كيف نعيد التفكير في الوقت بعيدًا عن السَّاعة الرأسماليّة؟

حقق كتاب «عن أهمية عدم فعل أي شيء» نجاحًا كبيرًا خلال الجائحة لتقديمه طرقًا لإبعاد انتباهنا عن العمل وعن الشاشات ونحو العالم الأوسع، ولأنه ساعد القراء إعادة تكوين أنفسهم بوصفهم كائنات متجسدة في سياق جيوغرافي فريد

كيف نعيد التفكير في الوقت بعيدًا عن السَّاعة الرأسماليّة؟

(Getty)

تميزت الحياة في أثناء إغلاقات الجائحة بأن الوقت فيها كان آخذاً في الذوبان، حيث فقدنا المقدرة على التعامل معه. امتدت الأيام لسنوات. وانسلت الأسابيع من بين أيدينا. في تلك السنوات مع عودتنا إلى داخل بيوتنا، اختفت العلامات الزمنية التي اعتدنا عليها، ولم تعد حياتنا مرتبطة بالوقت. بالنسبة للكثيرين منا، كان الشيء الوحيد المتبقي هو العمل، والذي كان يهدد باكتساح وابتلاع الفائض الهائل من الوقت.

كانت هذه اللحظة، كما كتبت جيني أوديل في كتابها الجديد «توفير الوقت»، لحظة كايروس، وهي "الوقت" باللغة اليونانية، وتعني الوقت بوصفهِ لحظة حرجة للاختيار بحيث تصير الاحتمالات الأخرى مرئية، وقالت «أجد في كايروس طريقة إنقاذ لحياتي وحياتنا، مفهوم جريء لتخيل أمر مختلف».

جيني أوديل، كاتبة وفنانة، كان كتابها «عن أهمية عدم فعل أي شيء» في قائمة الكتب الأكثر مبيعًا عنده نشره في عام 2019، وتحاول الآن في «توفير الوقت» إظهار مدى اصطناع المفاهيم الرأسمالية للوقت، وإثبات تشكلها بسبب الظروف التاريخية والثقافية، وتقدم مفاهيم بديلة أخرى حديثة وأكثر حيوية. ومع تواصل الجائحة وظلها الثقيل، يقدم لنا التغير المناخي تعريفًا أكثر دقة للوقت، حيث أخذ يتلف حولنا، مسرعًا تارة، ومبطئًا تارة أخرى، حيث يبدو كوقت خطي حتمي أحيانًا، أو كوقتٍ متقلبٍ عشوائي في أحيانٍ أخرى. قرأت نكتة على تويتر تقول إننا نعيش الآن أحلك وأغبى جدول زمنيّ، ونشهد نهاية العالم. تحاج أوديل في كتابها أن بإمكاننا إيجاد مساحة للاعتناء بنفوسنا وبكوكبنا المريض في الفراغ الذي نجده خارج أوقات العمل.

يسعى كتاب «توفير الوقت» للتعامل مع مشكلة الرأسمالية وسبل تشويهها لحياتنا، بعيدًا عن نصائح خبراء الإنتاجية على لينكدإن، كما يسعى كتاب «الرعاية الذاتية الحقيقية» للهدف نفسهِ، وهو كتاب جديد لپوجا لاكشمين، الطبيبة النفسية والكاتبة المساهمة في نيويورك تايمز، ويندرج تحت تصنيف «المساعدة الذاتية» ويهدف إلى تقديم نصائح للرعاية الذاتية تتجاوز إخبار الأفراد بشراء كريمات وجه باهظة الثمن، ويساعد القراء على كيفية العيش إلى جانب الاعتداءات المنهجية للرأسمالية وعلى إيجاد طرق لتغيير النظام.

يُشكل الكتابات معًا دليلًا عمليًا للعيش في وقتٍ لم يعد فهم الوقت فيه ممكنًا.

