31/10/2010 - 11:02

هل ستتغير قواعد اللعبة؟

وإذا لم نشأ أيضًا الوقوف أمام الاحتمال المضاد وهو لجوء المستوطنين واليمين المتطرف إلى هذه العملية الإرهابية لإنزال الجماهير الفلسطينية في الداخل إلى الشوارع مما يشغل عددًا كبيرًا من رجال الشرطة وحرس الحدود.

هل ستتغير قواعد اللعبة؟

الدلالة التي يحملها انتقال السفاح عيدن ناتان زاده من ريشون لتسيون إلى مستوطنة تبواح، المعروفة كبؤرة للمستوطنين المتطرفين من أتباع حركة "كاخ"، حركة الفاشي مئير كهانا التي أخرجت عن القانون، (وإن كان يجدر بنا ألا نتجاهل حقيقة كونه عاش في ريشون لتسيون ورضع فيها سموم العنصرية التي أوصلته إلى مستوطنة تبواح، خاصة عندما نعيد إلى الأذهان مجزرة عيون قارة أو مجزرة ريشون لتسيون، لا تهم التسمية، التي قتل فيها الإرهابي عامي بوبر، في العقد الماضي، سبعة من العمال العرب الفلسطينيين بدم بارد أيضًا) وتقرّبه من حركة "كاخ" ونشاطه في حركة "رفافاه" التي أسسها أحد سكان المستوطنة ذاتها والتي حاولت تنظيم مسيرة كبيرة لغلاة المستوطنين واليمين المتطرف لاقتحام الحرم المقدسي قبل أسابيع معدودة (اعتقل زاده في المظاهرة وأعيد إلى الجيش حيث تمكن من الهروب)، وهروبه من الخدمة العسكرية وبحوزته السلاح ورفضه المشاركة في تنفيذ فك الارتباط في الشق المتمثل في الانسحاب من قطاع غزة وشمالي الضفة الغربية ليس إلا، وتحذيرات عائلته المتكررة من احتمال تورطه في حادث خطير بعد أن انضم إلى منظمة يمينية متطرفة (ونشير هنا إلى أن أفراد تنظيم إرهابي يهودي "شلهيفت غلعاد" قتلوا سبعة فلسطينيين في الضفة الغربية خلال الانتفاضة الثانية وجاؤوا من دوائر قريبة من تلك التي تواجد فيها زاده، إلا أنه تم إطلاق سراحهم بعد التحقيق معهم في معتقلات الشاباك بسبب التزامهم جانب الصمت) بالإضافة إلى تحذيرات كانت لدى الجيش تشير إلى خطورته وإلى إحتمال قيامه بتنفيذ جرائم وأنه يجب البحث عنه بسرعة، ولسبب ما هناك من يزعم أن هذه التقارير لم تصل إلى جهاز الأمن العام الشاباك مطلقًا، وحتى المزاعم التي تشكك في سلامة صحته النفسية حينما تناقلت وسائل الإعلام الإسرائيلية أن ضابط الصحة النفسية في الجيش أوصى بإعطائه درجة 45 في المقياس الصحي النفسي "البروفيل" (ولو صح ذلك ففي هذه الحالة سيكون عذرًا أقبح من ذنب!)، كل ذلك لماذا لم يكن كافيًا لمنع وقوع المجزرة الرهيبة في شفاعمرو؟

من السهل تناقل الرواية الإسرائيلية أن السبب الأساسي الذي لم يمنع وقوع المجزرة هو العلاقة المعطوبة بين أذرع الأمن الإسرائيلية المختلفة بالاستناد إلى حقيقة أن قسمًا كبيرًا من المعلومات المقلقة كانت لدى أجهزة الأمن، إلا أنه لم يتم "تجميع الصورة الاستخبارية المتوزعة على أجهزة الأمن" لرؤيتها كاملة، أي أنه لم يتم تناقل المعلومات ذات الصلة في داخل الهيئات المختلفة في الجيش، مثل عدم إيصال التقارير المهمة إلى الشاباك، وفي حالات أخرى إخفاء معلومات وعدم توثيقها في الملف الخاص بزاده مثل المعلومات التي أدلت بها عائلة زاده بشأن انتقاله للعيش في المستوطنة قبل سنتين. بيد أن هذه الرواية لا تعدو كونها محاولة مكشوفة لليّ عنق الحقائق وتبقى عصية على التطويع للمنطق والعقل.

