27/02/2023 - 15:40

ما الذي تعنيه حرب روسيا على أوكرانيا بالنسبة للاقتصاد العالمي؟

الاقتصادات التي تشعر بالتهديد من قبل واشنطن، لديها حافز لتحويل احتياطياتها من ممتلكاتها في الولايات المتحدة. من الناحية النظرية، كان هذا دائمًا بسبب من مخاوف إفراط واشنطن في استخدام القوة المالية؛ إذا كانت أميركا تفرض عقوبات بشكل متكرر

 ما الذي تعنيه حرب روسيا على أوكرانيا بالنسبة للاقتصاد العالمي؟

(Getty)

غُمر الاقتصاد الروسي مع انطلاق الحرب، بفيض من العقوبات العالمية، إذ بدأ الغرب، بعد فترة وجيزة من غزو الكرملين لأوكرانيا، في الاستيلاء على أصول أغنى الأفراد المقربين من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأخذوا بمنع الرحلات الجوية الروسية في مجالهم الجوي، وقيّدوا وصول الاقتصاد الروسي إلى التكنولوجيا المستوردة. كما جمدت الولايات المتحدة وحلفاؤها، في تسلسل دراماتيكي للأحداث، الأصول الاحتياطية للبنك المركزي الروسي وعزلوا روسيا ليس فقط من نظام المدفوعات المالية SWIFT، ولكن أيضًا عن المؤسسات الأساسية للتمويل الدولي، بما في ذلك جميع البنوك الأجنبية وصندوق النقد الدولي، وتبع ذلك انهيار الروبل الروسي، واشتعل نقصٌ حاد في جميع أطراف الاقتصاد الروسي، مما دفع روسيا التخلّف عن دفع ديونها الأجنبية. وقد أجبر الرأي العام الغربي -والخوف من التعرض للعقوبات- الشركات الغربية على الخروج بشكل جماعي من روسيا.

كان رد العالم الديمقراطي على عدوان موسكو وجرائم الحرب في مكانه الصحيح، ولكن ستكون لهذه الإجراءات عواقب اقتصادية سلبية ستتجاوز الانهيار المالي لروسيا، والتي ستستمر ولن تكون آثارها جيدة علينا جميعًا. شهدنا على مدى السنوات العشرين الماضية اتجاهان يعملان بالفعل على تآكل العولمة في مواجهة مسيرتها التي يفترض أنها غير متوقفة: أولاً، أقام الشعبويون والقوميون حواجز أمام التجارة الحرة والاستثمار والهجرة وانتشار الأفكار، خاصة في الولايات المتحدة. وثانيًا، شجع تحدي بكين للنظام الاقتصادي الدولي القائم على القواعد والترتيبات الأمنية طويلة الأمد في آسيا الغربَ على إقامة حواجز أمام التكامل الاقتصادي الصيني. وهو ما سيجعل الغزو الروسي والعقوبات الناتجة عنه هذا التآكل أسوأ الآن.

والأسباب، أولاً، تحاول الصين التعامل مع الغزو الروسي بردٍ غير تصادمي ويراقبُ كل من نظامها المالي واقتصادها الحقيقي العقوبات خوفًا من أي انتقام اقتصادي محتمل إذا قاموا بتمويل أو دعم روسيا، ناهيك عن إنقاذ موسكو. لكن أي شيء أقل من الانضمام الكامل إلى الحصار سوف يغذي السياسات المعادية للصين في الغرب، مما يقلل من التكامل الاقتصادي لها في النظام العالمي. ثانيًا، تخشى الدول أن تخضع لأهواء القوة الاقتصادية لواشنطن، خصوصًا بعد استعراضها لقوتها الظاهرة. قد تكون الإجراءات الاقتصادية للولايات المتحدة في الوقت الحالي عادلة، وقد يكون هناك خطر ضئيل من أن ينتهي الأمر بالدول غير الغازية لأوكرانيا إلى الجانب الخطأ من سياسات الولايات المتحدة، ولكن في المرة القادمة، قد تكون الولايات المتحدة أكثر أنانية ونزوية.

