10/09/2022 - 21:30

حوار مع لمى شحادة: الاستعمار الاستيطاني وتدمير طبيعة فلسطين الجغرافية 

"تخطيط المياه شكل أداة مركزية من بين المحاور التخطيطيّة العديدة، التي وُظّفت سياسيًّا منذ بدايات الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين، حيث واجه تخطيط المياه الإسرائيليّ الطبيعة أوّلًا فطوّعها وغيّر نظامها"

حوار مع لمى شحادة: الاستعمار الاستيطاني وتدمير طبيعة فلسطين الجغرافية 

جفاف من الجهة الجنوبية للبحر الميت، عام 2021 (GIL COHEN-MAGEN/AFP via Getty Images)

في مقال لها بعنوان "حين يعطش الغرباء: التخطيط والإدارة الصهيونيّة للمياه وتخريب طبيعة فلسطين"، كتبت مخططة المدن لمى شحادة، أن الحركة الصهيونيّة لم تبن مستوطنات فقط، بل خطّطت دولة بكامل مركّباتها على أرض فلسطين، حيث حمل مهندسوها القادمين من الغرب، والّذين لم يعيشوا المكان، الخرائط والأقلام، ورسموا خطوطًا على الورق، خلال بضع سنوات، تحولت هذه الخطوط إلى مشاريع مياه وشوارع وأراضٍ زراعيّة ومناطق صناعيّة، تشقّ وجه الأرض من شمالها إلى جنوبها؛ لتؤمّن الهيمنة العسكريّة والسياسيّة للمشروع الصهيونيّ.

وتشير شحادة إلى أن تخطيط المياه شكل أداة مركزية من بين المحاور التخطيطيّة العديدة، التي وُظّفت سياسيًّا منذ بدايات الاستيطان الصهيونيّ في فلسطين، حيث واجه تخطيط المياه الإسرائيليّ الطبيعة أوّلًا فطوّعها وغيّر نظامها؛ مصيبا عمق ارتباط الإنسان الفلسطينيّ ببيئته الطبيعيّة.

وقد احتاج التطرّف التخطيطيّ الإسرائيليّ، والّذي رافقته هجرة ملايين اليهود إلى فلسطين، كما كتبت، إلى تنظيم وإدارة ناجعة للمياه، كي يضمن وصولها إلى كلّ أطراف مشروعه، وتوزيعها حسب أولويّاته وإستراتيجيّته، كما عملت دولة إسرائيل في بداياتها على السيطرة على المياه.. وسُنّ قانون إسرائيليّ جديد عام 1959، حوّل المياه إلى ملك عامّ للدولة، تدير شؤونه سلطة المياه الحكوميّة، ويمنع استعمال أيّ مصدر مياه بلا موافقة السلطة.

ويواصل المقال شرح كيفية انتقال التعامل مع المياه من مصدر حيوي لحياة وتطور الانسان الفلسطيني على أرضه إلى وسيلة لتغذية حاجات الاستيطان الصهيوني المتزايدة، مشيرة إلى الاستغلال الزائد والضخّ والاستهلاك المبالغ فيه للمياه الذي أدى إلى جفاف البحر الميّت، وخفض مستوى المياه في بحيرة طبريّة، وكيف أدّى هذا الأمر إلى تغيير مجرى العديد من الأنهر والروافد، المنتهية في البحر الميّت.

ولم يقتصر الضرر الذي سببه الاستيطان الصهيوني على الأرض والبيئة الفلسطينية، بل طاول الإنسان أساسًا، إذ صادرت مشاريع المياه أراضي فلسطينيّة في المناطق المحتلة عام 1948، ومرّت من خلالها دون أن ترويها، بل روت الأراضي الزراعيّة الواسعة في البلدات اليهوديّة؛ ما أدّى إلى عدم قدرة الفلسطينيّ على الاعتماد على زراعات الريّ كغيره، وعدم قدرته على منافسة رأسماليّة سوق الزراعة الإسرائيليّة، الّتي تملك المساحات والمياه، وتهدّد برأي الباحثة ما تبقّى للفلسطينيّ من مساحات مفتوحة، بعد أن خنقه التخطيط الإسرائيليّ، في بلدات مكتظّة جدًّا، لا تتعدّى مساحتها الـ 3%.

