"المُبشّر" وأخرس نابلس... حكاية عن أول جريمة استعماريّة في تاريخ المدينة

كانت رواية القنصليّة البريطانيّة، التي أجمع عليها كل من القنصل ونائبه، ومعهما الرّحّالة روجرز، مُصمَّمة تصميميا استعماريًّا بالقول في القتل "غير المقصود"

منظر عام لنابلس، قديما (Getty Images)

"لم يعد السيد بوين مقيما في نابلس، ولم يعد لي أي صديق إنجليزيّ فيها الآن، وما من أحد كان بمقدوره التحرّك بحريّة بين الأطراف كافّة، ليتولّى جمع المعلومات في وقتها، لكي يساعد على إخماد الأعمال العدائيّة خلال التحضير لها. لا يحدث شيء بدون سبب، وحتى الآن، بعد مرور كل هذه السنوات، من المرغوب معرفة السبب الذي كان وراء أعمال العنف التي اندلعت في نابلس".

بهذا، ذيَّل القنصل البريطانيّ، جيمس فِن، تقريره عن أحداث نابلس، حينما كان يشغل منصب قُنصل بلاده، المملكة المتحدة (بريطانيا) في مدينة القدس سنة 1856. وقد شغل فِن منصبه لمدة 17 عاما ما، بين سنوات 1845 - 1862(1). إنّ كلّ ما يأسف له القنصل، إزاء نابلس وأحداثها بحسب قوله، هو "فقدانه مصادر جمع المعلومات في المدينة وعنها". وهذا الاقتباس هو فقط للتذكير، بدوْر القنصليّات الأجنبيّة، ومهام قناصلها الاستخباراتيّة في جمع المعلومات عن فلسطين وأحوال أهلها، منذ أواسط القرن التاسع عشر. أما عمّا حدث وقتها، فتلك حكاية متّصلة بجريمة قتل وقعت في مدينة نابلس، ارتكبها ناشط استخباراتيّ بريطانيّ تنكَّر بزيّ مبشّر بروتستانتيّ.

منظر عام لنابلس، قديما (Getty Images)

لم يُعرف ما إذا كان قرْع الجَرس، أو رفع العَلم، هو ما أثار حفيظة وغضب النابلسيين في حينه. غير أن المدينة كلّها، كانت تضجّ من كل فجّ عميق، وكانت الطريق التي تربط مدينة نابلس بالقدس تعجّ بحوافر خيل الخَفر، والقوّاسين الأتراك، وذهاب وإياب الدبلوماسيين الأجانب، من أجل تهدئة المدينة، وضبط أهلها الموتورين.

قرْع الجرس ورفع العلَم

تعود الحكاية إلى مساء يوم 31 من آذار/ مارس سنة 1856 عندما وصل المطران الأنجلكانيّ في القدس إلى مدينة نابلس، وفي حقيبته جرس تم جلبه من إنجلترا، من أجل تعليقه في كنيسة المدرسة البروتستانتيّة في نابلس. كان قائمقام (حاكم) مدينة نابلس في حينه، هو محمود بيك عبد الهادي، الذي سأل المطران إذا ما كان يحمل أمرا موقّعا من الباب العالي، يسمح له بتعليق الجرس، وبخاصة أنه قد مضى على اعتراف الدولة العثمانيّة بالمذهب البروتستانتيّ، ستّ سنوات(2). لم يكن المطران الإنجليزيّ يحمل إذنا بتعليق الجرس وقرعه، غير أنّه أبلغ حاكم المدينة اعتماده على نصوص الخطّ الهمايوني الشريف، الذي أصدره السلطان في شباط/ فبراير من السنة نفسها (1856) والذي ينصّ أحد بنوده على "حقّ السلطان وحده، بمنح تراخيص بناء وترميم الكنائس والمقابر الخاصّة بغير المسلمين"؛ إضافة إلى بند آخر "يعفي الكنائس من الضرائب والمستحقّات".

