السّم بالعسل: مخاطر الخطة الحكومية لمحاربة الجريمة

تشكل نسبة العنف والجريمة نحو 8 أضعاف مثيلتها في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وأكثر من 5 أضعاف المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، ما يشير إلى وجود سياسات خاصة جرى انتهاجها على يد دولة اسرائيل، منذ تأسيسها، أدّت للتفاقم الحاد والملحوظ

السّم بالعسل: مخاطر الخطة الحكومية لمحاربة الجريمة

تسلمت الحكومة الإسرائيلية منذ عدة أشهر مسوّدة تقرير من 76 صفحة أعدته لجنة من مديري عدة وزارات، من المفترض أن ينتج عنه خطة حكومية لمحاربة العنف والجريمة في المجتمع العربي في الداخل. تشكلت هذه اللجنة في أعقاب مطالبات قيادة المجتمع العربي والمظاهرات الغاضبة في نهايات العام 2019، الذي وصلت فيه الجريمة إلى مستويات غير مسبوقة. ورغم تضمنه لبعض من الأدوات التي قد تساهم في محاربة الجريمة، إلّا أن التقرير يشمل مشاكل عديدة، تجدر مناقشتها على المستوى السياسي والجماهيري. وسأعرض باختصار مجموعة منها هنا.

منطق استعماري يميني

تتنصّل الحكومة الإسرائيلية من أي مسؤولية عن الوضع الذي وصلت إليه الجريمة في المجتمع العربي، وتُظهِر سطور التقرير أن المسؤول عن العنف والجريمة هو المجتمع نفسه. هذا الخلل المركزي في تحليل الظاهرة هو الأساس للخلل في الكثير من الحلول العينية المطروحة لاحقًا. في الدول الطبيعية، تتحمل الحكومات المسؤولية عن ازدياد نسبة العنف والجريمة، لأن ذلك مرتبط بشكل مباشر بسياساتها الاقتصادية والاجتماعية والعمرانية والشرطية وغيرها، فما بالك عندما يتعلق الأمر بدولة ذات بنية وسياسات عنصرية استعمارية تجاه المجموعة التي ينتشر فيها العنف.

تستخدم قوى اليمين، في أنحاء العالم، منطق تحميل الناس مسؤولية العنف لتتنصّل هي من مسؤولية الدّولة على العنف الفردي. في المقابل، تُشدد القوى التقدمية، إن لم نقل العقلانية، على الدّور الرئيسي الذي تلعبه البنى السياسية والاقتصادية وغيرها، أو حسب ما يسميه عالم الاجتماع يوهان غالتونغ بالـ"العنف البنيوي" الذي يؤدي للعنف الشخصي. فمثلًا، تشكل سياسات إفقار الناس من ناحية، وتحويلهم لكائنات استهلاكية، منزوعة المعنى والإرادة السياسية، سببًا مركزيًا وبنيويًا للعنف.

"ما يحاول التقرير فرضه بحجة محاربة الجريمة هو التوصية على استخدام وسيلة هدم البيوت غير المرخصة لمحاربة المنخرطين بالجريمة، وهو ما سيؤدّي مستقبلًا لشرعنة هذه الآلية الخطيرة في حال قبلها المجتمع العربي"

في حالة فلسطينيي الداخل، تشكل نسبة العنف والجريمة نحو 8 أضعاف مثيلتها في المجتمع اليهودي الإسرائيلي، وأكثر من 5 أضعاف المجتمع الفلسطيني في الضفة الغربية، ما يشير إلى وجود سياسات خاصة جرى انتهاجها على يد دولة اسرائيل، منذ تأسيسها، أدّت للتفاقم الحاد والملحوظ للعنف والجريمة. لا يعترف التقرير الحكومي المتداول بوجود أي من هذه السياسات، إلّا على مستويات هامشية. فلنأخذ مثلًا "أزمة السكن"، التي يجري عرضها فقط من خلال التركيز على صعوبة تسجيل الأراضي في الطابو، وهو ما يصعّب عملية الحصول على قرض إسكان (مشكنتا)، وبالتالي توجّه الناس لقروض السوق الرمادية والسوداء. لكن التقرير لا يتطرّق للمشكلة الأساس، وهي أن البلدات العربية تحوّلت إلى مكعبات سكانية مكتظة، مسلوبة الحيّز العام، وتفتقر للحدائق والأماكن العامة، نتيجة للسياسات والقوانين التي صادرت الأراضي، وضيّقت الحيز ولا تسمح، حتى اليوم، بتوسيع طبيعي لمسطحات البلدات العربية؛ لتكبر القرى الصغيرة وتصبح بالشكل الهجين الذي هي عليه اليوم. سوء التخطيط هذا، أو للدقة، التخطيط العدائي، الذي مارسته السلطات على مدار السنوات، هو ما أدى لخلق حيّز عام ضيّق وعنيف، وبيئة خصبة للجريمة. وهو ما لا يتم تناوله البتة من خلال الخطة الحكومية، على غرار سياسات أخرى عديدة، تم تجاهلها تمامًا.