وإذا لم نشأ التوقف طويلًا أمام احتمال روّجته وسائل إعلام إسرائيلية بأن هناك أجهزة أمنية سعت إلى إتاحة وقوع هذه العملية الإرهابية لتبرير تشديد القبضة وعدم تقديم تساهلات للمستوطنين واليمين المتطرف أثناء تنفيذ فك الارتباط، وفي هذه الحالة فإنه قد لا تكفي مجزرة واحدة وعندها يتطلب الأمر استدعاء إرهابي آخر لتنفيذ مجزرة أخرى في مكان آخر، وهناك قائمة بالكثير من الجنود الهاربين من الجيش وبمواصفات الإرهابي زاده ولم تمتنع الجهات الرسمية عن التصريح عنها. هذا من جهة ومن جهة أخرى فإن قائد القوات البرية في الجيش الإسرائيلي، يفتاح رون طال، وكذلك وزير الأمن شاؤول موفاز بقوله "لا يمكننا الوصول إلى رأس كل مهووس يتواجد على تلة نائية ويعد العدة لعملية القتل التالية"، وانتهاءً برئيس الحكومة، أرئيل شارون، جميعهم لم يستبعدوا احتمال تكرار المجزرة من باب أن التنبؤ باحتمال وقوعها يخفف من سطوة عنصر المفاجأة ويقلص من المسؤولية الرسمية حيالها على اعتبار أن التشدق باحتمال وقوعها سيعتبر شكلًا تحذيريًا ومن غير الممكن أن يكون لامبالاة.

وإذا لم نشأ أيضًا الوقوف أمام الاحتمال المضاد وهو لجوء المستوطنين واليمين المتطرف إلى هذه العملية الإرهابية لإنزال الجماهير الفلسطينية في الداخل إلى الشوارع مما يشغل عددًا كبيرًا من رجال الشرطة وحرس الحدود وبالتالي يخدم هدف تشتيت قوات الشرطة لعرقلة الانسحاب من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية، وإذا لم يتحقق هذا الهدف فمن غير المستبعد أن يعاودوا الكرة مرة أخرى.

إلا أنه من الأكيد أن مجزرة شفاعمرو في جوهرها (وفي أحيان كثيرة في شكلها أيضًا) لا تختلف عن مجزرة ريشون لتسيون (عيون قارة) أو مجزرة الحرم الإبراهيمي، على سبيل المثال لا الحصر، مثلما لا تختلف في الجوهر أيضًا عن الفظائع التي ارتكبتها قوات الشرطة في هبة تشرين 2000، وأدت إلى سقوط 13 شهيدًا، كما لا تختلف عن قتل 18 عربيًا فلسطينياُ من الداخل لاحقًا خلال سنوات الانتفاضة بذرائع أمنية واهية.

كما لا تختلف عن جريمة قتل الطفلة إيمان الهمص من قطاع غزة وتنفيذ عملية تأكيد قتل في جثتها، ولا تختلف عن جريمة قتل الفتى الفلسطيني، مثلاُ، من قطاع غزة قبل سنتين أثناء احتفالات بصعود وحدة عسكرية احتلالية إلى مرتبة كتيبة وجرى خلال الاحتفالات إطلاق نار عشوائية أدت إلى استشهاد الفتى (قبل أسابيع قليلة حكم على القاتل بالتوبيخ بالإضافة إلى التوصية بترقيته في الجيش، وقد تم ذلك فعلًا وقام رئيس هيئة الأركان العامة للجيش الإسرائيلي، دان حالوتس، بترقيته)، وفي هذا السياق لا تختلف أيضًا عن المجزرة التي نفذها حالوتس نفسه عندما ألقى من طائرته بقنبلة تزن أكثر من طن ونصف على عمارة في غزة أدت إلى استشهاد 15 فلسطينيًا غالبيتهم من الأطفال، ولا تختلف عن المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال في قطاع غزة في أحد المعسكرات الشبابية في ملعب كرة قدم وراح ضحيتها 16 فلسطينيًا، كما لا تختلف عن ضحايا الأوامر التي صدرت لجنود الاحتلال بقتل 10 فلسطينيين يوميًا، أو بالانتقام لعملية عين عريك التي قتل فيها ستة من جنود الاحتلال، فقامت قوات الاحتلال بقتل 15 فلسطينيًا من رجال الشرطة لمجرد الانتقام.