وافق عبد الهادي على تعليق الجرس، وأمر نفَرا من حَرسه وقوّاسيه بالتواجد في المكان الذي سيُقرع فيه الجرس للمرة الأولى. وتمّ ذلك صبيحة اليوم التالي، في الأول من نيسان/ أبريل 1856، فقد عُلّق الجرس وقُرع، للدعوة للصلاة مرتين صبيحة ذلك اليوم، ومسائه، بينما ساد الهدوء طوال نهار المدينة(3).

في اليوم التالي، الثاني من نيسان/ أبريل، أبرق القنصل الفرنسيّ في القدس برقيّة لوكيله في مدينة نابلس، حيث كان لقناصل الدول الأوروبيّة، وكلاء في بعض المدن الفلسطينيّة، ومنها نابلس، يخطِرهُ فيها بولادة السموّ الملكيّ، الأمير في باريس. كما وأرسل لحاكم المدينة محمد عبد الهادي بيك يأمره بوجوب زيارة وكيل القنصليّة الفرنسيّة في المدينة، وتهنئته رسميًّا.

حواجز موضوعة على طريق نابلس القدس عام 1938 (Getty Images)

بعد وصول البرقيّة، قام وكيل القنصليّة الفرنسيّة باستعارة راية عَلم فرنسا من السيد بوين، مدير المدرسة البروتستانتيّة في نابلس، ورفعها فوق بيته إلى جانب علَم الدولة العثمانيّة. كما قام المطران الانجليكاني بعد وصوله بيت وكيل القنصليّة الفرنسيّة، برفع عَلم بريطانيا أيضا إلى جانب الرايتين الفرنسيّة والعثمانيّة، ولم يتردّد محمود بيك عبد الهادي فسي إرسال قوّاسيه إلى بيت الوكيل، وإطلاق النار في الهواء، احتفالا بتلك المناسبة البالغة الأهمية لحليف السلطان العظيم، المتمثلة في ولادة وليّ العهد(4).

كان رفع العلمين الفرنسيّ والبريطانيّ، الشرارة التي أدّت إلى انفجار حنق أهالي مدينة نابلس وغضبهم، الأمر الذي اعتبره جيمس فِن "تعصُّبا نابلسيًّا أعمى"(5). ففي يوم الجمعة، الرابع من نيسان/ أبريل 1856، عند موعد صلاة ظهر الجمعة، أنزل أهالي مدينة نابلس المؤذّنين عن مآذن مساجدهم، وأغلقوا أبوابها، ونزلوا يطوفون في شوارع نابلس وأزقّتها، مستنفرين المشاعر المحليّة، ومحرّضين على وكلاء القناصل والموظّفين الأجانب في المدينة، بهتافات وصيحات لم تكن تخلو من مسوح دينيّة - طائفيّة(6).

المُبشِّر والأخرس

وفيما كانت نابلس كلها في حالة غلوّ وغليان، أديّا إلى هيجان عطّل الحياة في المدينة، كان موسى الهموز، وهو أخرس من أهالي مدينة نابلس، مشغولا في تتبُّع حركة مُبشّر بروتستانتيّ إنجليزيّ يُدعى أس. لايد، وكان قد حطّ في مدينة نابلس، قبل أشهر من اندلاع الأحداث فيها. وقد أشار إليه المؤرخ إحسان النمر في كتابه "تاريخ جبل نابلس والبلقاء" على أنه سائح إنجليزيّ نزل المدينة قبل شهر من اندلاع أحداث مطلع نيسان/ أبريل، ولم يذكره على أنه مُبشّر بروتستانتيّ. يُذكر كذلك أن إحسان النمر يؤرّخ لتلك الحادثة على أنها وقعت في تاريخ سنة 1875، أي 1272هجري(7).