لإلقاء المزيد من الضوء على هذا الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع مخططة المدن لمى شحادة.

عرب 48: المياه كانت في رأس أولويات الاستيطان الصهيوني لأنها مورد أساسي يستوجب السيطرة عليها وإعادة توزيعها وفق حاجاته الاستعمارية؟

شحادة: عملية التخطيط التي شملت الأرض والموارد بدأت بوقت مبكر، وكان أحد أهدافها إثبات أن فلسطين قادرة على استيعاب هجرة يهودية بأعداد كبيرة، وإقناع الانتداب البريطاني، خصوصًا بعد صدور الكتاب الأبيض الذي حدد أعداد المهاجرين، بأن هذه البلاد قادرة على استيعاب كميات كبيرة من المهاجرين.

شرعت الحركة الصهيونية في تخطيط وتنفيذ مشاريع تكنولوجية شبيهة بمشاريع كان يجري تنفيذها في العالم آنذاك، وتمحوروا في الأرض والمياه نظرا لطبيعة الاستيطان الزراعي، فجلبوا مهندسين أوروبيين لهذا الغرض، وكانوا يتحدثون حينها عن نهر الليطاني، ونهر اليرموك، ونهر الأردن، وكيفية استثمار مياه هذه الأنهر وتحويلها ونقلها جنوبا حتى النقب.

لمى شحادة

"الحلم الصهيوني" وقتها لم يعرف أو يعترف بحدود، وفي النهاية وقع الاختيار على نهر الأردن، وكان التخطيط بداية بأن يتم حرف مسار هذا النهر من الشمال من جسر "بنات يعقوب"، وكان مقررًا في إطار هذا المخطط أن يتحول سهل البطوف الى بحيرة لتجميع المياه، وهو ما يتطلب نقل أهالي قرية كفر مندا التي ستغرق بالمياه إلى مواقع أخرى. وفعلا صدرت أوامر إخلاء لأهالي كفر مندا في عام 1954، ووقعت مواجهات مع الحكم العسكري أسفرت عن مصابين ومعتقلين بين الأهالي، الذين تصدوا لهذه الأوامر ودافعوا عن بقائهم وبيوتهم، وهي أول صدامات تحدث بين الحكم العسكري والأهالي في مناطق 1948 بعد النكبة، وقد عرفت بـ"يوم أوري" نسبةً إلى المدعو أوري كوهين، الذي عمل مع شركة المياه الإسرائيلية "مكوروت"، وحاول تمرير مخطط ترحيل أهالي كفر مندا، وهو رجل مخابرات سابق عاش في فلسطين قبل النكبة واتقن اللغة العربية، وقد استقطبته الحركة الصهيونية بالعمل لصالحها في عدة دول عربية؛ لكن في النهاية المخطط لم يمر بسبب الصدام مع السوريين.

وفي المشروع البديل، أخذوا بحيرة طبرية كمجمع مياه طبيعي قائم، وهناك بنوا مضخات مشروع المياه القطري الذي سار بنفق تحت قرية عيلبون وقنوات وأنابيت مرت من سهل البطوف واتجهت جنوبًا نحو النقب. والمفارقة أن هذه القنوات مرت في سهل البطوف دون أن تروي أراضيه التي يعتمد أصحابها حتى اليوم على الزراعة البعلية.