المجزرة لا تختلف كثيرًا عن الكثير من المجازر والفظائع التي ارتكبتها قوات الاحتلال بحق الآلاف المؤلفة من شباب وشيوخ ونساء وأطفال الشعب الفلسطيني والتي جرى تبريرها بذرائع مختلفة تحت شعار عريض يسمى مكافحة الإرهاب، ولعل أهمها؛ تعرض قوات الاحتلال إلى الخطر أو أن الشهيد مسلح ومطلوب، أو قنبلة موقوتة أو يخطط لعملية، أو تواجد بالصدفة في مسرح العملية، أو عن طريق الخطأ، أو أن الشهيد سقط بنيران فلسطينية. ويبقى الأهم أنها لا تعتبر جرائم، ولو حدثت مجزرة شفاعمرو في الضفة الغربية أو قطاع غزة لقيل أن حياة الجندي تعرضت للخطر فاضطر إلى إطلاق النار!

تختلف مجزرة شفاعمرو، إسرائيليًا، من جهة أنه لا يمكن اعتبارها إلا عملية إرهابية وفقط كنتيجة للشكل الذي نفذت فيه أولًا واختيار المكان ثانيًا، وليس بسبب جوهرها، ولم يكن بالإمكان إيجاد تغطية أمنية لتنفيذها ولعل هذا هو السبب الرئيس في إثارة الرأي العام الإسرائيلي ضدها، مما اضطر شارون إلى التصريح بأنها "عملية إرهابية نفذها إرهابي متعطش للدماء"، إلا أنه لم يمض وقت كبير حتى بدأ يسود الاعتقاد في الأوساط نفسها بأن القاتل هو ضحية، وربّما لن يمضي وقت طويل حتى يقال أنه جرى استفزاز الجندي فأحس بالخطر واضطر إلى إطلاق النار دفاعًا عن النفس!

بكلمات أخرى إذا كانت جميع الدلالات التي سبق ذكرها ليست كافية لمنع وقوع المجزرة، فإن ذلك يؤكد أن مجمل جرائم الاحتلال والتساهل القضائي الملموس تجاه الجنود الذين تم الكشف عن جرائمهم، قد خلق نوعًا من "الوعي السائد" يسهّل استباحة الدم الفلسطيني، وأن الاستهانة بحياة الفلسطيني هي أمر طبيعي لا حاجة لكتابة تقارير فيها، وبالتالي فإن الدلالات التي يعتقد أنها كانت كافية لمنع وقوع المجزرة في شفاعمرو هي في الواقع ليست دلالات وليست علامات فارقة في حياة الجندي السفاح، وإنما حالة "طبيعية" أنتجتها جرائم الاحتلال. والاحتلال لا يصنع "نصف أخلاق" (لا يوجد نصف إخلاق) بمعنى أن الجندي لن يكون إنسانيًا وفي الوقت نفسه جندي احتلال مدرب على القتل والبطش والتنكيل، ولذلك لا يتميز زاده فيها عن غيره من جنود الاحتلال سوى (ربما) في الشكل والمكان الذين اختارهما، لسبب ما، لتنفيذ جريمته. ولماذا سيميز الجندي في هذه الحالة في سياق الخطر المزعوم الأمني أو الديمغرافي بين الدم الفلسطيني في الضفة أو القطاع وبين الدم الفلسطيني في الجليل، مثلًا، عندما يلقن أن "العربي الجيد هو العربي الميت؟

ويحضرني في هذا السياق ما كتبه د.عزمي بشارة بأنه "لدينا ألف سبب للاعتقاد بل لليقين أن الجيش الإسرائيلي مخترق تماما من عصابات يمينية متطرفة، وتنظيمات سرية وعنصريين ومهاويس من كافة الألوان. الجيش الإسرائيلي ليس ملاكا دونهم، فهو والسياسة التي ينفذها هي المشكلة الكبرى التي تسمى قمع واحتلال وثقافة عسكرية وكذب في التقارير عندما يتعلق الأمر بقتل العرب. فهو الإرهابي الأول في المناطق المحتلة عام 67. ولكن عندما يتعلق الأمر بولوج الإرهاب اليهودي داخل الخط الأخضر فان وجود عصابات يمينية متطرفة في داخله قد يغير قواعد اللعبة تماما".

التعليقات