بينما تؤكد تقارير القنصل البريطانيّ جيمس فِن على أن أس. لايد، كان مُبشّرا يدعو للمذهب البروتستانتيّ، وقد أشاد القنصل بدور لايد ليس التبشيري فقط، إنما مآثره في جمع المعلومات وتزويد القنصليّة في القدس بها عن مدينة نابلس، وغيرها من مدن فلسطين(8). ومما يذكره صاحب كتاب تاريخ نابلس والبلقاء، أن لايد ظلَّ منذ أن حطّ في مدينة نابلس، محطّ شكوك أهلها، لمداومته على دراسة أحوال المدينة وأهلها، والتجوّل يوميًّا في أطرافها. إضافة إلى ذهابه صبيحة كل يوم إلى مبنى السّرايا في المدينة، برفقة بعض الحرّاس من "النصارى الوطنيّين"(9)، ولم يعرف أحد غرضه، ولا سبب نزوله المدينة، فحامت حوله الشكوك والظنون(10).

جنود بريطانيون عام 1948 في ميناء حيفا، بينهم القنصل البريطانيّ (Getty Images)

أمّا عن موسى الهموز، فقد أجمعت الروايات على أنه كان أصمًّا وأبكمًا، ولم يورِد إحسان النمر أيّ معلومات متعلقة به، غير أنه كان أوّل من تحمّس لمهاجمة المُبشّر(11). بينما يصف جيمس فِن موسى الأخرس، بأنه "رجل أخرق، اشتهر بوقاحته وصفاقته"(12).

إلا أن ماري روجرز، ونقلا عن شقيقها إدوارد توماس روجرز، الذي كان يشغل منصب نائب القنصل البريطانيّ في فلسطين، تقول في ما يتعلق بموسى الذي لم تكن تعرف اسمه الشخصيّ، إنه "كان شخصا معروفا ومحبوبا في نابلس، وهو أصمّ وأبكم، ويعاني من بعض الاختلالات العقليّة، وكان العرب يجلّونه بفعل إيمانهم الشديد بالخرافات، في الوقت نفسه الذي كان فيه مثارَ سخريتهم وتسليتهم، كما كان شحّاذا محترفا ولحوحا"(13).

ربما ما وصفته روجرز نقلا عن أخيها نائب القنصل، هو الوصف الأقرب والأدقّ لهويّة شخصيّة موسى الأخرس، ويخاصّة أنّ إدوارد روجرز كان شاهدا على تلك الحادثة، بعد أن انتدبه القنصل جيمس فِن عنه، للذهاب من حيفا إلى نابلس لتهدئة النفوس، بعد مقتل موسى الأخرس.

قتل بـ"غير عمد"

بحسب فِن، فإن موسى الأخرس قد صادف المُبشر أس. لايد مع مجموعة من المتسوّلين، بينما كان لايد يهمّ في ركوب حصانه ساعة اندلاع أحداث الفورة، لمغادرة المدينة من بوّابتها الشماليّة. وقد أمسك موسى الأخرس بمعطف المُبشّر، وهو ما دعا هذا الأخير لألّا يعطيه شيئا، ولمّا حاول المبشّر لايد تحرير معطفه من قبضة "المتسوّل" الأخرس، انطلقت رصاصة من مسدس لايد، أردت الأخرس قتيلا على الفور(14). كان لنبأ مقتل موسى الأخرس في الساعة ذاتها من اندلاع الاحتجاجات في نابلس على يد مُبشّر أجنبي، أثر في تحوّل الاحتجاج إلى انتفاضة كبرى، عمّت كل أرجاء المدينة.

بينما رواية روجرز عن قتل الأخرس بـ"غير عمد"، تختلف في بعض تفاصيلها عمّا ذكره فِن، إذ يقول: "أوقف الشحاذ الأبكم حصان السيّد لايد عندما التقى به عند بوابة نابلس، وطلب منه بالإشارات والإيماءات صدَقة أو أُعطية، فرفض السيد لايد إعطاءه شيئا، ولمّا حاول متابعة طريقة، تشبّث القتيل بعقِب المسدّس المحشوّ الذي كان السيد لايد يضعه في جراب سرج حصانه، والذي كان لسوء الحظ مذخّرا وجاهزا للإطلاق، ولما حاوّل السيد لايد إبعاد يد القتيل عن المسدس، انطلقت رصاصة، وقُتل الرجل على الفور"(15).