أخيرًا، فإن الأضرار التي تلحق بالاقتصاد الروسي والتكاليف الباهظة التي تتحملها أوروبا الوسطى مع قطع روسيا وصولها إلى الغاز الطبيعي والنفط، قد تجعل الحكومات تسعى إلى الاعتماد على الذات وتحرر نفسها من الروابط الاقتصادية، ومن المفارقات أن هذا سيؤدي إلى فعل هزيمة ذاتية. مع بداية الحرب، أظهر الانكماش الاقتصادي الحاد لروسيا مدى صعوبة ازدهار الدول عامةً دون الاعتماد الاقتصادي المتبادل، حتى عندما تحاول تقليل ضعفها دون ذلك التبادل. بالإضافة إلى ذلك، أدت محاولات روسيا لجعل نفسها مستقلة اقتصاديًا في الواقع إلى زيادة احتمال تعرضها للعقوبات، لأن مكاسب العقوبات بالنسبة للغرب أكثر بكثير من مخاسر عدم فرضها، ولكن هذا لن يمنع العديد من الحكومات من محاولة التراجع والانسحاب من الميدان العالمي، بحثًا عن حماية نفسها من قبضة الغرب وقدراته العقابية.

لقد واصل النقاد صراخهم بشأن مثل هذه الانقسامات لسنوات، ولن تنجح الدول الأصغر التي تحاول عزل نفسها، ولكن يبدو الآن من المحتمل أن الاقتصاد العالمي سينقسم حقًا إلى كتل، واحدة موجهة حول الصين وواحدة حول الولايات المتحدة، ولن يكون الاتحاد الأوروبي في الغالب كليًا في المعسكر الأخير، حيث سيحاول كل طرف عزل نفسه عن تأثير الآخر ومحاولة خفضه. ستكون العواقب الاقتصادية على العالم هائلة، ويحتاج صانعو السياسة إلى إدراكها ثم تناولها ومحاولة علاجها قدر الإمكان.

الدولار يعيش

(Getty)

رغم كل الحديث عن «تسليح المال»، كانت العقوبات المفروضة ضد روسيا فعالة فقط لأن التحالف الدولي الذي فرضها كان واسع النطاق وملتزمًا، ولم يكن لتجميد احتياطيات البنك المركزي الروسي لينجح، مثلًا، إلا إذا كانت غالبية النظام المالي العالمي على استعداد للقيام به. ما يهم هو التحالف، وليس الجانب المالي. ونظرًا لأن التحالف المناهض لروسيا يضم جميع المؤسسات المالية الرئيسة باستثناء البنوك الصينية، وبما أن البنوك الصينية لا تريد أن تُستبعد من هذا النظام، فلن تؤدي العقوبات المالية إلى أي تغييرات جوهرية في النظام النقدي أو المالي العالمي.

صار لدى الاقتصادات التي تشعر بالتهديد من قبل واشنطن الآن حافز لتحويل احتياطياتها من ممتلكاتها في الولايات المتحدة. من الناحية النظرية، كان هذا دائمًا بسبب مخاوف إفراط واشنطن في استخدام القوة المالية؛ إذا كانت أميركا تفرض عقوبات بشكل متكرر، فقد يدفع هذا بالدول الأخرى إلى إيجاد بدائل أفضل للدولار ونظام المدفوعات من حوله. وعلى المدى الطويل للغاية، فإن الاقتصاد العالمي المنقسم تحت تهديد العقوبات سوف يذهب في هذا الاتجاه. لكن في غضون ذلك، ما توضحه روسيا هو أن التنويع في اليورو واليوان وحتى الذهب لن يساعد الدول إذا كان المشاركون الآخرون في السوق هم أنفسهم خائفين من استبعادهم من نظام الدولار، لأنه لن يكون هناك طرف آخر لهم لبيع احتياطياتهم له. وسيتعين على العملات الرقمية المشفرة أن تقرر ما إذا كانت ستلتزم بالعقوبات وبالتالي ستفقد بعض مستخدميها (الذين يتعاملون مع العملات على أنها ملاذ) أو ما إذا كانت ستسهل محاولات التملص من العقوبات، وفي هذه الحالة من المرجح أن تقوم الحكومات بإغلاقها أو تهميشها.