هدم في قلنسوة، الأسبوع الجاري (عرب 48)

القبضة الحديدية بديلاً من السياسات الاجتماعية

لا تُميز الخطة بين محاربة الجريمة المنظّمة والجريمة غير المنظّمة ومحاربة العنف. في حالة الجريمة المنظّمة، كل ما تحتاجه الشّرطة قرارًا واضحًا مدعومًا بوحدة مختصّة بمحاربتها، تحصل على ميزانيات وتكون هذه مهمتها. وقد أثبتت الشرطة كفاءتها في محاربة الجريمة المنظّمة في المدن اليهودية في العامين 2005-2006، عندما اتخذت الحكومة قرارًا بذلك. أما في المجتمع العربي، ليس فقط أنّ الشرطة تتقاعس بمحاربة الجريمة، بل إن الشرطة، في تعريفها لذاتها وبتعاملها، تعرّف العرب على أنّهم عدو، وتلعب دورًا مركزيًا في ملاحقتهم، وقمع نشاطهم السياسي، ناهيك عن قتلها لأكثر من 50 شابًا منذ تشرين الأول/ أكتوبر 2000، دون تقديم أفرادها المتورطين بالقتل للمحاكمة، في رسالة واضحة لرؤيتها حول مكانتهم.

وأما في ما يتعلّق بالعنف والجريمة غير المنظّمة، فإن علاجها لا يمكن أن يكون بواسطة تشديد "القبضة الحديدية"، وزيادة أدوات الرقابة على المجتمع، بل بزيادة السياسات الاجتماعية التي تحد من الظواهر المؤدية للعنف. مثلا، قد تؤدي زيادة "إنفاذ القانون" العشوائية إلى زيادة عدد العرب في السجون، وزيادة عدد سنواتهم فيها، رغم أن نسبتهم اليوم تزيد عن 40% من مجمل السجناء، أي أكثر من ضعف نسبة تعدادهم السكاني. في المجتمعات التي تعاني من مستويات ونوعيات جريمة تتشابه إلى حد ما مع حالة مجتمعنا (مثلًا الولايات المتحدة)، تعتبر النسبة المرتفعة للأميركيين من أصل أفريقي في السّجون، بمثابة إدانة للسّلطات، وعادة ما تُطالَب السّلطات بإيجاد حلول اجتماعية اقتصادية، وليس زيادة التجريم وسنوات الحبس، إذ إنّ القبضة الأمنية لا تساهم بالضرورة في تخفيف الجريمة، بل من الممكن أن تفاقمها؛ فمثلًا زيادة عدد السنوات في السجن معناه زيادة عدد السنوات التي يعيش بها الأبناء دون آبائهم، وبالتالي زيادة احتمال دخولهم هم، أي الأبناء، للسجن.

في المقابل، ما يجب على الحكومة فعله في هذا الإطار، هو أولًا، سياسات اقتصادية اجتماعية تدعم الطبقات الضعيفة وتحدّ من الانخراط في دوائر العنف والجريمة؛ وثانيًا، ضخّ ميزانيات لإعادة التأهيل للسجناء، إذ تشير معطيات سلطة تأهيل السجناء إلى أنّ ما بين 42% - 65% من السجناء الذين جرى تحريرهم يعودون للسجن خلال أقل من ثلاث سنوات، وأنّ 80% يعودون للجريمة بعد ثلاث سنوات. أمّا المعطيات المُبشّرة، فهي أنّ 20% فقط من السجناء الذين ينخرطون في برامج إعادة تأهيل، يعودون مجددًا لدائرة الجريمة.

ورغم أن التقرير يتطرّق لبعض الجوانب الاقتصادية والتربويّة وقضايا الرفاه الاجتماعي، إلّا أنّ ثِقل الخطة الأساسيّ مرتكز في عملية "إنفاذ القانون"، إذ تقتصر المقترحات على خطط ومشاريع قائمة دون طرح تجديدات وآليات تقييم، وهو ما يدلّ على هامشيتها في سياق التوجه العام لهذه الخطة. يُستثنى من ذلك التشديد على ضرورة زيادة تشغيل الشباب العرب، غير المنخرطين في سوق العمل أو أية أطر أخرى. على الرغم من أهمية هذا الجانب، وضرورة التعامل معه بشكل جدي، إلا أن المقترح في سياق الخطة الحالي يندرج ضمن المنطق الأساسي في تعامل الحكومة مع فلسطينيي الداخل في السنوات الأخيرة، إذ تعتبر "زيادة التشغيل" الحل تقريبًا لجميع المشاكل. والحقيقة أن زيادة نسب التشغيل هو الحل للاقتصاد الإسرائيلي، وليس بالضرورة لكل مشاكل المجتمع العربي. وحتى لا نتوسّع كثيرًا في هذه القضية، نشير إلى أنّ المنخرطين في الجريمة لم يتوجّهوا لها لانعدام إمكانية التشغيل، بل لأن الوظائف والأجور المعروضة على شباب دون تمكين مهني أو علمي، لا تتنافس مع المقابل الذي تعرضه منظمات الجريمة عليهم.