إلا أن إحسان النمر، صاحب الرواية العربية الوحيدة والمقتضبة، التي تسنّى لنّا العثور عليها عن تلك الحادثة، يذكر أن "الأخرس موسى الهموز، كان أوّل من تحمّس وهاجم السائح (لايد)، وهو في طريقه إلى السرايا في المدينة، فرماه أحد حرّاسه وقتلهُ"(16). بحسب رواية النمر، فإنّ أحد حرّاس "المبشّر" لايد، هو من أطلق النار متعمّدا قتل موسى الأخرس. كما أنّ هذا الأخير لم يكن متسوّلا يطلب صدقة، بل متعقّبا لحركة "المبشِّر" في المدينة، سنحت له أحداث ذلك اليوم بمهاجمته.

قوات بريطانية على طريق نابلس - جنين (Getty Images)

كانت رواية القنصليّة البريطانيّة، التي أجمع عليها كل من القنصل ونائبه، ومعهما الرّحّالة روجرز، مُصمَّمة تصميميا استعماريًّا بالقول في القتل "غير المقصود"؛ علما بأنّ القتل غير المقصود، يمكن القول به، إذا كانت أداة القتل عصا أو حجرا أو حتى سكينا، بينما القتل رميا بالرصاص، لا يمكن أن يكون إلا متعمَّدا. وإذا كان أس. لايد "مُبشّرا دينيًّا" يدعو للمذهب البروتستانتيّ كما تدّعي الرواية، فما حاجة رجل دين إلى مسدّس؟ كما ألصقَت رواية القنصليّة صفة التسوّل بموسى الأخرس، في محاولة لترحيل الحدث من بعده، المتّصل بالجاسوسيّة ورفضها، إلى حبكها على أنها حادثة عرضيّة أسفرت فيها رصاصة "مُبشّر عن قتل مجنون".

الوكالة المحليّة

اشتعلت مدينة نابلس التي كانت تغلي أساسا بدون سماع خبر مقتل موسى الأخرس، وبعد انتشار نبأ الجريمة، هاجم أهالي المدينة مبنى السرايا أوّلا. ووصف فِن جموع النابلسيين الغاضبين بـ"الغوغاء"، لأنهم هاجموا بيوت "مسيحيي المدينة" في محاولة أراد منها القنصل إكساب الحدث مسوحا دينيّة - طائفيّة. غير أن أهالي المدينة بحسب رواية النمر، قد هاجموا البيوت والمواقع التي فرّ إليها "المُبشّر لايد" ومرافقوه، تحديدا(17)، مثل السرايا، وبيوت وكلاء القنصليّات الأجنبية، وكذلك بيت قائمقام المدينة محمود بيك عبد الهادي، وبعض بيوت البروتستانت الذين كانوا مشمولين بالحماية البريطانيّة. ومع ذلك لم يكن ردّ فِعل أهالي المدينة يخلو من الاحتقان الدينيّ - الطائفيّ، خصوصا وأنه أسفر عن مقتل سمعان قعوار، والد وكيل القنصليّة البروسيّة (الألمانيّة) في نابلس، ميخائيل قعوار(18).

لم يكن أمام القنصليّة البريطانيّة ما تفعله أمام غضب وفوران دم أهالي نابلس، غير الثّقة بحاكمها المحليّ محمود بيك عبد الهادي، بإنقاذ الموقف وحماية رعاياها في المدينة. وهذا ما حدث فعلا، فقد لاذ أس. لايد ببيت البيك، الذي احتشدت على أبوابه جموع الغاضبين. وظلّ لايد محتميا فيه لمدة قاربت الأسبوع، ومما يذكره نائب القنصل إدوارد روجرز عن محاولة لايد الخروج من بيت البيك ومواجهة الموقف، أن البيك منعه من ذلك، قائلا: "هدِّئ من روعك، أنا وعائلتي وخدَمي، وكل القاطنين في بيتي سنضحّي بأرواحنا في سبيل الحفاظ على حياتك"(19).