سيكافح اليوان الصيني ليصبح بديلاً رئيسياً للدولار، حتى بالنسبة للاقتصادات في كتلة بكين، وطالما أن الصين تمنع الناس من أخذ الأصول بحرية من نظامها المالي المحلي، فإن المستثمرين وحتى البنوك المركزية التي تتبناها سيتبادلون تهديدات العقوبات التي تفرضها واشنطن على بكين. يمكن أن تتغلب بكين على هذه المشكلة بجعل اليوان قابلاً للتحويل بحرية، بدلاً من التحكم فيه بإحكام. ولكن إذا حدث ذلك، فمن المرجح أن تنخفض قيمة اليوان انخفاضًا حادًّا لفترة طويلة، كما حدث في الفترة من 2015 إلى 2016، عندما فتحت الصين حساب رأس المال مؤقتًا، لأن المليارات من الأشخاص الذين يحتفظون بمدخراتهم في الصين يائسون لتنويع محافظهم المالية عن طريق نقل أصولها إلى مكان آخر سعيًا وراء عوائد أعلى. يمكن للصين، بالطبع، أن تصبح عملة احتياطية للاقتصادات الصغيرة التي تهيمن عليها وللدول المنبوذة أو البلدان التي ليس لديها بديل حقيقي. لكن هذا لن يخدمها كثيرًا في تنويع أو تحقيق عوائد تفضيلية للمدخرات الصينية، وقد يعود بنتائج عكسية من خلال تشابك النظام المالي الصيني في عدم الاستقرار المالي للدول أخرى.

هذا لا يعني أن شيئًا لن يتغير من الناحية المالية، فكلما زاد تضخيم الانقسامات الاقتصادية بسبب انقسامات القوة الصارمة، زاد قيام الحكومات بمواءمة أنظمتها المالية مع الحامي العسكري الأساسي، إذ تميل عمليات ربط أسعار الصرف إلى اتباع التحالفات العسكرية (كما أوضحتُ في عام 2008). شهد العالم على هذا في جميع أنحاء إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب آسيا خلال الحرب الباردة، حيث حولت الحكومات التركيز على أهداف أسعار الصرف أو ربط العملات عند إعادة تنظيم العملية بين الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة، ولكن وعلى الرغم من أن هذا قد يعني أن بعض البلدان تتحرك داخل وخارج منطقة الدولار بحكم الأمر الواقع، إلا أنه لن يخلق عملة بديلة جذابة وفقًا لشروطها الخاصة.

ذهاب غير مكتمل

(Getty)

لن يؤدي الغزو والعقوبات إلى تغييرات مالية هائلة في الاقتصاد العالمي بطبيعة الحال، ولكنه سيسرّع من عملية تآكل العولمة الجارية، وسيكون لهذا تأثيرات واسعة النطاق، حيث سيشهد العالم انحدارًا في النمو والابتكار مع ضعف الترابط الاقتصادي، وستتمتع الشركات والصناعات المحلية القائمة بمزيد من القوة للمطالبة بحماية خاصة، وستنخفضُ إجمالاً، العائدات الحقيقية على الاستثمارات التي تقوم بها الأُسرُ والشركات.

لمعرفة سبب ذلك، يجب أن نضع في الاعتبار ما حدث لسلاسل التوريد، ففي الوقت الحالي، تعمل معظم الشركات الصناعية وتجار التجزئة على ترحيل واستئجار كل مدخل أو خطوة رئيسة في عمليات إنتاجهم من مكان واحد أو من عدد قليل من الأماكن المنفصلة، واعتبرَ هذا منطق اقتصادي قوي لإنشاء سلاسل التوريد العالمية، مع عدد قليل نسبيًا من المتاعب: لم يقتصر الأمر على توفير التكاليف من خلال تشجيع الشركات والمصانع على التخصص، بل رفعوا أيضًا من حجم الإنتاج وأصلوا البضاعة للأسواق المحلية واستفادوا من عصر المعلومات، ولكن بالنظر إلى الحقائق الجيوسياسية والجائحية الحالية، قد لا تكون سلاسل القيمة العالمية هذه تستحق المجازفة بالاعتماد على مضائق محددة، لا سيما إذا كانت تلك المضائق في بلدان غير مستقرة سياسيًا أو غير موثوقة. ستعمل الشركات متعددة الجنسيات، بتشجيع من الحكومة، على التأمين بعقلانية ضد المشاكل من خلال بناء سلاسل توريد زائدة عن الحاجة في مواقع أكثر أمانًا، ومثل أي شكل من أشكال التأمين فإن هذا سيحمي ضد بعض المخاطر السلبية، لكنه سيكون تكلفة مباشرة لا ينتج عنها أي عوائد اقتصادية فورية.

