الشعر متّهمًا وبريئًا

أفلاطون وسقراط

لابدّ للقطار أن ينطلق دومًا من محطّة، الطريق مليئة بالغامض، والمكشوف إشارات نتركها على جانبيّ الطريق كي لا يتوه المسافر ويصل إلى مبتغاه. هكذا ينظم الإنسان خطوات سيره إلى العالم؛ ليعرفه، ويعرّفه، هنا يكون للفكر خطّة بحثيّة، لا رغبة في المعرفة، بل رغبة في الإكمال أكثر.

في الاتّجاه المعاكس للكتابة

الفلسفة أوّل خليّة في العقل. منذ الأزل، والفكر يد الإنسان في تحسّس الأشياء، بغية الغوص فيها لاحقًا، واستكشاف مضمونها، ومعرفة سبب وجودها. لا نعرف، هل نحن أصغر من الأشياء، أم أنّها أصغر منّا؟ لكنّنا صرنا أكثر وعيًا بأنّنا على مقربة من الجهل، كلّما استغرقنا في الطريق أكثر، الطريق إلى ماذا؟ لا إجابة لدى الفيلسوف، الطريق تتحرّك مثلما نتحرّك، ربّما تكمن هنا فكرة المجهول على مدار تعاظم عجلة التاريخ، وتكمن فكرة الفلسفة في التنقيب عن الظواهر الغامضة، وإزالة التكلّس عنها لتبدو جديدة في عين المارّين على حبل المعرفة.

جان فرانسوا ليوتار

وفي الرجوع إلى أصل كلمة الفلسفة في اللغة اليونانيّة القديمة، فإنّنا نجد لها معنى الميل إلى الحكمة، أي كلّ فكر له علاقة بالرابط العقليّ، وقد أظهر جان فرانسوا ليوتار ميكانكيّة الفلسفة في الانقضاض على الأشياء بقوله: "الفيلسوف يكتب في الاتّجاه المعاكس للكتابة".

الغمر

الشعر أوّل خليّة في القلب. ما هو تعريف ما ننساه؟ ما هي فكرة التلاشي؟ هل هو فناء الموقف أم فناء عاطفته؟ إنّنا لا نتعرّف إلى الفقد حتّى ننزلق في مجراه. هل ما يُنسى مآله العدم؟ لماذا يرجع أحيانًا، ولماذا يبقى هناك، حيث يلقى الكون مهملاته؟

من الممكن أن يحدث كلّ ذلك، لكنّنا لا ننسى حين نغرق في الأشياء، إنّها فكرة الغمر، التحسّس الكلّيّ، التشبّع من الملامسة، ما يشعل الحريق في الحواسّ. أيّ فكرة تلك التي تجعل منك تكوينًا جديدًا؟ ما السائل الذي يندلق فيك وأنت تشعر؟

هنا يعرّج الشعر، هنا يلقي حمولته، نعم يتبدّل جلد الإنسان الداخليّ من جرّاء عاطفة  تتولّد في عمقه. هل المعنى الذي استند إليه الشعر من اللغة اليونانيّة القديمة، بأن يكون تخليقًا مستمرًّا، هو ما جعل منه، إلى هذا اليوم، الماورائيَّ الذي تبحث عنه الحياة.

الفلسفة والشعر، طريقان متجاورتان غالبًا، متقاطعتان حدّ التكامل، أحيانًا.

المطرودون من المدينة الفاضلة

ولقد بقي الشعر متّهَمًا أمام الفلسفة، منذ أن طرد أفلاطون الشعراء من المدينة الفاضلة بحجة أنّهم يقدّمون المعاني الفاسدة، ويثيرون العاطفة التي تبعد المتلقّي عن الحقيقة، وتهدم الأسس الأخلاقيّة التي أرادها في جمهوريّته؛ وقد طالب باستبعادهم ودحرهم من منظور أخلاقيّ، حسب رؤيته، وأنكر حديث الشعراء الغامض وطريقة الطرح البعيدة عن الواقع في كتاب الجمهوريّة الأوّل.

وكان على الشعر من وقتها الدفاع عن ذاته، وتقديم الأطروحة التي تبقيه حيًّا في شخصيّة العالم، وكان عليهم حذف تهمة التشويش على عقول البشريّة، من خلال الوصف الذي أعطاه أفلاطون في كتابه الثالث للجمهوريّة، وقد طالب وقتها، بأن يشرف التربويّون على الشعر لمنع وصول الخيال المخدّر، والمعزّز لاستبداد الآلهة، إلى مجتمع المدينة الأفلاطونيّة التي أرادها، وهذا ما أورده في كتابه الرابع للجمهوريّة، وتحديدًا في سؤاله وإجابته عنه:

"ما الذي يحاكيه الفنّان في فنّه؟

إنّ الفنّان يحاكي من هو محاكى في الأصل، ويبتعد عن الحقيقة ويصبح لا قيمة له".

فريدريك نيتشه

يتّضح بأنّ أفلاطون لا يعير الشعر أيّ أهمّيّة، فكان يرى العالم نسخة عن العالم المثاليّ الذي في الذهن، وما يقدّمه الشعر وقتها كان حيدًا عن الحقيقة، وتشويهًا لصورة الخالق.

