الفول... من ذاكرة الاستبعاد

لم يتصالح المجتمع الصهيونيّ مع الفلافل إلّا من بعد الإطاحة بالفول منها لصالح الحمّص، ففي تقرير نشره مستشفى هداسا سنة 1940، يصف أنّ اليهود المغاربة كانوا يصابون بمرض اسمه "الفوليك"، أي أنّهم يمرضون إذا أكلوا الفول

الفول... من ذاكرة الاستبعاد

(Getty)

يظلّ الفول في متخيّلنا الاجتماعيّ الشعبيّ توأمًا مقرونًا بالحمّص وملحوقًا به في ثنائيّة تمامًا مثلما هما المنّ والسلوى، هما الحمّص والفول، لا بل نقول "حمّص فول" أحيانًا، مسقطين واو العطف من بينهما.

صادر الصهاينة الحمّص منّا، في محاولة منهم لإعادة اقتراحه علينا، وعلى العالم بوصفه مأكلًا إسرائيليًّا، بينما تركوا الفول، لا بل استبعده الصهاينة منذ مراحل مبكّرة من غزوهم البلاد؛ فالفلافل، ذلك المأكل الشعبيّ الّذي بات متّصلًا ببلّ الحمّص وهرسه، كان في تكوينه التاريخيّ مشتقًّا من الفول لغة واصطلاحًا، فالفلافل في اسمها؛ لأنّها من الفول، ومنه كانت تعجن الفلافل تاريخيًّا.

عمومًا، لا يملك الحمّص ذاكرة الفول، فلهذا الأخير سيرة تاريخيّة طويلة من التحريم والتقديم على موائد الطعام، كما للفول حمولة رمزيّة في ثقافات وحضارات شعوب المتوسّط ظلّت متّصلة بالسياسة والاجتماع، إلى أن صارت له حكاية أكبر من أن يصادرها الصهاينة والغزاة، وذلك منذ أن كان الفول علفًا للحيوان.

فول أخضر وسيرة سوداء

لم يكن الفول غذاء للبشر، إنّما علفًا كان يقدّم للبهائم والدوابّ في مصر الفرعونيّة قديمًا، ومع أنّ الروايات تعيد أصل استنبات الفول وأكله إلى المصريّين، إلّا أنّ هيرودوت Herodotus قد ذكر بأنّ المصريّين لم يزرعوا الفول ولم يأكلوه، بل إنّهم لم يكونوا يستطيعون النظر إليه(1)، وإن صحّ قول هيرودوت، فهو لا يلغي أنّ المصريّين هم أوّل من استنبت الفول منذ أن كان علفًا للحيوان، ثمّ "سمادًا" للأرض، إذ كان يزرعه فلّاحو مصر وبرّ الشام في الأراضي المحصودة من القمح مباشرة، لأنّ الفول يغني تربة الأرض.

لم يتحوّل الفول إلى غذاء بقرار، إنّما المجاعة الّتي ضربت مصر عندما احتلّها الهكسوس هي من دفعت المصريّين إلى أكل الفول بديلًا عن الحبوب واللحم معًا، ومن هنا، ظلّ الفول يحمل علامة سمعته المتّصلة بالفقر والجوع. ألم يكن المثل الشعبيّ لدينا عن الفول، يقول إنّه: "فطوّر الأمير وغدا الفقير وعشا الحمير" في محاولة للتذكير به بوصفه علفًا في منشأه.

وإلى تلك المراحل المبكّرة تعود حكاية "تمس" الفول، وهي الطريقة الّتي جعلته صالحًا للأكل، لأنّ قشرته السميكة حالت دون ذلك، ممّا اضطرّ المصريّين إلى نقعه بالماء في إناء من الفخّار ودفنه في الرمال الساخنة أو في رماد مواقد نار الأفران لتسويته، وتحوّل تعبير "تمسّ" إلى "دمس" مع الزمن، ومن هنا جاءت كلمة "مدمّس" الفول، الّذي صرنا لاحقًا نطلقه على بلّ الحمّص وهرسه، بينما تقول رواية أخرى عن أصل دمس الفول، إنّ عامل حمّام في مصر القديمة من أصل يونانيّ اسمه "ديموس" كان قد دسّ قدر من الفول في القمامة المحترقة داخل مستوقد نار الحمّام، إلى أن نضج الفول وصار مدمّسًا فنسب إليه(2).

