لا بدّ من وجود فدائيّات

ميخائيل ويست | جاليري سارة للفنون الجميلة

 

"إنّي محكوم عليّ أن أكون حرًّا؛ وهذا يعني أنّه لا يمكن أن يوجد لحرّيّتي حدود أخرى غير ذاتها، وإذا شئنا فنحن لسنا أحرارًا في الكفّ عن أن نكون أحرارًا".

- سارتر -

 

قبل خمسة أعوام، كنت أخوض حربًا؛ لأدافع عن حقّي في التصرّف الطبيعيّ بذاتي كيفما أشاء، التصرّف حتّى بجسدي بما يمليه عليّ وعيي بحرّيّة الجسد ومعنى الشرف، كانت أدوات دفاعي غير مكتملة، وكان لدى الكثير من القضاة غير الشرعيّين، الحقّ في توجيه خياراتي وتحديدها وتشكيلها.

اليوم أنا أُمّ أبالغ في فرحي تجاه ابنتي سرو، عندما ترفض تناول الطعام بقولها "لا!"، تسحبني من يدي مقرّرة أن تنام، ترفض ارتداء الملابس رغم البرد، هذا وكلّ تصرّفاتها الصغيرة والكبيرة الّتي تمارس من خلالها – عفويًّا - قدرتها على الاختيار، وحقّها في تقرير مصيرها.

سرو الّتي لم تتجاوز العام والنصف، تقرّر مصيرها، وتختار بإرادتها الكاملة، في حدود اكتمالها. إنّها بكلّ بساطة تعبّر عن وجودها الإنسانيّ، وأنا منذ الآن، وحتّى تمتلك أدواتها للدفاع عن حقّها؛ سأكون الأداة الّتي تدافع بها عن حرّيّة اختيارها ولو ضدّ إرادتي، إنّها منذ الآن، تعبّر عن وجودها، بينما احتجت أنا إلى ثلاثين عامًا؛ لأحاول أن أكون.

في مجتمع يلعب معنا لعبة الديكتاتور، ويعتبر أنّه يمتلك ذواتنا، ويساوي بين الجميع في القمع؛ لا بدّ من وجود فدائيّات يضعن حدًّا لتدخّل المجتمع! ما أبسط الفكرة! وما أوقع المعنى! لكن لمثل تلك الحروب لا بدّ من امتلاك أدوات، أوّلها الوعي بالسبب الّذي من أجله نسعى إلى حقّنا في تقرير مصيرنا، الّذي هو: الحقّ في الوجود.

السؤال حول معنى الوجود الإنسانيّ سؤال قديم جديد، مطروح منذ وُجِدَ الإنسان، للسؤال والنقاش والشكّ، والحرّيّة هي الكلمة السحريّة الّتي تعبّر عن هذا الوجود، والمتمثّلة في القدرة على الاختيار بإرادة كاملة؛ فالإنسان يعبّر عن وجوده بمقدار ما يمتلكه من هذه الحرّيّة في الاختيار؛ أي حقّ تقرير مصيره الفرديّ، مع اقتران هذا الحقّ بتحقيق غاية سامية هي الحرّيّة، وبما يعني في الوقت عينه، أنّ أيّ حقّ في تقرير المصير، يسعى إلى الحدّ من الحرّيّة؛ ما هو إلّا شكل من أشكال نفي الوجود الإنسانيّ؛ فالغاية من حقّ تقرير المصير، لا يجوز أن تكون قيدًا على الحرّيّة ذاتها، لا يجوز أن يكون الفرد أنانيًّا: أن يكتفي بحقّه في تقرير مصيره، بينما لا يسعى إلى تحرير مجتمعه ومن حوله.

إنّ فقدان الحقّ في تقرير المصير، ما هو إلّا هدر للحاضر الّذي نعيشه، وهو ما يعني تباعًا فقدانًا لمستقبل نطمح أن نعيشه، ولهذا ارتباط عضويّ ببقيّة القيم؛ ففي عصر يجري فيه تسليع كلّ شيء، ووضع ثمن له؛ تكون الكرامة - الّتي تتمثّل في حقّ الإنسان في تقرير مصيره - قيمة عليا، ولا يمكن أن يكون لها ثمن؛ أي لا يمكن أن يكون لها قيمة تبادليّة في سوق رأس المال.

ثمّ إنّ ممارسة حقوق عاديّة في مجتمعنا، كالحقّ في امتلاك الجسد، وحرّيّة الضمير، وحرّيّة البحث الأكاديميّ، وحرّيّة الفنون والتعبير، وحقّ الانتقاد السياسيّ والمشاركة في صنع القرار؛ تحتاج إلى قوّة غير عاديّة؛ قوّة إرادة وثقة وإقناع، في الوقت الّذي يجب أن تكون المسؤوليّة الأبرز لأيّ نظام اجتماعيّ، توفير هذه الحقوق بشكل انسيابيّ، مجّانيّ وطبيعيّ، أساسًا لحياة طبيعيّة يتمتّع بها المجتمع والأفراد، وتدعم قدراتهم على التنمية والإبداع، وتمرير فرص التقدّم الإنسانيّ لأجياله القادمة.

إنّ ممارسة حقّ تقرير المصير الفرديّ في المجال العامّ، تجعل من الممارسة الفرديّة فكرة جماعيّة؛ أي أنّ كلّ فرد قادر على ممارسة حقّه الفرديّ في تقرير مصيره، يؤثّر - بشكل مباشر أو غير مباشر - في بقيّة الأفراد، ويدفعهم باتّجاه ممارسة حقّهم، ويفتح للأجيال القادمة الطريق نحو المزيد من الحرّيّات.

مارسن حقوقكنّ، واستمتعن، وتفاخرن بالحرّيّة.

 

 

جدل القاسم

 

 

باحثة وشاعرة فلسطينيّة سوريّة، وُلدت في العاصمة البلغاريّة صوفيا عام 1983، لأُمّ سوريّة وأب فلسطينيّ، تقيم حاليًّا في رام الله. لها ديوان "قمح في قطن"، وقد فاز به بـ "جائزة الكاتب الشابّ"، الّتي نظّمتها "مؤسّسة عبد المحسن القطّان"، عام 2015.