على النقيض تمامًا، منح أستاذه، الفيلسوف سقراط، مكانة عظيمة للشعر، وقد وجد فيه محاكاة لعقول الناس، وأنّ هذه المحاكاة بمثابة معرفة لا بدّ منها لينهض الإنسان، كما جعل الشعر أعلى من الفلسفة، إذ إنّه يعلّم الناس من الخير والحكمة أبعد ممّا تهدف إليه الفلسفة، من خلال إجمال المشهد الإنسانيّ في صور فنّيّة، وغوص في العمق الذاتيّ للإنسان، ما يسمح بترسيخ المعنى، وإضفاء الحياة على الأثر المتردّد في الروح إبّان الخشوع لإيماءة الخيال، وقد شبّه الشعر بالموسيقى، أنّهما يترجمان ما يقوله الإحساس.

يكدّرون مياههم

وقد انتقد الفيلسوف والشاعر الألمانيّ فريدريك نيتشه الشعراء في عصره والعصور السابقة له، حين قال في كتابه، "هكذا تكلّم زاردشت"، إنّ "الشعراء ليسوا نقيّين بما فيه الكفاية في نظري"، إذ رآهم لا يغوصون في أعماقهم، ولا يصلون إلى القاع في البحث عن العاطفة الإنسانيّة، التي ستسهم، لو كانت، في إصلاح المجتمع البشريّ الفاسد حسب رؤيته. وفي قول ثانٍ لنيتشه عن الشعراء: "جميعهم يكدّرون مياههم كي تبدو عميقة!"، وهو يتّهمهم بالافتعال، وأنّ الغامض لديهم معكّر، ما يسلب العمق حقيقته.

نيتشه، الشاعر والفيلسوف، قدّم نصوصًا يستعصي تحديد هويّتها، شعرًا أم فلسفة، وقد نجح فيها بنقل الفلسفة إلى منطقة تغييب النسق، والقفز عاليًا، أعلى ممّا تريده الحرّيّة في التفكير، مانحًا الفكر روحًا من خلال الصوت الدافئ المتردّد في كلماته، كما ترغب العاطفة أن تتجسّد تمامًا في عالم يهمّش ذاتها. كما انتقد نيتشه في الشعراء تعاليهم وغرورهم، في قوله: "قد تعلمّوا من البحر غروره أيضًا، أليس البحر بطاووس الطواويس؟"

فيلسوف عظيم... شاعر عظيم

هذا التوجّه في خلق إشاعة فكريّة لتفتيت دور الشعر التثقيفيّ في الحياة، لم يكن ليمرّ عند أهل الفكر والأدب على مرّ العصور، والمختلفين مع أفلاطون ومن سار على نهجه، محاولين إظهار دور الشعر، ليس في البنية الثقافيّة للبشريّة، بل في صياغة الجملة الفلسفيّة، إذ يقول ليوباردي: "إنّ الفكر البشريّ لم يتوصّل إلى تكوين فكرة واضحة تمامًا، عن شيء غير محسوس، إلّا من خلال مماثلته، ومقارنته، وتشبيهه بالأشياء المحسوسة، أي، بالتالي، إعطائه بطريقة ما جسدًا"، وأنّ الفلسفة لا بدّ أن تنطلق دومًا من البعد الشعريّ لإطلاق جسد الفكرة الفلسفيّ. كما أكّد ليوباردي في كتاب المذكّرات، "زيبالدون والقاضي"، بقوله: "إنّ الفيلسوف العظيم، يكون شاعرًا عظيمًا".

ليوباردي

إنّ التجربة الإنسانيّة مع العلوم كافّة، تدين للفلسفة؛ كونها السبب في تنمية تلك العلوم، وتغيير الرؤية الكونيّة الدائرة حول أجسام تلك الظواهر المتغيّرة على الدوام. لكن ما لا يجب تجاهله، أنّ الجملة الشعريّة كان لها الفضل في إطلاق الخيال النقيّ الذي انبثق عنه الفكر البشريّ، ومواكبة انتقالاته كافّة عبر الحقب المختلفة، فكريًّا وزمانيًّا، ويبقى الشعر الحاضنة للفعل والحدث الفلسفيّين من خلال فجاءة اللغة التي يقدّمها، بما يكسو الكلمات من حلّة جديدة، وفق السياق الذي تتمثّل فيه الجملة.

والشعر جسر تمرّ عليه اللغة لتستمرّ في هذا العالم بشكلها غير المألوف، نظرًا لما يدعو إليه الشعر دومًا من إعادة تخييل الكلمات في العقل البشريّ، والدخول في إيقاع جديد للخيال، والرقص مع النسق الفكريّ الذي تستحدثه الفكرة، وتحتضنه الكلمات، و"الطريقة  الوحيدة للدفاع عن اللغة، أن ننقضّ عليها"، وفق مارسيل بروست، وهذا لا يكون إلّا من خلال الشعر، ولن يكون للفلسفة برّ ترسو عليه إلّا من خلال الاستعارة وما تحمله معها من خيالات، تُنْبِتُ في كلّ جملة تصادفًا مخالفًا للرؤيويّة التقليديّة، أو التي تسبقها.

كلّ هذا يجعل الشعر بمثابة الحاضنة التي ترتاح فيها الأسئلة الفلسفيّة العظمى.

 

 

حسام معروف

 

شاعر ومحرّر. عضو هيئة تحرير مجلّة 28 الغزّيّة، ويدير أنشطتها. يدير صفحة بيانات الأدبيّة على 'فيسبوك'. عضو مؤسّس في التجمّع الشبابيّ من أجل المعرفة 'يوتوبيا'. حاصل على جائزة متحف محمود درويش عن قصيدة النثر (2015)، وجائزة مؤسّسة بدور التركي للتنمية الثقافيّة (2015) والتي صدرت في إطارها مجموعته الشعريّة، 'للموت رائحة الزجاج'.