جنود بريطانيون في موقع مراقبة قرب نابلس (Getty Images)

ليست الوكالة المحليّة لصالح الأيدي الأجنبيّة بالأمر الجديد في نابلس، ولا في فلسطين عموما، فالوكلاء موجودون وفاعلون منذ ذلك الحين. وإذا ما عُدنا إلى دوافع غضب أهالي مدينة نابلس واحتجاجهم في ذلك اليوم، قبل جريمة جاسوس القنصليّة أصلا، فإنّ واحدا منها مردّه إلى النزاع مع بعض العائلات والقوى المحليّة المتنفذة، التي ارتبط نفوذها بالدعم الخارجيّ والأجنبيّ.

الاحتلال كمتلازِمة استعماريّة

في العاشر من نيسان/ أبريل 1856، وصل "المُبشّر" أس. لايد باب القنصليّة البريطانيّة في مدينة القدس سالما، ومُحاطا بثلّة من القوّاسين الأتراك، وذلك بعد جهود بذلها بعض أعيان مدينة نابلس لتهدئة النفوس، ولمنع تحوّل الأحداث إلى احتراب دينيّ - طائفيّ؛ فضلا عن وساطة نائب القنصل روجرز، الذي تمكّن بالتعاون مع عبد الهادي من إخراج أس. لايد، مقابل التعهُّد لأهالي المدينة بدم ابنهم المقتول(20).

بدأت محاكمة أس. لايد في محكمة عثمانيّة في القدس، دون حبسه، فقد ظلّ يتجوّل حرًّا في المدينة بكفالة القنصليّة، لأن الحادثة "فطرت فؤاد لايد المسكين، وكان يحتاج إلى كل الدعم واللطف الذي يمكنه الحصول عليهما من أصدقائه"، وفق تعبير القنصل(21).

حُكم على أس. لايد، بعد محاكمة استمرّت شهورا، بدفع مبلغ مالي بلغ ما، يُعادل قيمة 10،000 درهم من الفضة، باعتباره "دية دم" لورَثة القتيل، ولم يُسجن لايد يوما واحدا، وذلك بحجّة "تزايُد حدّة متاعبه العقليّة منذ الحادثة"(22)، أو بحسب روجرز، الذي قال إنه تعرّض لـ"لوثة عقليّة شديدة"(23)؛ فالادعاء باختلال وجنون مرتكبي الجرائم الاستعماريّة المرتكَبة بحقّ الفلسطينيين، تعود بجذورها إلى ذلك الزمن، وبخاصّة أنّ روجرز ذكر أنّ لايد غادر بعد محاكمته إلى بلاده إنجلترا، وبعد عام تقريبا عاد إلى فلسطين، و"شاهدته وقد شُفي من هلوساته تماما، لا بل عاد لمتابعة مهماتة التبشيرية وهو يتمتع بصحة جيدة"(24).

إن محاكمة أس. لايد، تبيّن لنا حجْم النفوذ الذي صار عليه قناصل الدول الأوروبيّة، للتدخّل في شؤون الدولة العثمانيّة الداخليّة، خصوصا بريطانيا وفرنسا؛ الدولتان اللتان وقفتا إلى جانب الدولة العثمانيّة في حرب القرم (1853 - 1856) ضد روسيا. ووفقا لقوانين الامتيازات الأجنبيّة، كان يحقّ لقنصل الدولة التي ينتمي لها المُتّهم، حضور جلسات المحكمة العثمانيّة، كما يحقّ للقنصل استجواب الشهود، والحقّ في تعليق الإجراءات عندما يرى أنّها لا تسير وفقا للأصول، كما يحقّ للقنصل الاعتراض على الحكم الصادر، والاستئناف عليه.