وفي الوقت نفسه، إذا لم تعد الشركات الصينية والأميركية تواجه منافسة من بعضها البعض (أو من شركات خارج تكتلها الاقتصادي)، فمن المرجح أن تكون هذه السلاسل غير فعالة، ومن غير المرجح أن يحصل المستهلكون على قدر التنوع والموثوقية كما هو الحال حاليًا. عندما يكون هذا المستهلك هو الحكومة، فربما تشارك الشركات المحلية المحمية في الهدر والاحتيال، نظرًا لوجود منافسة أقل على عقود المشتريات الحكومية. وإذا أضفنا القومية والمخاوف من تهديدات الأمن القومي إلى هذا المزيج، فسيكون من السهل على مثل هذه الشركات أن تتستر على نفسها خلف حجاب الوطنية وأن تنهب الناس، وهي تعلم أنها أكبر من أن تفشل سياسيًا. لهذا السبب تحديدًا تكون الاقتصادات المغلقة أكثر عرضة للفساد.

سيشهد العالم نموًا وابتكارًا أقل

(Getty)

يمكن للمحللين رؤية هذا بالفعل في إجراءات الرئيس بايدن والرئيس السابق ترامب والتي قد تبدو وطنية لما تسعى إليهِ من «توطين» للتصنيع، أي نقل سلاسل التوريد التي تصنع البضائع الأميركية بحيث تتم في الولايات المتحدة، وكذا فهم يستخدمون الأمن القومي والاعتزاز بهِ لتبرير السياسات التي تختزل كلاً من الدفاع الوطني و85٪ من العمال الأميركيين غير العاملين في مجال الصناعات الثقيلة. إن تمجيد التصنيع المحلي على حساب دفع التجارة عبر الحدود في الخدمات والشبكات أمر مثير للسخرية بشكل خاص، وبالنظر إلى أن القطاعات الأخيرة هي التي أعطت الغرب حقًا ميزة على روسيا في تنفيذ عقوبات فعالة، وهو ما ردع الشركات الصينية عن إنقاذ روسيا.

وبالمثل، فإن تآكل العولمة سيكون له عواقب وخيمة على التكنولوجيا، حيث يكون الابتكار أسرع وأكثر شيوعًا عندما تشارك المجموعة العالمية من المواهب العلمية في مجال يمكنها فيه تبادل الأفكار والمشاركة في إثبات أو دحض المفاهيم، ولكن يوجد سبب مقنع سياسيًا للدول لمحاولة تأكدها من أن حلفاءها فقط هم من يمكنهم الوصول إلى التكنولوجيا الخاصة بهم، حتى لو كانت القيود ذات صلة عسكرية مشكوك فيها (في عالم التجسس الإلكتروني، من السهل الحصول على التصاميم التكنولوجية). ستكون النتيجة المرجحة هي تراجع الابتكار، حيث تحرم المؤسسات البحثية الأميركية والغربية الأخرى نفسها من العديد من الطلاب والعلماء الصينيين والروس الموهوبين.

سيؤدي التآكل الشديد للعولمة إلى زيادة تقليص العائد على رأس المال في الاقتصاد العالمي، وسوف يحصل ذلك على كل جانب من جوانب الانقسام الاقتصادي، وستوجد قيود جديدة على الأماكن التي يمكن للناس استثمار مدخراتهم فيها، مما سيؤدي إلى انخفاض نطاق التنويع ومتوسط العوائد، ومن المرجح أن يزيد الخوف والقومية من رغبة الناس في استثمارات آمنة في الداخل أو في الحكومة أو في الأوراق المالية المدعومة من القطاع العام، ستجمع الحكومات أيضًا بين الحجج المتعلقة بالأمن القومي وإجراءات الاستقرار المالي والاقتصادي المصممة لتشجيع الاستثمار في ديونها العامة، كما تفعل في أثناء الحروب.

الاتصال القاري

(Getty)

يوجد تأثير جانبي اقتصادي مفيد واحد للانقسامات العالمية المتزايدة: يتم تحفيز الاتحاد الأوروبي لتوحيد المزيد من سياساته الاقتصادية، كما سيخصص الاتحاد موارد مشتركة لتقاسم العبء المالي للتدفق الهائل للاجئين الأوكرانيين الوافدين إلى بولندا وأعضاءه الشرقيين آخرين. ويجري حاليًا إصدار السندات الأوروبية لدفع ثمن هذه الإجراءات، بدلاً من ديون الدول الأعضاء الفردية.

