احتكار إسرائيل السلاح النووي والمشروع النووي الإيراني

من المتوقع أن يساهم تدريجيا وصول إيران ودولة أو دول عربية أخرى إلى دولة عتبة نووية إلى إمكانية وضع حد لاحتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة، ومن المرجّح أن يمتد تأثيره إلى المجتمع الإسرائيلي نفسه، ويساهم في تقريبه شيئا فشيئا

احتكار إسرائيل السلاح النووي والمشروع النووي الإيراني

منذ صنعت السلاح النووي في سنة 1968، شرعت إسرائيل في تطوير ترسانة كبيرة للغاية من الأسلحة النووية والهيدروجينية والنيوترونية، ودأبت، في الوقت نفسه، على امتلاك الطائرات والصواريخ، ثم الغواصات، التي بمقدورها إيصال ضرباتها النووية إلى أهدافٍ تبعد عنها آلاف الأميال. وطوّرت في العقود الماضية قدراتها النووية، فباتت لديها القدرة على توجيه الضربة النووية الثانية بواسطة الغوّاصات التي حصلت عليها من ألمانيا، وبنت، قبل أكثر من عقد، مركز قيادة وسيطرة محصنا ومحميا من الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى، لإدارة حرب نووية. ومنذ عدة عقود، بات احتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة جزءا من نظرية أمنها القومي. (للمزيد: محمود محارب، "سياسة إسرائيل النووية وعملية صنع قرارات الأمن القومي فيها"، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2013). وفي السياق نفسه، تأتي محاولات إسرائيل وضع حد للمشروع النووي الإيراني أو تجميده، كما كانت قد دمّرت المفاعل النووي العراقي في سنة 1981 والمنشأة النووية السورية في 2007.

من المفارقات أن إسرائيل التي كانت ولا زالت المحرّك الأساس للجهد الدولي ضد المشروع النووي الإيراني، تحت ذرائع مختلفة، أبرزها أنه يعرّض وجودها للخطر، ويشكّل خطرا على السلم العالمي وعلى استقرار المنطقة وعلى الدول العربية الخليجية، وأنه يفتح باب سباق التسلّح في الشرق الأوسط، قد تنخرط فيه السعودية ومصر وتركيا ودول أخرى؛ لا زالت، الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لم توقع اتفاقية حظر انتشار الأسلحة النووية، وهي نفسها الدولة الوحيدة التي أدخلت السلاح النووي إلى الشرق الأوسط، وفتحت بذلك سباقا للتسلح النووي فيه، وكذلك هي الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي تمتلك القدرة على الضربة النووية الثانية، ولديها مركز قيادة منيع ومحصّن ومجهز بأحدث التجهيزات لإدارة حرب نووية، وهو ما يتعارض مع ادّعائها إن المشروع النووي الإيراني يهدّد وجودها بالخطر. أضف إلى ذلك أنها الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط التي لم تحدّد حدودها السياسية دائمة التوسّع. وأيضا هي الدولة الوحيدة التي أقامت في 1948 وجودها على حساب شعبٍ آخر، ثم استكملت في 1967 احتلال وطن هذا الشعب، وما فتئت، منذئذٍ، في تعزيز استيطانها الكولونيالي اليهودي في المناطق المحتلة بغرض تهويدها، ومن ثم ضمها، وهي ترفض بشدّة الانسحاب من المناطق المحتلة مقابل سلام شامل ودائم مع الدول العربية، واختارت، منذ عقود طويلة، أن تكون دولة نظام أبارتهايد عنصري، في الوقت الذي كان العالم يسير في اتجاه التخلص من مثل هذه الأنظمة.

واضحٌ أن سعي إسرائيل إلى وضع حد للمشروع النووي الإيراني ليس مرتبطا بخطر هذا المشروع على وجودها، الذي ما انفكّت تتاجر في هذا الخطر المزعوم على الوجود بشكل ممجوج ودائم، منذ إنشائها، وإنما لأنه ينهي احتكارها السلاح النووي في المنطقة، ويعزّز من مكانة إيران الإقليمية والدولية جذريا، ويُحدث تغييرا إستراتيجيا في ميزان القوى في الشرق الأوسط، ويقيم واقعا جديدا تصبح فيه إيران دولة أكثر قوة ودورا ونفوذا في المنطقة، ما يمكّنها من تشكيل محور إقليمي قوي، قد يواجه إسرائيل، ويغير "قوانين الاشتباك" معها، وقد يحدّ من مكانتها ونفوذها ودورها في الشرق الأوسط.