لقد تدربنا على التعامل على أن الوقت = المال، هل يجب أن يكون الأمر كذلك؟

حقق كتاب «عن أهمية عدم فعل أي شيء» نجاحًا كبيرًا خلال الجائحة لتقديمه طرقًا لإبعاد انتباهنا عن العمل وعن الشاشات ونحو العالم الأوسع، ولأنه ساعد القراء إعادة تكوين أنفسهم بوصفهم كائنات متجسدة في سياق جيوغرافي فريد. ويقوم كتاب «توفير الوقت» على الفكرة نفسها تقريبًا، ولكن بالتركيز على الوقت هذه المرة بدلًا من الانتباه: لإيجاد طرقٍ لزعزعة إحساسنا بالوقت بعيدًا عن وقت الرأسمالية، والتي ترى الوقت بوصفهِ موردًا يجب استخراجه، وأن نعيه بمعنى أكثر شمولية، أي بوصفهِ قوة إبداعية، ويشمل هذا يشمل المقياس الزمني الجيولوجي الهائل والمقياس الدقيق للحياة النباتية.

فحوصات فيروس كورونا (Getty)

يمثل «الوقت» موضوعًا نظريًا أكثر من الانتباه، وهو ما ممكن «توفير الوقت» من أن يكون كتابًا معرفيًا لثراء موضوعه، ولكن الأمر نفسه أفقده الميزة الانفعالية التي حققت لكتاب «عن أهمية عدم فعل أي شيء» نجاحًا كبيرًا. تقدم أوديل لنا حقائق متعددة حول تاريخ تفكيرنا في الوقت، وهو ما يدفعنا لملاحظة مدى غرابة وقت العمل الاصطناعي الحديث.

تخبرنا أوديل أن وقت الساعة نتاج الغزو الأوروبي: إذ ظهر للمرة الأولى على يد رهبان العصور الوسطى الذين كانوا رغبوا في تنسيق أوقات الصلاة في أوقات محددة من اليوم، واعتمد هذا النظام لاحقًا بواسطة نظام السكك الحديدية البريطاني لتعمل كل القطارات وفقًا للجدول الزمني نفسه. رُفضت الساعات الغربية في الصين في أواخر القرن الثامن عشر باعتبارها «مجرد شذوذ معقد، مخصصة لإمتاع الحواس، ولا تساعد في تحقيق الاحتياجات الأساسية»، وقد كانت الحياة تنظم هناك وقتها وفقًا لتواريخ التقاويم وليس بالسَّاعة.

أما الآن، فالوقت في الصين مختلف جدًا، إذ تعيش البلاد بأكملها وكل متر مربع منها بتوقيت بكين منذ عام 1949، بغض النظر عن بعدها هنا. تقع شينجيانغ على بعد 1000 ميل (1609 كم) إلى الغرب من بكين ومحورًا لسكان الأويغور الأصليين. صمدت شينجيانغ تاريخيًا ضد وقت العاصمة، وواصلت استخدام توقيتها (المتأخر بساعتين)، إلى أن قمعت الحكومة الصينية مؤخرًا، ضمن حملة الإبادة الجماعية للأويغور، وقت المنطقة، وأشارت أوديل إلى أن السلطات الصينية اعتقلت رجلًا لضبطه ساعة يده على توقيت شينجيانغ بدلًا من بكين، وأعلنت الحكومة الصينية أن هذا الفعل إرهابي. الطريقة التي نقيس فيها الوقت سياسية، وتنطوي هذه السياسة على أخطار جمَّة.

تعلمنا في الغرب على التفكير في الوقت بوصفه سلعة تُباع وتشترى. نبيع وقتنا لأصحاب العمل، غالبًا 40 ساعة في الأسبوع أو أكثر، ثم يحاول أصحاب العمل اقتناص المزيد من الوقت منا. تستولي رسائل البريد الإلكتروني على أوقات الموظفين خارج المكاتب؛ ويعمل العاملون بالساعة في انخفاض في القوى العاملة ولساعات غير محددة. يدعونا «توفير الوقت» للابتعاد عن رؤية الوقت بهذه الطريقة، وإلى التفكير فيه على أنه عرضي تاريخي وليس بوصفهِ قانون من قوانين الطبيعة، وتضيف «لا أعتقد أن الناس يرون الوقت مالًا؛ لأنه يريدون ذلك، بل لتوجب ذلك عليهم»

حل أوديل لهذه المشكلة ليس عبر دعوتنا جميعًا لترك وظائفنا، ولا لاختيار التقاعد المبكر (على الرغم من أنها تقترح تجربة العمل بالحد الأدنى وألّا نعطي العمل كل ما لدينا، وهو ما يشبه الاستقالة الصامتة)، بل تقترح علينا التفكير في وقت فراغنا على أنه وقت نركز فيه بفاعلية على تعميق فهمنا لأنفسنا والعالم من حولنا، بدلًا من النظر إليه على أنه وقت هادئ لنرتاح فيه، ولنعود للعمل بنفسية أفضل.

