25/07/2022 - 20:05

انتخابات ومعسكرات... أو البلادة السياسيّة

فشلت المشتركة في تقديم مشروع سياسيّ وطنيّ جماعيّ وديمقراطيّ، وانتهجت البلادة السياسيّة بعد الانتهازيّة السياسيّة والوطنيّة، فيما تسعى الموحّدة إلى تفتيت الجماعيّ وتحويله إلى صراع اجتماعيّ داخليّ، ومشروع انخراط في الإجماع الصهيونيّ

انتخابات ومعسكرات... أو البلادة السياسيّة

النائبان، عبّاس وعودة (Getty Images)

ما يهمّ رؤساء القائمتين العربيتين في الكنيست هذه الأيام هي لعبة المعسكرات، فالمشتركة ستستمرّ في تقديم حزام الأمان لأيّ مرشّح بديل لبنيامين نتنياهو في رئاسة الحكومة، وخصوصًا يائير لبيد، عِوضًا عن طرح مشروع سياسيّ وطنيّ؛ أما القائمة الموحّدة فهمّها الاستمرار في تقديم التنازلات، لشرْعنة وجودها في نظر اليمين الاستيطانيّ المتطرّف في أيّ تحالف مستقبليّ.

تدرك المشتركة بقيادة الجبهة أن المعسكر المناوئ لنتنياهو، بيمينه ويساره، غير قادر على تشكيل ائتلاف حكوميّ في كلّ الأحوال، لكنّ السيناريو الممكن هو أن توصي على لبيد لتشكيل الحكومة، بدون أن يحقِّق له ذلك أغلبيّةَ 61 صوتًا، وبذلك قد يتفوّق على بيني غانتس في عدد الموصين بتوكيله لتشكيل الحكومة، مع إدراكها أنّ الاستطلاعات الأخيرة، لا توفّر لنتنياهو 61 مقعدًا.

ووفق هذا السيناريو، فتماما كما أوصت المشتركة على لبيد الذي أوكل نفتالي بينيت بتشكيل الحكومة؛ فإنّ لبيد قد يوكل غانتس بهذه المهمة في حال فشل نتنياهو في تشكيل حكومة، وعدم قدرته (لبيد) على تشكيل حكومة، وهو السيناريو الذي يعوّل عليه غانتس وساعر في تحالفهما الجديد، بأنّه في هذه الحالة، سوف يحاول غانتس استقطاب نواب حريديّين لدعم حكومة محتمَلة برئاسته، وبدعم من لبيد، بعدما حصل على توصية نوّاب المشتركة.

ذلك كلّه يبقى في إطار التحليل وليس بالضرورة أن يتحقّق، لكن هذه هي الحسابات لدى قادة القائمتين العربيّتين، فقد أصبح مصير رأسَيْهما مرتبطًا بالنسبة للمشتركة بشرعيّتها أمام لبيد وغانتس وساعر وليبرمان، وبالنسبة للموحدة، بات مصير رأسها معلّقًا بمدى شرعيّتها أمام بن غفير وسموتريتش.

وهذا ما يفسّر صمت القائمة المشتركة مثلًا، إزاء تصريحات لبيد مؤخرًا بأنه لا يعترف بحقوق جماعيّة متساوية للمواطنين العرب، وإنما بحقوق فرديّة متساوية مع اليهود، وهو موقف نتنياهو الذي عبّر عنه في "قانون القوميّة" أو "الدولة اليهوديّة". ولا يمكن تفهُّم صمت القائمتين العربيتين إزاء تصريحات لبيد في مؤتمر عن الليبراليّة الديمقراطيّة في تل أبيب، الأسبوع الماضي، بأنه يرفض التحالُف أو الحصول على دعم من دعاة دولة كل المواطنين من جهة، ودعاة الترانفسير للعرب من جهة أخرى (المقارنة بحدّ ذاتها قمة في الخساسة والعنصريّة معًا)، أي "المتطرفين من الجهتين" بحسبه، وأن إسرائيل ستبقى دولة يهوديّة وديمقراطيّة. وهذا الصمت المتعمَّد من قِبل المشتركة تحديدًا، يعني التضحية بمواقف مبدئيّة مثل رفض يهوديّة الدولة، وتحويل الموقف المبدئيّ المُطالِب بالحقوق الجماعيّة للمواطنين العرب، إلى ورقة في لعبة المعسكرات؛ بل أبعد من ذلك، فإنّ التسليم بيهوديّة الدولة ولو بالصمت، يعني قبولا بنظام الفصل العنصريّ القائم ما بين البحر والنهر، والقبول بدونيّة الشعب الفلسطينيّ كجماعة قوميّة مقارَنة بالإسرائيليين اليهود. أي إنه تسليم بالفصل العنصريّ وبـ"قانون القوميّة".