عرب 48: هم ما كانوا ليتورعوا بإغراق قرية عربية وترحيل سكانها منها لتنفيذ مشاريعهم الاستيطانية، إضافة الى مصادرة مئات الدونمات من الأراضي العربية في البطوف لتمرير قنوات وأنابيب المياه، دون أن يفكروا حتى بري ولو مساحات قليلة من هذه الأراضي من باب التعويض؟

شحادة: هي العقلية الاستعمارية التي لا تقيم أدنى وزن للسكان الأصليين ومصالحهم، وتجدر الإشارة في هذا السياق إلى أنه حتى عام 2008 كانت نسبة 12% فقط من الأراضي العربية مروية، كما كان أصحاب تلك الأراضي يعانون من تقنين في المياه التي كانت تصلهم بالقطارة، كما يقولون.

ربما اليوم بعد انخفاض مكانة الزراعة، يحظى المزارعون العرب بحصص مياه أكبر، ولكن هذا لا يغير من حقيقة أنه على مدى 60 سنة لم نستطع أن ننافس الزراعة اليهودية، فقد صادروا الأرض وصادروا مصادر المياه واحتكروها لإعادة توزيعها وفق احتياجات الاستيطان.

وقد مكن قانون المياه لعام 1959 الدولة من إحكام سيطرتها على مصادر المياه الجوفية والسطحية ومياه الأمطار، وصدرت في أعقاب سنه أوامر بهدم جميع المنشآت المائية الخاصة، وأصبح جميع السكان يشترون المياه من الدولة، التي لم تقم بتوزيع هذا المورد الطبيعي الأساسي بشكل عادل بين العرب واليهود، إذ ما زال يُحرم الآلاف من القرى العربية غير المعترف بها في النقب من وصول المياه إلى بيوتهم، مثلما تُحرم مساحات شاسعة من الأراضي العربية من مياه الري.

عرب 48: طبعا، الحديث عن الداخل لأن الوضع في الضفة والقطاع حدث ولا حرج؟

شحادة: أتحدث عن الداخل لأن الضفة موضوع مختلف، فهناك يوجد عطش، وعندنا في الداخل لا يسمونها سرقة بل وكأنه حق طبيعي للدولة، لكن لا فرق بين المناطق المختلفة في فلسطين التاريخية فالسرقة واضحة، الفرق فقط في آليات السيطرة والسرقة.

في الحالتين تجري سرقة الأرض والمياه لصالح الاستيطان، وظُلمنا كفلسطينيين بمصادرة نمط حياتنا الذي كان يقوم على الأرض والزراعة وتحويلنا إلى يد عاملة رخيصة في مستوطناتهم، حيث صادروا الأرض الزراعية وقاموا بتحريش الجبال وتسييجها بعد أن أخضعوها لسلطة "كيرن كييمت"، وحرموا ماشيتنا من المراعي وبذلك حرموا الأرض من السماد الطبيعي ولوثوها بالسماد الكيماوي.

في سهل البطوف مثلا، عدا عن رفض السلطات الإسرائيلية ربطه بمشاريع الري، فإن ثلث مساحته تغرق سنويًا بسبب انعدام قنوات تصريف، لأنها لم توافق لسنوات طويلة على مخططات لإقامة قنوات تصريف. ومن المفارقة أن حجة إسرائيل اليوم هي أنها تريد الحفاظ على البيئة الطبيعية التي تتشكل في هذا "المستنقع"!

كأنهم أصبحوا اليوم بعد أن أسسسوا أنفسهم وبنوا دولتهم من كبار المحافظين على البيئة، خصوصًا عندما يكون من يدفع الثمن هم العرب.

عرب 48: هم من جففوا الحولة ودمروا البيئة الطبيعية التي كانت تتألف من عشرات الكائنات الحية من طيور وزواحف وأعشاب ونباتات وغيرها، وهم من جفف مستنقعات الساحل ودمروا الشاطئ الفلسطيني وبنوا منطقة "غوش دان"، ويدعون أن تصريف مياه البطوف يخرب البيئة الطبيعية؟

شحادة: الآن بمقدورهم أن يقولون لقد اخطأنا بعد أن اصبحوا يعتمدون على الهايتك والصناعات الدقيقة؛ خذ مثال الكسارات التي كانت تحصر القرى والمدن العربية ونتنفس غبارها، وجرى نقلها إلى الضفة وأصبح الداخل وكأنه دولة نظيفة خضراء ومحافظة على البيئة.