قد يصدر الاتحاد الأوروبي أو منطقة اليورو المزيد من الديون العامة الأوروبية في المستقبل، مما سيساعد الاقتصاد العالمي بشكل أكبر. يعزز الغزو الروسي حقيقة أن عالمنا منخفض العائدات، وأن لدى العديد من المستثمرين رغبة كبيرة في الأمان، ومن خلال إنشاء أصول أكثر أمانًا لهم، يمكن للاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو استيعاب بعض المدخرات التي تتجنب المخاطرة، مما يؤدي إلى تحسين الاستقرار المالي.

ستخلق وحدة الاتحاد الأوروبي الجديدة فرصًا جديدة للنمو، حيث تعهد كل عضو في الاتحاد الأوروبي تقريبًا، بقيادة المستشار الألماني أولاف شولتز، بالتزام متعدد السنوات لزيادة الإنفاق الدفاعي وزيادة الاستثمار العام في التقليل السريع من اعتماد القارة على الوقود الأحفوري الروسي. كلا هذين الاستثمارين سيخدمان أوروبا جدًا لمساعدتها في التخلص من انتفاعها المجاني من الولايات المتحدة والصين من أجل النمو. إن إعطاء الاقتصاد العالمي محركًا آخر (أوروبا) سيساعد في موازنة الصعود والهبوط في دورة الأعمال، وتحقيق الاستقرار في العالم ضد حالات الركود، كما سيمنع الاقتصادات سريعة النمو من تراكم الديون الخارجية كما حدث عندما صدرت ألمانيا وغيرها من الاقتصادات ذات الفائض الأوروبي المنتجات لكنها فشلت في الاستهلاك.

ستساعد هذه المبادرات، على وجه الخصوص، منطقة اليورو نفسها، إذ كان أحد الأسباب الرئيسة لأزمة اليورو قبل عقد من الزمن هو الاختلالات بين اقتصادات اليورو الناتجة عن التقشف الألماني، أما الآن ومن خلال زيادة الطلب المحلي الألماني، ستكون الدول الأعضاء في جنوب منطقة اليورو قادرة على التخلص من بعض ديونها من خلال زيادة الصادرات بدلاً من الاضطرار إلى خفض الأجور والواردات لتسديد مدفوعاتها، وهذا من شأنه أن يعزز قابلية اليورو للمنافسة على المدى الطويل، فضلاً عن زيادة جاذبيته للأعضاء الجدد المحتملين في أوروبا الشرقية ومديري الاحتياطيات حول العالم. عندما يصير اليورو أقل عرضة للتوترات والمخاوف الداخلية فستزيد قيمته أعلى وسيستقر أكثر، وهذا بدوره سيقلل من التوترات التجارية مع الولايات المتحدة.

حقيقة مزعجة

(Getty)

لسوء الحظ، يثبت الغزو الروسي أنه سيكون أكثر ضررًا على بلدان العالم النامي، حيث سيلحق ارتفاع أسعار الغذاء والطاقة الضرر بمواطني الدول الفقيرة، وهو ما حدث، وسيكون التأثير الاقتصادي لتآكل العولمة أسوأ، وإذا اضطرت البلدان ذات الدخل المنخفض إلى اختيار أحد الجانبين عند اتخاذ قرار بشأن من أين تحصل على مساعداتها والاستثمار الأجنبي المباشر، فإن الفرص المتاحة لقطاعها الخاص ستضيق، وسيزداد اعتماد الشركات داخل هذه البلدان على حراس بوابات الحكومة في الداخل والخارج، ومع زيادة استخدام الولايات المتحدة ودول أخرى للعقوبات، ستقل احتمالية قيام الشركات بالاستثمار في هذه الاقتصادات، بحيث تريد الشركات متعددة الجنسيات القلقة تجنب الازدراء الأميركي، ولذا فإنها ستتخلى عن الاستثمار في الأماكن التي ترى أنها تتمتع بشفافية لا يمكن الاعتماد عليها.