في الأخير، لم يعاقَب أس. لايد، ولم يدفع حتى المبلغ المالي (الدية) لورثة القتيل بمقتضى قرار المحكمة، وإقرار القنصليّة البريطانيّة به. لا بل ظلّ قناصل الدول الأوروبيّة في القدس، ووكلاؤهم في نابلس، يطالبون الدولة العثمانيّة بتعويضهم بالأضرار التي تسبّب بها أهالي المدينة الموتورون. وبينما كان دم موسى الأخرس يسقط من حسابات تحوّلات تاريخ فلسطين في القرن التاسع عشر، كان أس. لايد "المُبشّر" يتابع مهامه الاستعماريّة في بيروت، ورايات القناصل تعلو بأكثر ممّا كانت عليه في فلسطين.


الهوامش:

1. تسلّم جيمس فن كتابَ تعيينه قنصلا في القدس رسميّا في 26 تشرين الثاني/ نوفمبر 1845، ويُعتبر القنصل الإنجليزيّ الثاني فيها بعد القنصل الأول وليم بانغ. شغل فن منصبه قنصلا في القدس لمدة 17 عاما، وتميّز بشغفه الدائم لمعرفة كلّ ما يتعلق بفلسطين، من منطلقٍ جَدَلَ فيه الدينيّ – العقائديّ مع السياسيّ – الاستعماريّ، وقد تُرجِمَ ذلك في اهتمامِهِ بيهود فلسطين، ودعمِهِ للهجرة اليهوديّة من أوروبا إلى فلسطين. كما دعا فن إلى إقامة طقوسٍ دينيّةٍ باللغة العبريّة في كنيسة المسيح في القدس، ودَعم النواةَ الأولى للاستيطان اليهوديّ في البلاد، حتى أنّه بَذَلَ جهودا شخصيّةً لإقامة مشاريع زراعيّة – صناعيّة من أجل توطين اليهود وتمكينهم منذ أواسط القرن الثامن عشر. عن ذلك، راجع : حبيب الله، علي، فلسطين من نافذة القنصل، مادة منشورة عبر موقع "متراس"، تاريخ 25/1/2021.

2. فِن، جيمس، أزمنة مثيرة - وقائع من سجلات القنصلية البريطانية في بيت المقدس (1853 - 1856)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2017، ص 942.

3. المرجع السابق، ص 942.

4. المرجع السابق، ص942.

5. المرجع السابق، ص943.

6. النمر، إحسان، تاريخ جبل نابلس والبلقاء - حوادث عهد الاقطاع، مطبعة ابن زيدون، دمشق 1938، ج1، ص 270.

7. النمر، إحسان، المرجع السابق، ص 270.

8. فِن، جيمس، المرجع السابق، ص 942.

9. يُقصد بالنصارى الوطنيين، المسيحيين العرب من أهل البلاد.

10. النمر، إحسان، المرجع السابق، ص 270.

11. المرجع السابق، ص 270.

12. فِن، جيمس، المرجع السابق، ص 943.

13. روجرز، ماري إليزا، الحياة في بيوت فلسطين رحلات ماري إليزا روجرز في فلسطين وداخليتها (1855-1859)، ترجمة: جمال أبو غيدا، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 2013، ص 302.

14. فِن، جيمس، أزمنة مثيرة، ص 944.

15. روجرز، ماري، ص 302.

16. النمر، إحسان، تاريخ نلبلس والبلقاء، ص270.

17. المرجع السابق، ص 271.

18.فِن، جيمس، المرجع السابق، ص 944. وأيضا: روجرز، ماري، المرجع السابق، ص 301. كما يذكر إحسان النمر أن والد وكيل القنصلية البروسية المقتول، اسمه سعيد قعوار، وهذا غير دقيق. ص 270.

19. روجرز، ماري، المرجع السابق، ص 300-301.

20. فِن، جيمس، المرجع السابق، ص 946. وأيضا: النمر، إحسان، المرجع السابق، ص 271.

21. فِن، جيمس، المرجع السابق، ص 946.

22. المرجع السابق، ص 946.

23. روجرز، ماري، المرجع السابق، ص 302.

24. المرجع السابق، ص 302.

التعليقات