ليس الفول من الحبوب في عرف وتعريف شعوب حوض المتوسّط، إنّما هو من "القطّان" مثل العدس والحمّص، بينما يعتبر القمح والذرة حبوبًا، غير أنّ الملفت هو تلك الذاكرة التاريخيّة من تحريم الفول والنصح بتجنّبه، خصوصًا لدى اليونانيّين.

في كتابه حول الفيثاغوريّين يقول أرسطو، إنّ فيثاغورس أمر بتجنّب تناول الفول الأخضر، إمّا لأنّه شبيه بالأعضاء التناسليّة، أو لأنّه يشبه أيضًا أبواب هادس - ذلك لأنّ الفول هو النبتة الوحيدة الّتي لا تحتوي على مفاصل - أو لأنّه نبات مدمّر، أو لأنّه شبيه بطبيعة الكون، أو بسبب النظام السياسيّ الأوليغاركيّ حيث كان يستخدم الفول فيه في القرعة(3).

ووفقًا، لبليني Pliny الأكبر، ينبغي تجنّب الفول كغذاء، لأنّه يحتوي على أرواح الموتى، ممّا يفسّر استخدام الحبوب والقطّان في القدّاس التذكاريّ الّذي كانت تقيمه الكنائس تاريخيًّا لأقارب الموتى، وفي استشهاد آخر لأثينايوس، قيل إنّ أكل الفول "يماثل أكل المرء رأس أحد والديه"، أمّا عن فرفوريوس، فإنّ تحريم الفول متّصل بحكاية نشأة الكون؛ "ففي البداية كان نشوء الكون وخلق الكائنات الحيّة في حالة اضطراب، وقد تجمّعت العديد من البذور مع بعضها، وزرعت في التراب، وتعفّنت جذورها معًا، وشيئًا فشيئًا تمّت الولادة، وهنا حدث الفرق بين الحيوانات الّتي ولدت، والنباتات الّتي نبتت. لذا، فإنّ الإنسان قد ولد من نفس الخامة الّتي نما منها الفول"، وقد قدّم فرفوريوس دليلًا لا يمكن دحضه، وهو أن نقوم بشقّ قرن الفول وقضم الحبّة بالأسنان، ثمّ تعريضها قليلًا لأشعّة الشمس، فبعد فترة وجيزة سنكتشف أنّها أفرزت رائحة أشبه برائحة مني الإنسان".

لا بل ادّعى هذا الأخير، أنّه إذا ما قام المرء عندما تزهر نبتة الفول بأخذ لبّ الزهرة حين تصبح سوداء، ثمّ وضعها بعد ذلك في إناء خزفيّ محكم الإغلاق، ودفنه مدّة تسعين يومًا، سيجد بعد استخراجها وفتحها، أنّ ما يشبه رأس طفل قد تشكّل مكان لبّ الفول، أو قد يجد شكل عضو أنثويّ(4). أمّا وصف أرسطو نفسه للفول على أنّه "مدمّرًا" فذلك نظرًا لتأثيره الفسيولوجيّ الّذي يتراوح بين انتفاخ البطن والخبل، وهذا ما صار مرضًا يطلق عليه في الطبّ الحديث اسم "التفوّل".

ولدى أرسطو أيضًا تفسير سياسيّ ذو طابع رمزيّ قدّاسيّ للفول، وذلك بارتباطه بحكم النظام الأوليغاركيّ، إذ كان الفول رمزًا للديمقراطيّة، حيث استخدم كقرعة في توزيع المناصب الرسميّة بديلًا في أثينا عن الورق في علب الاقتراع، ولم يكن الفول هو الخضار الوحيد الّذي امتنع اليونانيّون عنه، فقد تجنّبوا البصل أيضًا لأنّه "النبات الطبيعيّ الوحيد الّذي ينمو ويزدهر مع أفول القمر".(5).