إن مساعدة الاقتصادات الفقيرة ليست الهدف التنموي الوحيد طويل المدى الذي يعرّضه الغزو الروسي للخطر، حيث ستحتاج المجتمعات في جميع أنحاء العالم إلى التخفيف من تغير المناخ والتكيف معه للبقاء على قيد الحياة، لكن الدور المحوري لروسيا وأوكرانيا في إمدادات الطاقة العالمية يحفّز جهودًا متناقضة من شأنها أن تجعل تحول للطاقة الخضراء أكثر صعوبة. يدعو السياسيون الغربيون في الوقت نفسه إلى الابتعاد عن الغازات المسببة للاحتباس الحراري والدعوة إلى زيادة التنقيب عن الوقود الأحفوري خارج روسيا. تريد الدول منع التلاعب في الأسعار وخفض ضرائب الطاقة وتعويض الأُسر عن ارتفاع أسعار الغاز، لكنها تريد أيضًا زيادة الحوافز لتوسيع إنتاج الطاقة الأكثر مراعاة للبيئة وتقليل الاستهلاك، الأمر الذي يتطلب أسعارًا أعلى. تمتد المفاضلات إلى ما هو أبعد من تغير المناخ. تريد الديمقراطيات بناء تحالفات حول القيم الليبرالية والأسواق الأكثر حرية، ولكن لخفض تكاليف الطاقة، فإنها تذهب إلى الحكومات الاستبدادية مثل المملكة العربية السعودية وفنزويلا، وتعرض إضفاء الشرعية على أنظمتها في مقابل زيادة إمدادات النفط.

يكمن وراء كل هذا حقيقة مُزعجة: لإبطاء الاحتباس الحراري، يحتاج العالم إلى عمل جماعي دولي، بما في ذلك من الصين. لا يمكن لتحالف الديمقراطيات أن يفعل ذلك بمفرده. تمكنت الحكومتان الصينية والأميركية، في بعض الأحيان، من إحراز تقدم مشترك في مبادرات المناخ حتى في أثناء وجود صراع حول قضايا أخرى، وقال كل من الرئيس الصيني شي جين بينغ وبايدن إنهما يريدان القيام بذلك مرة أخرى. لكن الأمر سيزداد صعوبة مع تراجع كل دولة في كتلة منفصلة. وفي الوقت نفسه، نظرًا لأن تآكل العولمة يقلل من وتيرة الابتكار عن طريق تقييد التعاون البحثي، فسيصبح من الصعب أيضًا على العلماء التوصل إلى الآلية الخارقة التي يمكننا عبرها إنقاذ الكوكب.

توحيد الجهود

(Getty)

كان وقف تآكل العولمة أمرًا صعبًا، وزاد الغزو الروسي لأوكرانيا من صعوبة الأمر، وبينما يقوم السياسيون في الولايات المتحدة وأماكن أخرى بتدوير روايات كاذبة حول مدى ضرر الانفتاح الاقتصادي على العمال، أدى الغزو الروسي والعقوبات الناتجة عن ذلك إلى دفع الصين والولايات المتحدة إلى مزيد من التباعد فيما بينهما.

لكن صناع السياسة ليسوا عاجزين. كانت العقوبات المالية على روسيا شديدة القوة لأنها فرضت من قبل تحالف قوي من الديمقراطيات ذات الدخل المرتفع. إذا كان بإمكان أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي واقتصادات السوق المهمة الأخرى توجيه نفس القوة التي استخدمتها لمعاقبة روسيا من أجل مساعدة الاقتصاد، فيمكنها إصلاح التآكل، وربما تشجيع الصين على البقاء متصلة مع العالم.

ولتحقيق ذلك، يجب على المسؤولين اتباع مجموعة واسعة من السياسات الجديدة: يمكنهم البدء بإنشاء سوق مشتركة بين الديمقراطيات وتكون واسعة وعميقة قدر الإمكان بما في ذلك للسلع والخدمات وحتى فرص العمل، ويجب عليهم وضع معايير مشتركة لفحص الاستثمار الخاص عبر الحدود لأسباب تتعلق بالأمن القومي وحقوق الإنسان، ويجب عليهم خلق ساحة لعب متساوية نسبيًا بين الحلفاء، مساحة من شأنها أن تعزز المنافسة الصحية وأن تقلل من أسوأ الآثار الجانبية للقومية الاقتصادية: الفساد، وترسيخ أصحاب المناصب، وهدر الموارد. يجب على صانعي السياسة أيضًا إنشاء جبهة استثمار عام مستدامة ومتعددة السنوات عبر التحالف الغربي، مما سيقلل من الاختلالات بين الاقتصادات وسيزيد العوائد الإجمالية على الاستثمار.

لا تستطيع الديمقراطيات في العالم عكس كل انقسام مدمر في الاقتصاد العالمي ينجم عن العدوان الروسي وموافقة الصين الضمنية عليهِ، ولا ينبغي أن يرغبوا في ذلك، بل يجب مواجهة بعض أشكال العنف بعزلة اقتصادية، ولكن يمكنهم تعويض العديد من الخسائر، وهو ما سيؤدي إلى استقرار الكوكب.

التعليقات