مطلب خلو الشرق الأوسط من الأسلحة النووية هو الأفضل لجميع دوله وشعوبه. وبديهي ومفروضٌ أن يطبق هذا المطلب على جميع دول الشرق الأوسط، بما في ذلك وأساسا على الدولة التي ما انفكّت تحتكره منذ عقود طويلة، وأدّى احتكارها له إلى حضّ دول أخرى في المنطقة للسعي إلى امتلاكه وكسر هذا الاحتكار. ومن الأفضل، إن لم يكن من الضروري، معالجة الملف النووي الإيراني من هذا المدخل، ومن مبدأ عدم قبول احتكار دولة واحدة له في المنطقة، فلاحتكار دولة واحدة السلاح النووي في الشرق الأوسط نتائج خطيرة على سائر دول المنطقة التي قد يستعمل ضدها، وعلى الدولة التي تمتلكه، فالسلاح النووي، علاوة على أنه قوة تدميرية هائلة، هو أساسا سلاح ردع وسلاح سياسي إستراتيجي بالدرجة الأولى. وله تأثير سياسي ونفسي وإستراتيجي كبير للغاية على الدولة التي تملكه، وعلى الدولة أو الدول التي قد يوجّه ضدها. والواضح أن إسرائيل مصمّمة على استمرار احتكارها السلاح النووي في الشرق الأوسط أطول فترة ممكنة، وأنها ترفض بشدة التنازل عن احتكارها له بمحض إرادتها، على الرغم من أن وجودها لم يكن، في حقيقة الأمر، معرّضا للخطر طوال الصراع العربي الإسرائيلي.

الاستئثار بالأرض والسلاح النووي

ولو أن إسرائيل أعلنت، أو تعلن، أن الهدف من احتكارها السلاح النووي هو الحفاظ على وجودها في داخل حدود الرابع من حزيران/ يونيو 1967، وأنها ستنسحب من الأرض الفلسطينية والعربية التي احتلتها في حرب ذلك العام، واستجابت للمبادرة العربية لعقد سلام شامل ودائم بينها وبين الدول العربية، فلربما قبلت غالبية الدول العربية أو بعضها أو جميعها، ربما على مضض، احتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة إلى حين. ولكن إسرائيل تقوم بعكس ذلك تماما، فهي مصمّمة على الاستئثار بأهم عاملين في الصراع العربي الإسرائيلي، الأرض والسلاح النووي، وعدم التنازل عن أي منهما مقابل سلام شامل بينها وبين الدول العربية، فهي مصرّة على استمرار احتكارها السلاح النووي، ومصمّمة أكثر من أي وقت مضى على فرض السيادة اليهودية الإسرائيلية، بمختلف أنواع القوة، على كل أرض فلسطين، والاستمرار في تهويدها، وكذلك الاستمرار بالبطش بالشعب الفلسطيني، والتفنن في قتل أبنائه وبناته، وفي تعميق نظام الأبرتهايد العنصري البغيض في الدولة اليهودية يوما بعد آخر.