السّم في العسل

لم يعُد خافيًا أن الحكومة الإسرائيلية تسعى لاستغلال ضائقة العنف والجريمة لفرض أمور سياسية، رفضها المجتمع العربي على مدار السنوات الأخيرة. بدءًا بمشاريع الأسرلة الكثيرة في الخطة، مثل "الخدمة المدنية"، والتي عرّفها مجتمعنا بأنها بداية الطريق للانخراط في جيش الاحتلال؛ واستمرارًا بتجنيد الشباب العرب للشرطة الإسرائيلية، والتي يعترف التقرير أن الهدف منها ليس محاربة الجريمة المنظّمة بل زيادة الأسرلة وخلق نماذج "إيجابية" من خلال التجنيد للمؤسسات الأمنية. أو كما جاء في صفحة 44 من التقرير: "يوصي الطاقم باستمرار الجهد لتجنيد رجال الشرطة المسلمين لشرطة إسرائيل، (...) من أجل التأكد من أن هذه الخطوة تحقق الإمكانات الكاملة بما يتعلق بتقليص الاغتراب بين المواطنين العرب ودولة إسرائيل، وخلق نماذج إيجابية يقتدي بها الشباب".

بالرغم من تشديد التقرير في مقدمته على أهمية عدم تكرار الخطط الحكومية التي لم تنجح، وبلغة التقرير عدم تكرار ذات الأدوات "More of the Same"، إلّا أنّه يعود على طرح إقامة محطّات شرطة جديدة، ثبت عدم نجاعتها في محاربة الجريمة؛ بل إنّه في بعض البلدان تصاعدت الجريمة بعد إقامة محطات شرطة فيها. ورغم أن التقرير ذاته يعترف بعدم تراجع الجريمة في البلدات التي أقيمت فيها مراكز شرطة نتيجة للقرار 1402، فإنه يقترح زيادة مراكز الشرطة، وتبذير الميزانيات الهائلة لإقامتها وهو تكرار لخطط فاشلة.

وفق إحصائيات حتى كانون الثاني/ يناير 2020

في السياق ذاته، تبدو آلية نشر الكاميرات للوهلة الأولى طبيعية، ولكنها في الحقيقة، محاولة إضافية للشرطة للتغطية على تقاعسها، وعدم قيامها بواجبها بأخذ التحقيقات بجديّة. إذ لا تقوم الشرطة في كثير من الأحيان بأبسط العمليات التحقيقية التي من شأنها الكشف عن عمليات قتل (مثل عدم تفتيش بيوت المشتبهين بالقتل بشكل فوري). يُضاف إلى ذلك، أن استخدام هذه الوسيلة دون دراسة جديّة لها قد تؤدّي لنتائج وخيمة؛ إذ وجدت مجموعة من الدراسات (منها دراسة موسّعة لمنظمة ACLU الحقوقية الأميركية، وأخرى لوزارة الداخلية البريطانية)، أنّه بالإضافة لانتهاك الحق بالخصوصية، فإن كاميرات المراقبة لم تقلل من نسب الجريمة بل غيّرت أماكن انتشارها، كما أُسيء استخدامها لأغراض عدةّ منها دوافع سياسية، خصوصًا في فترات التوتّر السياسي.

وما يحاول التقرير فرضه بحجة محاربة الجريمة هو التوصية على استخدام وسيلة هدم البيوت غير المرخصة لمحاربة المنخرطين بالجريمة، وهو ما سيؤدّي مستقبلًا لشرعنة هذه الآلية الخطيرة في حال قبلها المجتمع العربي. فلن تأتي الشرطة في المستقبل لسؤالنا أي بيت نريد أن نهدم، بل ستهدم البيوت غير المرخّصة المبنية على أراضٍ خاصة دون رادع، وستفقد قيادة المجتمع العربي شرعيتها إذا وافقت على هذه السياسة.

ختامًا، نحن أمام ثلاثة مستويات للتعامل مع الخطّة الحكومية. أولا، تعزيز الرفض القطعي للإملاءات السياسية المتعلّقة بالأسرلة وتشويه الهوية وخطط التجنيد؛ ثانيًا، مناقشة مفتوحة حول الأدوات التي تقترحها الحكومة لمحاربة الجريمة المنظّمة وغير المنظّمة والعنف، ودراسة كافة بنود الخطّة بشكل جدّي، ومعارضة وموافقة ما فيها من نقاط؛ ثالثًا والأهم، بناء مشروع مجتمعي مبني على الطاقات الكامنة في المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل، يكون حجر الزاوية في الحد من ظواهر العنف والجريمة.


وئام بلعوم، مركز مشروع بحث "العنف لدى الشباب العرب" في جمعية بلدنا

التعليقات