لم يعرف عن صنف من الحبوب أو القطّان بأن تسلّل إلى المخيّلة الشعبيّة عند الناس، مثلما فعل وتسلّل الفول؛ ففي فلسطين كانت حكاية "الغول" متّصلة بالفول وحقل نباته الّذي لم تكن الغولة تعرف غيره لتزرعه، كما في حكاية "نصّ نصيص" الشعبيّة الشهيرة، فإنّ بطلها ينجو من الغولة لأنّه استعان بحفنة من الفول كعشاء له، وبحسب بعض المعتقدات الشعبيّة، فإنّ العفاريت والجنّ تنام وتقيل من ظهيرة كلّ يوم في حقول الفول للحدّ الّذي كان يوصي فيه الأهل أطفالهم بعدم الاقتراب أو اللعب بحقل الفول(6). ومن هنا، وجد ذلك الرابط اللفظيّ والشعبيّ معًا ما بين الفول والغول، هذا فضلًا عن تسلّل الفول إلى المثل الشعبيّ الفلسطينيّ مثل قول المثل "السنّة المليحة بتبيّن من فولها وسخولها".

الفول والطبقة والاستعمار

رغم تصالح جميع الطبقات والفئات الاجتماعيّة مع الفول حديثًا، وتحديدًا كوجبة على مائدة الإفطار، إلّا أنّ الفول بقي يمثّل نقطة فصل واضحة بين الطبقات الاجتماعيّة، وهذا ما تحيل إليه المسمّيات الشعبيّة الّتي ألصقت بالفول، فالمصريّون يطلقون عليه "حمّال الأسيّة" في إشارة إلى ذاكرة الأسى والجوع، فالفول ملاذ جوع الفقراء، كما ويطلق عليه بعض المصريّين اسم "كباب الغلابة"، إذ اعتبر في ذاكرة بطون الطبقات الدنيا بديلًا عن اللحم، بينما يسمّيه السودانيّون "حبيب الشعب" في إحالة مشابهة إلى شعبيّة الفول.

ما يزال المصريّون يعجنون الفلافل أو "الطعميّة" بمسمّاها المصريّ من الفول لا الحمّص كما هو الحال عندنا في فلسطين، على الرغم من أصالة طبق الحمّص والفول في بلادنا ما قبل الاستعمار الأجنبيّ لها في مطلع القرن العشرين، إلّا أنّ للذائقة الاستعماريّة تأثيرًا في مطبخنا أو علينا إذا صحّ التعبير، وذلك من ناحية تقديم الحمّص على الفول؛ فالمهاجرون من اليهود الصهاينة الأوروبّيّين وكذلك البريطانيّين لم تكن ألسنتهم تألف الفلافل ولا الحمّص ولا الفول كـ"مدمّس"، فقد تعرّف اليهود الصهاينة إلى الفلافل عبر اليهود اليمنيّين، والّذين كانوا يعجنون الفلافل من الفول أسوة بالتقليد المطبخيّ السائد في المنطقة، وقد استبعدت سلطات الصحّة البريطانيّة الفلافل ليس لأنّها كانت تباع على البسطات المتجوّلة في شوارع مستعمرة تلّ أبيب ولدواعي صحّيّة فقط، إنّما كانت شرطة سلطات الاستعمار تركل عربات الفلافل لأنّه "طعام الفقراء" (7)، في نزعة استعماريّة ذات مسوح طبقيّة.

لم يتصالح المجتمع الصهيونيّ مع الفلافل إلّا من بعد الإطاحة بالفول منها لصالح الحمّص، ففي تقرير نشره مستشفى هداسا سنة 1940، يصف أنّ اليهود المغاربة كانوا يصابون بمرض اسمه "الفوليك"، أي أنّهم يمرضون إذا أكلوا الفول، وهو نفسه ما يعرف بمرض الـ"تفوّل". وعلى أثره صدرت التعليمات بصنع الفلافل من الحمّص.


إحالات :

1. غرانسي، بيتر، الطعام والمجتمع في العصر الكلاسيكيّ القديم، ترجمة: عليّ للو، كلمة للترجمة، أبو ظبي، 2011، ص158.

2. راجع: سمير، شيماء، تاريخ "الفول المدمّس" أهمّ طبق في حياة الشعب المصريّ، موقع اليوم السابع، 12/6/2017.

3. غرانسيّ، بيتر، المرجع السابق، ص 154.

4. المرجع السابق، ص155.

5. المرجع السابق، ص158.

6. العقرباوي، حمزة، الفول... باكورة خير الشتاء ورمز الحياة، مقالة منشورة على موقع ألترا فلسطين، تاريخ 31/3/2022.

7. أنظر: أبو عدنان، خالد، أكل العمّال في فلسطين، مجلّة القدس، العدد 332، 2016.

8. أبو عدنان، خالد، المرجع السابق.

التعليقات