لقد بات لاحتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة تأثير هائل على نظرة النخب والأحزاب والمجتمع الإسرائيلي إلى إسرائيل وإلى قوتها. وعلى الرغم من قلة الدراسات الإسرائيلية التي تعالج مدى تأثير احتكار إسرائيل السلاح النووي على مجتمعها، وعلى أحزابه ونخبه، فإن دراسات إسرائيلية عديدة واستطلاعات للرأي العام تؤكد ليس فقط قدسية احتكار إسرائيل هذا السلاح في نظر المجتمع الإسرائيلي، وإنما أيضا تؤكّد تأثيره الكبير للغاية في دفع المجتمع، عاما بعد آخر، إلى تبنّي مواقف اليمينيْن، المتطرّف والفاشي، وتعاظم قناعاته بأن لدى إسرائيل فائض كبير للغاية من القوة الذي يمكّنها من المضي سنة بعد أخرى، وعقدا بعد آخر، لتحقيق أهدافها الإستراتيجية تجاه فلسطين، أرضا وشعبا، من دون لفت الانتباه إلى مواقف الفلسطينيين والدول العربية، فالمجتمع الإسرائيلي أصبح على قناعةٍ، منذ سنوات، بأن فائض القوة الذي تمتلكه إسرائيل يردع، من ناحية، الدول العربية من تقديم المساعدة الفعلية للفلسطينيين في مقاومتهم الاحتلال الإسرائيلي، ويمكّن إسرائيل، من ناحية أخرى، من إقامة نظام مراقبة وتحكم وسيطرة متعدد الجوانب والغايات، لإخضاع الفلسطينيين أفرادا ومجموعا، الكفيل بإحكام السيطرة عليهم وإخضاعهم للسيادة الإسرائيلية وحرمانهم من حقوقهم الجماعية والفردية، وبفرض ما تريده إسرائيل عليهم.

ولعل مدى تأثير احتكار إسرائيل السلاح النووي على النخب والمجتمع الإسرائيليين ينافس بقوة تأثيره على الدول العربية ويبزّه، فالمجتمع الإسرائيلي يحيط احتكار إسرائيل السلاح النووي بهالة من القدسية، فهو يعدّه من أهم عوامل فائض القوة التي تتمتع به دولته، وهو يعزّز من قناعته بفائض القوة الإسرائيلية أكثر أضعاف الأضعاف من التفوّق الإسرائيلي بالأسلحة التقليدية على الدول العربية. ليس هذا فحسب، فمع مرور السنوات والعقود تفشّى وتغلغل تأثير فائض القوة في صفوف المجتمع الإسرائيلي وقادته ونخبه أكثر فأكثر، ومع تقادم الزمن على هذا التأثير، وفي ضوء تخلّي جميع الدول العربية عن الخيار العسكري لتحرير الأرض المحتلة.

الإسرائيلي المتوسط، وهو مثل بقية البشر، يعمل ويعيش حياة عادية، يحب ويكره، وهو بعيد عن الصورة النمطية التي تحاول أن تصوره بعض وسائل الإعلام العربية. وقد يكون ودودا بشوشا أو غاضبا متبرما، وقد يستمتع بالموسيقى وأشياء كثيرة أخرى. وهو بقدر ما يثمّن حياته يسترخص حياة الفلسطيني، قتل الفلسطيني على مدار السنة أمر طبيعي وعادي بالنسبة له، وقد يقتل هو الفلسطيني أو يعذبه في معتقلات التحقيق، ويتفنن في إهانته، عندما يخدم في الجيش الإسرائيلي وفي أذرع الاحتلال الأمنية. وهو يتبنّى القيم والفرضيات الأساسية لمجتمع المستوطنين ولروايته التاريخية التي يتلقاها ويتلقنها، ويدعم سياسة حكومته ودولته اليهودية تجاه العرب والفلسطينيين. وفي أغلب الأحيان، يتخذ الإسرائيلي العادي مواقف أكثر تطرّفا من حكومته تجاه العرب والفلسطينيين. قيم حق تقرير المصير والمساواة والحرية والعدالة والسيادة وكرامة الانسان والكرامة الوطنية، هذه قيم للمجتمع الإسرائيلي فقط، فهذه الدولة يهودية، وهي دولة اليهود فقط التي تتسامح بقبول بقاء العرب فيها إلى حين. وهو في داخله يعدّ أن دولته اليهودية متسامحة جدا مع الفلسطينيين، فهو يسأل ذاته، وفي أحيانٍ كثيرة يقولونها علنا، لماذا لا تطرد إسرائيل الفلسطينيين كما طردتهم في 1948؟ من الذي يمنعها من هذا؟ ألا تمتلك القوة التي تمكّنها منه، من دون أن تتجرأ الدول العربية من فعل شيء جدّي لمنعها، أو بتدفيعها ثمن جريمتها لا يمكنها تحمله. لماذا لا تهدم المسجد الأقصى، أو على الأقل جزءا منه، مثل قبة الصخرة، وتقيم في مكانها هيكلا أو معبدا يهوديا؟ فهي لن تدفع ثمنا عاليا إن أقدمت على ذلك. نحو 60% من الإسرائيليين باتوا يؤيدون صلاة اليهود في المسجد الأقصى، ونسبة قريبة من ذلك تؤيد إقامة كنيس يهودي في الأقصى. (للمزيد: محمود محارب، سياسة إسرائيل تجاه الأقصى، مجلة سياسات عربية، العدد 19، آذار/ مارس 2016)