ليست هذه تفاهةَ أو بلادةَ الشرّ، بل هي البلادة السياسيّة التي تمارسها القائمتان العربيتان في السنوات الأخيرة، والانتقال من التمثيل السياسيّ الجماعيّ للعرب الفلسطينيين في إسرائيل (وعلى أساسه أُقيمت المشتركة)، إلى البلادة السياسيّة التي تضحّي بكل موقف مبدئيّ وتحوله إلى مناورة انتخابيّة في لعبة المعسكرات الصهيونيّة، كأنّه حُبّ من طرف واحد.

حاولت السلطة الإسرائيليّة الحاكمة، السياسيّة والأمنيّة، طيلة عقود، منذ محاولات منع حركة الأرض وحتى التجمّع الوطنيّ الديمقراطيّ، من خوض الانتخابات البرلمانيّة، بسبب مواقفها المبدئيّة الرافضة ليهوديّة الدولة واعتبار المواطنين العرب جماعة قوميّة وجزءًا من الشعب الفلسطينيّ. لكن منذ تأسيس المشتركة وانشقاق الموحدة عنها، لم تعُد السلطة بحاجة لهذا المجهود القضائيّ والأمنيّ لنزع البُعْد الوطنيّ والديمقراطيّ الحقيقيّ عن القوائم العربيّة وعملها السياسيّ والبرلمانيّ، فها هي المشتركة والموحّدة تقدِّم التنازل بعد التنازل، إما مباشرة أو بالصّمت، عن المبادئ والثوابت الجوهريّة، الوطنيّة (الحقوق الجماعية) والديمقراطيّة (رفض يهوديّة الدولة والفصل العنصريّ)، بهدف إيجاد شرعيّة لها للبقاء على قيد الحياة، مرّة أمام لبيد وغانتس وساعر، وأُخرى أمام بن غفير وسموتريش. ثم يسألونك: لماذا عزف الناس عن التصويت والمشاركة السياسيّة، ولماذا تندثر الحياة الحزبيّة والسياسيّة والفعاليّات الوطنيّة؟ إنها نتيجة البلادة السياسيّة.

هذا كلّه انعكس وسينعكس على واقعنا كمواطنين وغير مواطنين، أي الفلسطينيين ما بين البحر والنهر، إذ يعزِّز تفوُّق جماعة على جماعة، ويعزٍّز الجماعة اليهوديّة على الجماعة العربيّة على طرَفَي ما يُسمّى الخطّ الأخضر. ليست اللعبة لعبة معسكرات، بل جماعات، ومصير شعب يتّفق المعسكران الصهيونيّان على ضرورة الإبقاء على دونيّة "جماعتنا"، أي الشعب الفلسطينيّ.

فشلت المشتركة في تقديم مشروع سياسيّ وطنيّ جماعيّ وديمقراطيّ، وانتهجت البلادة السياسيّة بعد الانتهازيّة السياسيّة والوطنيّة، فيما تسعى الموحّدة إلى تفتيت الجماعيّ وتحويله إلى صراع اجتماعيّ داخليّ، ومشروع انخراط في الإجماع الصهيونيّ. بين هذين الطريقين لا بُدّ من طريق ثالث، لكن يجب ألّا يكون على طريق "شرف القبيلة" أو هيبتها (والقبيلة هنا استعارة مجازيّة)، بل يجب أن يحمل رؤية جديدة لتدشين مرحلة جديدة، وليس بالضرورة في سياق انتخابات الكنيست ولا تحت سقفه، لأن "هيبة القبيلة" ليست مشروعًا سياسيًّا ولا انتخابيًّا، وإنما إعادة تدويرٍ للأزمة واللعب في الملعب نفسه، ووفق قواعده السياسيّة والانتخابيّة.

التعليقات