كتبت أوديل أن التفكير في وقت الفراغ بهذه الطريقة لا يصبح «تجربة يجب استهلاكها أو هدف يجب تحقيقه»، بل «حالة ذهنية أو وضعًا عاطفيًا، لا يمكن تحقيقه، على خلاف النوم، بمجرد الاسترخاء». وتشبه توصياتها للوصول إلى هذه الحالة الذهنية توصياتها السابقة في كتاب «عن أهمية عدم فعل أي شيء»: ابحث عن جزءٍ من منظر أو مكانٍ طبيعي، مثل فرع شجرة ما، وراقبه عن كثب، ولاحظ كيف يتغير يومًا بعد يوم. انضم إلى إحدى مجموعات المساعدة المحلية. اهتم بمجتمعك. واكتشاف ما إذا كان إعطاؤك وقتك لشخصٍ آخر يؤدي إلى إثرائه، بدلًا من ضياعه، واشعر بالوقت الذي يتوسع من داخلك إلى خارجك.

هل يمكن أن يؤدي تعلمنا للدفاع عن أنفسنا إلى تغيير منهجي؟

فكرة أن مساعدة الآخرين تساعدنا فكرة أساسية في أطروحة كتاب «الرعاية الذاتية الحقيقية»، حيث تحاج لاكشمين، أننا ومن خلال تخصيص بعض الوقت لأنفسنا، فسنكون قادرين على إيجاد مساحة لإحداث تغيير منهجي في العالم، وتقول إن مشروعها يهدف للتمييز بين ما تسميه الرعاية الذاتية الحقيقية والرعاية الذاتية المزيفة، والتي تروج لها صناعة العافية عبر اليوغا والعصائر الخضراء، وتؤكد بأن الرعاية الذاتية الحقيقية تعني تحديدك لقيمك ورسم حدودٍ ثابتة لحياتك.

(Getty)

ولم تصل لاكشمين لهذه الحجة بسهولة ويُسر، إذ أصيبت في أثناء إقامتها الطبية كطبيبة نفسية، بخيبة أمل من نفس المشكلة التي يهدف الكتاب إلى معالجتها: كان العديد من مرضاها يعانون من مشاكل منهجية، وليست مشاكل نفسية. كانوا بحاجة إلى رعاية الأطفال والتأمين الصحي، لكن كل ما كان بإمكان لاكشمين تقديمه لهم هو مضادات الاكتئاب والعلاج. وأشارت لاكشمين بأن قرارها لم يكن لأن الناس كانوا «يشعرون بالإرهاق، بل بالخيانة»، خيانة الدولة للأفراد، وفشلها في تزويدهم بما يحتاجون إليه ليعيشوا حياتهم.

بدت هذه المشكلة محبطة للغاية للاكشمين في أثناء إقامتها لدرجة أنها تركت الدراسة للانضمام إلى مجتمع صحي يركز على التأمل في اللذة. حقق مكتب التحقيقات الفيدرالي مع المجموعة في وقت لاحق خوفًا من أن يكونوا طائفة دينية، إلا الكاتبة أمضت معهم عامين فقط قبل هروبها. كانت مقتنعة في ذلك الوقت بأنها وجدت الحل لإرهاقها في هذه المجموعة التي روجت لنفسها على أنها مدينة فاضلة للنساء واحتياجاتهن وأجسادهن. لم تكن قادرة على المغادرة إلا بعد أن بدأت تعتقد بأن ممارسة الصحة والعافية النفسية الفردية لا تقدم حلولًا لكل شيء.

وبذا فإن لاكشمين تعلم، كما يظهر في كتابها، مدى إغراء صناعة العافية والتي تروج لنفسها على أنها حل لمشاكلنا جميعًا، وتخبرنا «لقد أغرتني هذه الصناعة بخيال أن الحل خارجي، ويكون ممارسة العافية بشروطها ومستحضراتها، وأن بإمكانها تغيير حياتي»، أما الآن فترى الكاتبة أن الرعاية الذاتية الحقيقية لا تكون إلا جوانية.