لا تميّز إسرائيل بين الدول العربية وإيران، وبين العرب والفرس، في ما يخص احتكارها السلاح النووي، فكما كانت هي المحرّض الأساس ضد العراق لفرض عقوبات قاسية عليه، وعلى غزوه وتدمير دولته، بذريعة حيازته أسلحة الدمار الشامل، فإنها كانت ولا زالت المحرّض والمحرّك الأساس ضد إيران في فرض أقصى العقوبات الأميركية والدولية المؤلمة والشاملة عليها، من أجل أن يقود ذلك إلى وضع حد لمشروعها النووي أو إسقاط النظام الإيراني. وهي التي دفعت إدارة الرئيس الأميركي السابق، ترامب، إلى الخروج من الاتفاق النووي، بغرض جرّ هذه الإدارة إلى حرب ضد إيران. ولم تكتف بذلك كله، بل شنّت، في العقدين الماضيين، هجماتٍ على إيران شملت استهداف منشآتها النووية بواسطة السايبر أو بالقنابل الموقوتة، وقتل العلماء الإيرانيين، والاعتداء على عشرات السفن التي تنقل النفط الإيراني، وقصف أهداف إيرانية بشكل متواصل في سورية، وفي بعض الأحيان في العراق، إلى جانب اعتداءاتها السيبرانية على مؤسّسات مدنية إستراتيجية إيرانية.

حدود القوة الإسرائيلية

لكن، على الرغم من كل جهد إسرائيل وفائض قوتها، يبدو أن ثمّة حدودا لما تستطيع القوة أن تحققه، خصوصا إذا قرّر الطرف الآخر مقاومتها، فقد فشلت إسرائيل في سياستها تجاه إيران وفي وضع حد لمشروعها النووي أو وقفه. صحيحٌ أنها عرقلته وأخّرته، وعرضت الشعب الإيراني لمعاناة شديدة للغاية، ولكنها فشلت من الناحية الإستراتيجية في مواجهتها للمشروع النووي الإيراني. كذلك يتّضح أكثر فأكثر أنها لا تملك حلا عسكريا للمشروع النووي الإيراني. نظريا لدى إسرائيل القدرة على توجيه ضربات عسكرية ضد منشآت المشروع النووي الإيراني الكثيرة والمنتشرة في عشرات المواقع المحصّنة في أماكن مختلفة في إيران. ولكن تأثير هذه الضربات سيكون محدودا وغير مجد، وقد تؤدي إلى نتائج عكسية في تبديدها للجهد الدولي تجاه المشروع النووي الإيراني من ناحية، وفي زيادة تصميم إيران على المضي في تطوير مشروعها النووي، علاوة على أن ذلك قد يؤدّي إلى نشوب حرب بين الطرفين، يتعرّض فيها العمق الإسرائيلي وأهداف إستراتيجية فيه، بما في ذلك ربما مواقع مشروع إسرائيل النووي، إلى قصف مباشر ودقيق من إيران ومن حلفائها في المنطقة. وهذا ما لا يرغب به أحد، وستكون نتائجه وخيمة على الجميع لا تحمد عقباها.

