أجيال ما قبل النكبة: حُرَّاس الهوية والذاكرة

ذاكرة الأحداث الوطنية تنبض في فؤاده، وهو يجلس بالقرب من العين في الدامون، يحدثنا عن يوم الأرض في العام 1976، إذ كان محركا أساسيا لرص الصفوف في طمرة خاصة لإنجاح هذا اليوم.

أجيال ما قبل النكبة: حُرَّاس الهوية والذاكرة

حسين عبد القادر زيداني (عرب 48)

ما قيمة الإنسان بلا وطن، وما قيمة الوطن بلا إنسان يحمله في وجدانه وقلبه؟ تساؤلات طرحها المُهجّر من الدامون، حسين عبد القادر زيداني، من مواليد العام 1934، ومن سكان مدينة طمرة، اليوم، ذلك أن الخذلان قد طغى على أمله بالعودة إلى منزله في القرية المُهجّرة، على مساحة تقارب دونم ونصف الدونم بجانب عين الماء.

وقال زيداني لـ"عرب 48" إن "الزعماء العرب خذلونا فأُرهق الأمل عندنا بالعودة، فالفلسطيني يعيش النكبة حتى يومنا هذا ولم تنته نكبته، ولكن أين الزعماء العرب لما يجري اليوم؟ للأسف حتى لم نسمع عن مظاهرة في عاصمة عربية ضد ممارسات الاحتلال ومواصلة تهجيره لأبناء شعبنا الفلسطيني".

وأضاف أنه "لا كرامة للإنسان دون وطنه، أرهقني انتظار العودة. نعم هذا المحتل الذي تمكن من اقتلاعنا من بيتنا وبلدنا فشل حتما في مشروعه لإخراجنا من التاريخ، وإن عمل على تهويد الأسماء، ومعالم المكان التاريخية والأثرية والحضارية والبيئية، حتى لو تغيرت بلداتنا ديمغرافيا وجغرافيا إلا أنه فشل في اقتلاع ذاكرتنا الجماعية كشعب فلسطيني، ذاكرتنا حفظت التاريخ متحدية القهر الذي عشناه منذ النكبة، فما من قوة بقادرة على قهر الذاكرة أو دحر الوجدان. نحن أبناء القرى المهجرة عندما نعود إلى بلداتنا نقف فيها وليس عليها، نحن أصحاب الأرض، إن ذهبنا كمجموعة نكون كلاجئ واحد، وأن ذهبنا كشخص واحد يكون بمثابة الجماعة، فنحن بمثابة الحارس لهويتنا وهوية الأرض التاريخية".

في ذاكرة الحاج زيداني تاريخ لا يبلى، فهو يحفظ الأزقة والطرقات والحارات وخارطة البيوت والعائلات في الدامون، ومدرسته المكونة من صفين، الأول والثاني، وقد حاول رسم خارطة الدامون بشكل تفصيلي، ولكنه يؤكد على حاجته للمساعدة في الرسم والتخطيط لعدم خبرته في هذا المجال، وقد حاول سابقا، لكن إمكانياته المهنية المحدودة في الرسم لم تساعده".

وعن ذاكرة التهجير ومرارة النكبة، قال زيداني إن "الحديث قد يستغرق ساعات طويلة، ذلك أن الذاكرة تحمل في طياتها تفاصيل لتاريخ شعب عشت أحداثه منذ الطفولة حتى الشباب، فقد عشت يتيما بعد أن فقدت والدي المدلل لجدي الذي كان يخاف عليه من حرارة الشمس، فقد مات عام 1945 وبقيت مع أختين وأخوين لي، لنتهجر بعد ثلاث أعوام، فما أن وصلنا كفر مندا حتى وصل أفراد من جيش الاحتلال ليعتقل شباب آل زيداني وكان عددهم 21 شابا، وقد تزوجت إحدى أخواتي في كفر مندا وهي والدة رئيس لجنة المتابعة سابقا، محمد زيدان، واستقرت العائلة في طمرة تتذوق مرارة التهجير، واضطررت للتوجه إلى العمل في يافا واللد في قطف ثمار البيارات هناك، ذلك أن أخي الكبير بقي في المعتقل طيلة عام تقريبا".