عرب 48: لقد نقلوا كل لوثهم إلى الضفة؟

شحادة: نعم، حتى قبل سنوات عندما كان عانت إسرائيل من نقص في المياه، لم تكن لديها مشكلة في القيام بأسوأ وأضخم مشاريع مياه، وأن تجفف كل شيء. على سبيل المثال، فأن نهر العوجا ( اليركون بتسميته الصهيونية) يجري فيه اليوم 2% فقط من كمية المياه التي كانت تجري فيه في السابق.

أعمال مد مشروع المياه القطري قرب إيلات (أرشيف شركة مكوروت)

عندما يتم استهلاك كل المياه الجوفية تبدأ منابع الأنهر بالنضوب وتتسرب مياه البحر إلى الآبار الجوفية وتلوث الأرض بملحها. وكل هذه المشاريع التي أقيمت في الستينيات والسبعينيات، على غرار مشروع المياه القطري، إذ علينا ألا ننسى أن مياه بحيرة طبرية هي مياه مالحة نسبيا وعندما يجري نقلها من بيئة إلى بيئة أخرى يساهم ذلك في زيادة ملوحة التربة، ناهيك عن أن الزراعة اليوم تعتمد على المياه المكررة، كما زاد تجفيف الحولة من ملوحة بحيرة طبرية، بالإضافة إلى أنهم استوطنوا الأراضي المجففة وزرعوها وهذا أدى إلى خلل في التوازن البيئي.

هذا عدا عن الجفاف الذي أصاب البحر الميت بسبب جفاف نهر الأردن، الذي لم يعد يصل إليه بسبب إقامة سد "دغانيا" الذي حصر مياه بحيرة طبرية لغرض نقلها إلى النقب، إذ خسر البحر الميت حتى اليوم ثلث مساحته.

عرب 48: تتحدثين عن تغيير في البيئة والجغرافية الطبيعية لفلسطين، أصاب الأنهر والبحيرات والبحار التي لم "يرحمها" الاستيطان الاستعماري...

شحادة: صحيح، حصل تغيير بيئي عميق؛ فمثلا عندما يتم تجفيف ينابيع وبحار، فإن الطبيعة تخسر جميع الأنماط التي تعيش حول هذه الينابيع والبحار؛ وعندما يتم تغيير مجرى الأنه، فإن ذلك قد يؤدي إلى سيول وفيضانات. كما تستهدف إقامة المستوطنات الزراعية وتشجير الصحراء السيطرة على الأرض وهو ما يغير من البيئة الصحراوية ويفاقم الخلل في التوازن البيئي. فالزراعة نمط يستخدمه الإنسان كمصدر للمعيشة، فيما وظفه الإسرائيليون للاستيطان والسيطرة على الأرض، فقد استهلكت الزراعة في سنوات الثمانين 90% من كمية المياه، كما أدى الاستغلال الزائد لمصادر المياه إلى تدمير وتخريب بنى طبيعية كاملة، شكلت معالم أساسية في جغرافية فلسطين.


لمى شحادة: مهندسة معماريّة ومخطّطة مدن حاصلة على البكالوريوس في هندسة العمارة من معهد التخنيون في حيفا، وعلى الماجستير في تخطيط المدن من جامعة كورنيل في الولايات المتحدّة الأميركية. تناولت من خلال بحثها الأكاديميّ علاقة العمارة وتخطيط المدن بالهويّة، العدل التقسيمي، الصراعات البيئيّة والسياسيّة، والتكوّن الاجتماعي. عملت لمى في العمارة والتخطيط في الولايات المتّحدة، ثمّ في البلاد، حيث يتركّز عملها حاليًا على عدد من الخرائط الهيكليّة للبلدان العربيّة في الداخل.

التعليقات