دولة عتبة نووية

وضعت إيران نصب عينها أن تكون دولة عتبة نووية، وهي توشك أن تكون كذلك، إذا لم تكن قد وصلت فعلا إلى ذلك. على أي حال، مصطلح دولة عتبة نووية مطاط وغير محدّد بدقة. ولكنه يعني، في المجمل، أن للدولة القدرة والمعرفة والتقنيات والمواد المطلوبة لإنتاج سلاح نووي في فترة قصيرة تمتد من عدة أسابيع إلى عدة أشهر، عندما تقرّر القيادة السياسية ذلك. ثمّة شبه إجماع بأن لدى إيران القدرة على إنتاج سلاح نووي خلال أقل من سنة، وثمّة من يدّعي أن في وسعها القيام بذلك، ليس في سنة وإنما في عدة شهور فقط، وبعضهم يدّعى أنها بحاجة إلى أسابيع فقط. عمليا، يدور جوهر المفاوضات الجارية بين إيران والدول العظمى حول الفترة التي تستغرقها إيران لصناعة السلاح النووي، هل هي بضعة شهور أو سنة أو أكثر أو أقل. ومن المرجح أن تتوصل إيران والدول العظمى إلى اتفاقٍ يضمن لإيران وضعا قريبا من دولة عتبة نووية. وإذا ما جرى ذلك سيكون إنجازا كبيرا لإيران، ففي هذه الحالة، تحتفظ بمشروعها النووي، باعتراف دولي، وستقترب مع مرور كل عام إلى تقصير الفترة لإنتاج السلاح النووي. وعلى الأغلب، ستصل إلى وضع في السنوات المقبلة إلى القدرة على كسر احتكار إسرائيل السلاح النووي. التوقيت والحيثيات والاعتبارات في انتاج السلاح النووي سرّا أو علنا سيكون خاضعا لحسابات القيادة الإيرانية وفي طبيعة علاقاتها مع الدول العظمى.

تتصرّف إيران بوصفها دولة إقليمية قوية تسعى إلى بسط نفوذها في المنطقة، مهما كان طبيعة نظامها، فقد سعت إيران، سواء قبل الثورة الإسلامية فيها أو بعدها، إلى بسط نفوذها في دول عربية عديدة، وقد ازداد سعي إيران لبسط نفوذها في المنطقة العربية بعد احتلال العراق في سنة 2003، وبعد اندلاع الثورات العربية، التي وقفت إيران ضدها وضد تطلع شعوب الدول العربية إلى الحرية والديمقراطية والعدالة الاجتماعية. ليس هذا فحسب، بل أرسلت قوات عسكرية للتدخل في المنطقة للحفاظ على هذا النظام أو ذاك. هذا واضح للعيان.

من الأفضل للدول العربية، قياداتٍ وشعوبا ومعارضة، ألا تقف ضد مشروع أي دولة في المنطقة يكسر أو يسعى إلى كسر احتكار إسرائيل السلاح النووي. ومن الأفضل لها أن تميز بين مواجهتها لبسط النفوذ الإيراني في الدول العربية وأن تتصدّى له بحزم، وأن تسعى، في الوقت نفسه، إلى التوصل إلى تفاهم مع إيران؛ وموقفها من المشروع النووي الإيراني الذي يكسر احتكار إسرائيل السلاح النووي، لأن احتكار إسرائيل هذا السلاح هو المشكلة، ولأن وقوف الدول العربية ضد المشروع النووي الإيراني غير مجد وغير مؤثر، فهذه القضية أكبر منها، ولأنه يخدم إسرائيل واستمرار احتكارها هذا، ويؤدّي إلى الاستمرار في سياساتها وإستراتيجيتها في المنطقة بشكل سافر وخطير، من دون مقابل. لا تستطيع إسرائيل أن تحمي الأنظمة لا من إيران ولا من شعوبها. صحيحٌ أن فائض القوة وجنون العظمة قد استبدّا بها، فجنّنت المنطقة، بعدوانيتها المستمرّة، تحت مسمّيات شتى، مثل المعركة بين الحروب ومكافحة الإرهاب والتطرّف والإسلام السياسي والخطر الإيراني... إلخ، وعلى الرغم من ذلك كله، تبقى قوتها محدودة في تحقيق أهدافها العدوانية، ولا تستطيع حماية "حلفائها" مهما بلغت عمق علاقتهم بها، ومهما قدّموا لها من خدمات، لا من الخطر الخارجي ولا الداخلي. أثبتت التجربة ذلك، فهي لم تستطع حماية حليفها نظام شاه إيران من السقوط، ولا حليفها نظام الأبرتهايد من الزوال، ولا الكثير من القادة العرب الذين تورّطوا معها في علاقات خطيرة فلقوا حتفهم، ولا حاجة لذكرهم.