وأشار إلى أنه "من ذاكرة التهجير التي لا تفارقني أكوام التراب التي كانت تفوح منها رائحة الموت لقبور جماعية لفلسطينيين تم دفنهم بجانب منطقة المحطة في اللد، إذ بقيت هناك أعمل طيلة شهر ولم أستطع البقاء بسبب ظروف الحرب، فذهبت للعمل في منجرة في حيفا".

وختم زيداني بالقول إن "الإنسان بلا وطن هو إنسان سلبوا كرامته. أكبر خطأ ارتكبناه خروجنا من الدامون، آه لو بقينا تحت شجرة في الدامون! فمن يخرج من بلده لن يلقى وطن وقد فقد تاريخه وكرامته".

"بوصلة الثبات والعودة للوطن أمانة الأجداد للأحفاد"

أمر ما يشغل سمير عثمان، في كلامه، وعينيه، وأنفاسه، فتستبق دمعات الحنين للعودة إلى أرض الدامون التنهدات التي تتعرج مع كلماته الثابتة على بوصلة العودة، يجلس المُهجّر من مواليد قرية الدامون ومن سكان مدينة طمرة، على أطلال قريته، متقلبا، والحزن قد احتل ملامحه.

حسين زيداني يشير إلى منازل الدامون (عرب 48)

وقال عثمان لـ"عرب 48" إن "أهل بلدي طمرة بجميع عائلاتها احتضنونا منذ تهجيرنا. تقاسمت عائلتي المياه والبرغل والمكان لدى عائلتي مريح ومجدوب أولا، لولا هذا الإيواء لتشرد أبناء الدامون في سورية ولبنان والأردن. بقاؤنا إلى جانب قريتنا أتاح لنا الحفاظ على بوصلة الثبات في أرض الوطن".

ذاكرة الأحداث الوطنية تنبض في فؤاده، وهو يجلس بالقرب من العين في الدامون، يحدثنا عن يوم الأرض في العام 1976، إذ كان محركا أساسيا لرص الصفوف في طمرة خاصة لإنجاح هذا اليوم.

في عامه الـ74 لا يتوانى المُهجّر عثمان عن المشاركة في أية نشاط وطني، وأكد "لا أتقاعس عن تلبية نداء وطني في تحقيق حقوق شعبي، لم أتغيب عن أي مظاهرة، لقد كسرنا حاجز الخوف عند الناس قبل عقود، إذ ساد تخوف سابقا بين صفوف الناس حول إمكانيتهم لمواجهة القرارات العنصرية ضدنا، لكن الناس بدأت تتفاعل لاحقا مع المطلب العام في الحراك الوطني".

وقال عثمان إن "وحدتنا في العام 2015 زعزعت السلطة القائمة، فبدأت تبحث عن سبل لتفكيك هذه الوحدة، فاخترقت صفوفنا وتمكنت من التغلغل من خلال توزيع السلاح وانتشار العنف والجريمة ضمن مخطط سلطوي ضد جماهيرنا العربية".

وأكد أن "الإيمان بحق العودة ثبته والديّ في نشأتي الوطنية، بوصلة الدفاع عن حقنا في إقامة دولتنا والعودة لأرضنا هي أمانة تناقلتها الأجيال من جيل النكبة ولأحفادي أمررها، علني أهنأ بعودتي إلى الدامون، ورؤية أبناء شعبي في ظل دولتهم الفلسطينية وقاد عاد المُهجّر وتحرر الأسرى. نحن أبناء الكادحين، اضطررت لترك تعليمي والتوجه للعمل من أجل مساعدة والديّ، وقد ربيت كادحا ثلاثة أبناء وثلاث بنات، كنت أعمل في الترميمات، وبعد العصر أذهب لأساعد زوجتي وأبنائي في قطف الخيار من سهول طمرة. لن ننال المجد بسهولة، ربيت أبنائي وأحفادي على الثبات على بوصلة الوحدة والتواصل مع الشعب والوطن حتى تحقيق طموح شعبنا في الحرية والاستقلال والعودة".

سمير عثمان (عرب 48)

وختم عثمان بالقول أن "قريتنا الدامون لن تغيب عن ذاكرة أحفادنا، وللعودة هم يخيطون ثوب اللقاء مطرزا بحلم أجلته النكبة وأحاكته خيوط بالصبر والإيمان لنيل حقنا بالتلاقي، فلم تكتمل النهاية بعد، وهناك من ينتظر".

التعليقات