرّضين لجمع المعلومات. شُيِّدت سجون ضخمة جديدة لاستيعاب أكثر من 10000 سجين، وفي ذروة هذا الصراع، زاد عددهم على ضعف هذا العدد. احتُجِز - ولا يزال يُحْتجَز - العديد من السجناء الفلسطينيّين دون تهمة أو اتّباع الإجراءات القانونيّة الواجبة بصفتهم محتجَزين إداريّين، ويمكن تمديد احتجازهم إلى أجل غير مسمّى، دون حقّ الاستئناف أو حتّى معرفة التهم. بُنِيت شبكة متطوّرة من نقاط التفتيش المترابطة والمحوسبة، وحواجز الطرق، وآليّات المراقبة الإلكترونيّة، والأسوار، وغيرها من الوسائل للحدّ من حرّيّة السكّان، والتأكّد من تعقّب كلّ فلسطينيّ بشكل مستمرّ.

 


مراجع: 

[1] عزمي بشارة، من يهوديّة الدولة حتّى شارون، (دار الشروق، 2005).

[2] روجيه غارودي، إسرائيل بين اليهوديّة والصهيونيّة، ترجمة حسين حيدر، (بيروت: دار التضامن، 1990)، ط1.

[3] إيلان بابيه، التطهير العرقيّ في فلسطين، (مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة بالشراكة مع أوكسفورد، 2006).

[4] وليد الخالدي، بناء الدولة اليهوديّة (1897-1948) الأداة العسكريّة، مجلّة الدراسات الفلسطينيّة، بيروت- القدس، مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، العدد 39، 1999.

[5] مهنّد مصطفى، المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة "المعرفة، السياسة والاقتصاد"، (رام الله: مدار، المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة، 2014).

[6] مهنّد مصطفى، المستوطنون من الهامش إلى المركز، (رام الله: مدار، المركز الفلسطينيّ للدراسات الإسرائيليّة، 2013).

[7] مهنّد مصطفى، المؤسّسة الأكاديميّة الإسرائيليّة بين صراعها الداخليّ والصراع مع وزارة الماليّة، مجلّة قضايا إسرائيليّة، ع 37 - 38، 2010.

[8] يغال آلون، إنشاء وتكوين الجيش الإسرائيليّ، ترجمة عثمان سعيد، (بيروت: دار العودة، 1971).

[9] سلطة الإقصاء الشامل: تشريح الحكم الإسرائيليّ في الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، تحرير ساري حنفي وآخرون، (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربيّة، 2012).

[10] حامد ربيع، قراءة في فكر علماء الاستراتيجيّة "كيف تفكّر إسرائيل؟"، (المنصورة: دار الوفاء، 1999).

[11] الحسيني الحسيني معدى، مذكّرات حاييم وايزمان، (القاهرة: دار الخلود للنشر والتوزيع، 2015).

[12] عدنان أبو عامر وآخرون، "مناكفة في بيت العدوّ: الحركة الإسلاميّة في إسرائيل"، (الإمارات: مركز المسبار للدراسات والبحوث، 2012).

[13] عبد الرحمن عبد الغني، ألمانيا النازيّة وفلسطين 1933-1945، (بيروت: مؤسّسة الدراسات الفلسطينيّة، 1995).

[14] مذكّرات محمّد أمين الحسيني، إعداد عبد الكريم العمر، (دمشق: الأهالي للطباعة والنّشر، 1999).

[15] إسماعيل الشريف، تاريخ منظّمة (إتسل في إسرائيل- ليحي) الصهيونيّة في فلسطين (1940-1948)، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلاميّة، 2015.

[16] أنس أبو عرقوب، منظّمتا ’إتسل‘ و’ليحي‘: من النشأة إلى الاستيعاب في ’جيش الدفاع الإسرائيليّ‘، رسالة ماجستير، جامعة القدس، 2012.

[17] محمود المطور، السيكولوجيّة اليهوديّة وأثرها في سياسة الحركة الصهيونيّة من مؤتمر بازل وحتى إقامة دولة إسرائيل، رسالة ماجستير، جامعة الخليل، 2019.

[18] حسن أبو حلبيّة، تاريخ الأحزاب العمّاليّة الصهيونيّة في فلسطين (1905-1948)، رسالة ماجستير، الجامعة الإسلاميّة، 2011.

[19] Haim Bresheeth-Zabner, An Army Like No Other: How the Israel Defense Forces Made a Nation, (Verso Books, 2020).

[20] Avi Shlaim, “Britain and the Arab–Israeli War of 1948,” Journal of Palestine Studies, 16: 4, Summer 1987.

[21] Stewart Reiser, The Israeli Arms Industry: Foreign Policy, Arms Transfers, and Military Doctrine of a Small State, (New York: Holmes & Meier, 1989).

[22] Bishara Bahbah with Linda Butler, Israel, and Latin America: The Military Connection, (London: Macmillan/Institute for Palestine Studies, 1986).

[23] Robert Jackson, Israeli Air Force Story, (London: Tandem, 1970).

[24] Benjamin Beit-Hallahmi, The Israeli Connection: Whom Israel Arms and Why, (London: I B Tauris, 1987).

[25] Nur Masalha, Imperial Israel and the Palestinians: The Politics of Expansion, (London: Pluto Press, 2000), 7; Protocol of the Jewish Agency Executive meeting on June 7, 1938, in Jerusalem, confidential, Central Zionist Archive 28: 51.

[26] Neve Gordon, Israel’s Occupation, (Berkeley: University of California Press, 2008).

[27] Benny Morris, 1948, (New Haven, CT: Yale University Press, 2008).

[28] Anna Bikont, The Crime and the Silence, New York: Farrar, Straus and Giroux, 2015 (2004).

[29] Avi Shlaim, “Britain and the Arab–Israeli War of 1948,” Journal of Palestine Studies 16: 4, Summer 1987.

 


 

أحمد بسيوني

 

 

 

كاتب فلسطينيّ، درس ماجستير «العلوم السياسيّة والعلاقات الدوليّة» في «معهد الدوحة للدراسات العليا». ينشر مقالاته في عدد من المنابر الفلسطينيّة والعربيّة، شارك في إنتاج عدد من الأفلام الوثائقيّة مع «التلفزيون العربيّ».