النووي لمصر والسعودية مسألة وجود

كان من الأفضل، بما لا يقاس، أن تكسر احتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة، أو أن تصل إلى دولة عتبة نووية، دولة عربية أو عدة دول عربية، مثل مصر والسعودية والجزائر. مصر هي الأكثر حاجة للسلاح النووي من أي دولة أخرى في الشرق الأوسط. في نقاشها مع إسرائيل في بداية ستينيات القرن الماضي، بشأن مشروع الأخيرة النووي وحيازتها له تحت ذريعة الخطر على الوجود، رفضت إدارة كنيدي ادّعاء إسرائيل أن ثمّة خطرا على وجودها، وأكدت أن الخطر على الوجود يتهدّد مصر أكثر بكثير من الخطر على وجود إسرائيل، وذلك بسبب السد العالي، لأن أي تدمير له سيؤدي إلى خراب مصر وموت ملايين المصريين. ولا يزال هذا الخطر قائما. ألم يهدّد الوزير الإسرائيلي السابق، أفيغدور ليبرمان، علنا بتدمير السد العالي؟ أضف أن شريان حياة مصر يأتي من خارجها. وكان الخطر دوما قائما أن تُقدم دولة أو أكثر، من دول المنبع، على إقامة السدود على النيل، وتتحكّم في جريانه، مخالفة بذلك القوانين والاتفاقيات الدولية الموقعة بهذا الشأن، وترفض التفاهم مع مصر بهذا الخصوص. وهذا ما حصل، وسد النهضة الإثيوبي دليل على ذلك. وثمّة فرق كبير للغاية بين مصر نووية للدفاع عن وجودها، وعن شريان حياتها، ومصر من دون القدرة للدفاع عن شريان حياتها. لا أحد يهدّد فعلا وجود الآخر عندما يكون الآخر يمتلك السلاح النووي. لنتخيل كيف كان الرئيس الروسي يتصرّف ضد أكرانيا لو أنها لا زالت تمتلك ترسانتها النووية، ولم تتنازل عنها في 1994.

لعل المنطقة تسير في اتجاه كسر احتكار إسرائيل السلاح النووي في الشرق الأوسط وإن ببطء. ولكن عقدا أو عقدين في تاريخ الشعوب تمر كلمح البصر، فالمشروع النووي الإيراني غدا يقف على قدميه شيئا فشيئا. وهذا له قوة ضغط هائلة على السعودية كي لا تتأخر وتصبح في أسرع وقت دولة عتبة نووية أو دولة نووية. فهذه مسألة وجودية بالنسبة لها وللنظام فيها. وكذلك هو يشكل رافعة قوية للضغط على مصر، كي تصبح دولة عتبة نووية، وحاجة مصر للسلاح النووي ضرورة وجودية، مثل حاجتها للماء والهواء. وكلما أسرعت في أن تصبح دولة عتبة نووية تضمن الماء والحياة لشعبها.

من المتوقع أن يساهم تدريجيا وصول إيران ودولة أو دول عربية أخرى إلى دولة عتبة نووية إلى إمكانية وضع حد لاحتكار إسرائيل السلاح النووي في المنطقة، ومن المرجّح أن يمتد تأثيره إلى المجتمع الإسرائيلي نفسه، ويساهم في تقريبه شيئا فشيئا إلى القيم الإنسانية العليا، وإلى إرغامه أو إقناعه على التخلي عن جنون العظمة وعن السياسة العدوانية، وسيقود إلى تهدئة الرؤوس الإسرائيلية الحامية، الكثيرة، التي تستخفّ بالعرب، وبالفرس أيضا، وبحقوقهم، وتطالب بهدم الأقصى وطرد العرب. وستزداد قوى السلام في إسرائيل وتعود إلى الظهور حركات في إسرائيل كانت نشطة في ستينيات القرن الماضي، كانت تطالب بشرق أوسط خال من الأسلحة النووية.

التعليقات