كتاب «الرعاية الذاتية الحقيقية» ليس تأملًا غنائيًا أو فلسفيًا في موضوعه مثل «توفير الوقت»، بل هو كتاب مساعدة ذاتية حقيقي، ويقدم للقارئ تمارين لتساعده في تحديد قيمه الشخصية ونصائح حول الوقت الضروري للتوجه للأخصائي النفسي. تتفق لاكشمين مع أوديل على أن إمكانية تطور الرعاية الداخلية، فور بدايتها، إلى إصلاحٍ منهجي لاحقًا. وتكتب "يتمثل هدف الرعاية الذاتية الحقيقية في تغيير وتحسين دواخلنا لنتمكن من المضي قدمًا ورفع صوتنا وإظهار إرادتنا للعالم الخارجي، وأرى هذا الفعل يشبه زرع بذورٍ للثورة، فنحن نبذر المستقبل لأنفسنا وللجيل القادم أيضًا».

وتحقيقًا لهذه الغاية، يحفل كتاب «الرعاية الذاتية الحقيقية» بقصص عن نساء يدافعن عن أنفسهن، ويحصدن نجاحات منهجية. سونيا، إحدى مرضى لاكشمين، أم مكتئبة في الثلاثينيات من عمرها، وشعرت بأن زوجها انشغل عنها عندما عاد للعمل بعد ولادة طفليهما. خلال فترة حملها بطفلها الثالث، طلبت سونيا من زوجها أخذ إجازة أبوة هذه المرة (رعاية ذاتية). كان أول رجل يطلب إجازة أبوة في شركة ناشئة صغيرة حيث يعمل، وحث طلبه إدارة الشركة على وضع سياسة إجازة والديّة محايدة جنسانيًا لجميع موظفيها (تغيير منهجي). تكتب لاكشمين: «بدأ الأمر بتعلم سونيا أن ترأف بنفسها».

تعترف لاكشمين بأن هذا النوع من وضع الحدود ليس متاحًا للجميع، إذ سترفض الكثير من الشركات طلب زوج سونيا للحصول على إجازة والدية، بل ولن يطلبها كثير الرجال بالمقام الأول. وتنصح لاكشمين الناس الذين يعيشون ظروفًا أصعب وأكثر خطورة بأن يحاولوا قول «لا» لأشياء ومهام صغيرة، وأن يلاحظوا نتائج فعلهم، وأن يضعوا الخطط بناءً عليها، بما فيها خطط للخروج من تلك الظروف.

وتقترح أيضًا طلب المساعدة من المجتمعات المحلية حولنا في حال توفرها، وتكتب «يزدهر البشر بزيادة علاقاتهم المشتركة»، وتنصح بعدم مقاومة دعم الآخرين لنا، وأن نذكر أنفسنا بأن من يساعد الناس، يُساعده الناس.

تتماشى هذه النصيحة أيضًا مع نصيحة في كتاب «توفير الوقت»: لسنا أفرادًا في بحرٍ من المتاعب لا حول لنا بها، بل نحن بشرٌ بعلاقات إنسانية تحتمل كافة الاحتمالات: التآلف والمساعدة المسؤولية التضامن؛ وتحاج لاكشمين بأن علينا أن نفهم أنفسنا، وما نريده من الآخرين، وما نرغب بتقديمه في المقابل، لتكون قادرين على تحقيق أقصى استفادة من هذه الاحتمالات.

أكبر هدية يقدمها الكتابان لنا: الحياة ليست كما هي مفروضة علينا. ليس علينا أن نعاني عاجزين في عالمنا الحالك والغبي، وألا نسمح للوقت أن يسحبنا معه ونحن نشهد احتراق ما حولنا. يمكننا الخروج من جدران وقت العمل، إلى النطاق الزمني للنباتات، أو لفرع شجرة، أو لرقعة طحالبٍ. يمكننا أن ندافع عن أنفسنا وعن جيراننا. وأن نسبح في ملكوت الوقت بدلًا من الغرق فيه.

التعليقات