23/04/2016 - 21:08

لماذا لا نرى جمالنا؟

ذا كنّا أمام هذا كلّه من نماذج الفعل الثّقافيّ الإيجابيّ والحيويّ، لا سيّما أنّ عددًا لا بأس به من تلك الأحداث حقّق مستوًى فنّيًّا ومضمونيًّا عاليًا، واستطاع أن يخلق حالة ثقافيّة نشطة في مواقع تنظيمها، وأن يجذب جمهورًا، فأين تكمن المشكلة؟

لماذا لا نرى جمالنا؟

أنا اسمي فلسطين، مونتريال | الفنّان إل سيد

أينما حللت في هذه البلاد، فإنّك ستواجه كلامًا شبيهًا ومكرّرًا عن هشاشة واقعنا الثّقافيّ الفلسطينيّ وفوضاه، وتحديدًا من أهل الثّقافة أنفسهم.

لكن لحظة، ماذا لو حاولنا أن نقلّب الصّفحات والزّوايا الثّقافيّة المتاحة في الجرائد والمواقع الإلكترونيّة، أو نرصد الأحداث الّتي تنتشر بين الأصدقاء على فيسبوك؟ أن نتابع بعض البرامج الثّقافيّة في القنوات المتوفّرة والإذاعات، ونشارك فيما تيسّر من أحداث؟ حينها قد نتفاجأ بأنّ الواقع يختلف إلى حدّ كبير عن الانطباع السّلبيّ الشّائع حول مشهدنا الثّقافيّ.

كلّ هذا...

خلال الشّهرين الماضيين، مثلًا، شهدت فلسطين من الأحداث الثّقافيّة زخمًا كبيرًا، إذ نظّم متحف محمود درويش أسبوع الأدب العربيّ (7 – 11 نيسان)، مستضيفًا عددًا من الأدباء الفلسطينيّين والعرب، من بينهم الشّاعر قاسم حدّاد والأديب إبراهيم نصر الله، كما يعقد مهرجان رام الله للرّقص المعاصر دورته الحادية عشرة (11 – 26 نيسان) بمشاركة عربيّة ودوليّة، ويتضمّن برنامجه عددًا من المحاضرات والنّدوات والورشات المتعلّقة بموضوع الرّقص.

أمّا في جنين، فنظّم مسرح الحرّيّة مهرجان 'عشر سنين حرّيّة' (4 – 9 نيسان) لمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسه، حضره العشرات من المتضامنين الأجانب، وشمل بالإضافة إلى العروض المسرحيّة، جولات وندوات وورشات ومعرض تصوير وأمسيات موسيقيّة وعرضًا راقصًا. وفي حيفا، نُظِّمَ مهرجان حيفا المستقلّ للأفلام (14 – 19 آذار)، مانحًا الجمهور فرصة مشاهدة ثلاثين فيلمًا تقريبًا، بالإضافة إلى عدد من العروض الموسيقيّة لفرق فلسطينيّة وفنّانين أجانب، وقد اتّخذ المهرجان من مساحات حيفا العربيّة فضاءً لفعاليّاته، مقاهٍ وبارات ومسارح ومؤسّسات مجتمع مدنيّ.

كما اخْتُتِمَ في بيت لحم مؤخّرًا المهرجان الدّوليّ لمسرح الطّفل والشّباب 'يلّا يلّا' (7 – 16 نيسان)، والّذي قدّم عشرات العروض المسرحيّة للأطفال، الفلسطينيّة والدّوليّة، بالإضافة إلى الورشات الثّقافيّة والعروض الموسيقيّة وعروض السّيرك. كما افتُتِحَ في جامعة بير زيت معرض ضخم، حمل عنوان 'ليس كأيّ ربيع' (19 آذار حتّى 30 حزيران)، ضمّ 300 عمل لفنّانين فلسطينيّين وعرب وأجانب، تنوّعت ما بين اللّوحات والنّحت والفيديو آرت، وغيرها، وقد شمل برنامج المعرض عددًا من المحاضرات والورشات ولقاءات مع فنّانين.

بالإضافة إلى الأحداث المركزيّة تلك، يمكن الوقوف على العشرات من الأمسيات الأدبيّة، والعروض والجولات الموسيقيّة، والمحاضرات والنّدوات والمؤتمرات، والمعارض، والإقامات الأدبيّة والفنّيّة، وورشات العمل والدّورات، والتّجوالات، وإنتاج الأفلام، وأشكال الإبداع في الفضاءات الإلكترونيّة، وغيرها، ممّا يخاطب كافّة الشّرائح المجتمعيّة والعمريّة.

حتّى غزّة الجريحة والمحاصرة، تصرّ على أن تكون شريكة عنيدة في المشهد، فمنحتنا خلال الشّهرين الماضيين حفل 'طلّ سلاحي' الموسيقيّ (6 شباط)، وحفل 'ربيع غزّة' الموسيقيّ (25 و 26 شباط)، و'أوبريت عليك السّلام' (30 آذار)، واحتفاليّة اليوم العالميّ للمسرح بمؤسّسة سعيد المسحال للثّقافة والعلوم (27 آذار)، ومعرض 'في حضرة الطّبيعة' للفنّان ماجد شلّا في محترف شبابيك (نيسان)، وغيرها.

هل؟

إذا كنّا أمام هذا كلّه من نماذج الفعل الثّقافيّ الإيجابيّ والحيويّ، لا سيّما أنّ عددًا لا بأس به من تلك الأحداث حقّق مستوًى فنّيًّا ومضمونيًّا عاليًا، واستطاع أن يخلق حالة ثقافيّة نشطة في مواقع تنظيمها، وأن يجذب جمهورًا، فأين تكمن المشكلة إذن؟ ما الّذي يجعل الانطباع السّلبيّ وطاقة الضّعف والاستياء واللّا حيلة تسيطر على المشهد؟ لماذا لا نرى جمالنا؟ ما الّذي ينغّص علينا؟ وما الّذي يمنع كلّ ذلك الزّخم من أن يصبح طاقة نهوض نواجه بها أزماتنا السّياسيّة والاجتماعيّة؟

هل هي منظومة الفقاعات الّتي استسغناها، فحوّلنا بضعة مدن إلى 'مخازن ثقافيّة' مكتظّة ومصابة بالتّخمة، بينما أهملنا مئات التّجمّعات السّكّانيّة، مصرّين على أن يبقى الهامش هامشًا؟ تُرى متّى نُظِّمَ آخر عرض موسيقيّ أو مهرجان مسرحيّ في النّقب أو الأغوار؟ لماذا لا ننظّم مهرجانًا للرّقص المعاصر في أريحا، مثلًا، ونذهب بالحافلات إلى هناك، نحيا المدينة وتحيانا؟

هل هو تهميش الثّقافة في وسائل إعلامنا، وغياب الإعلام الثّقافيّ المتخصّص القادر على النّقد والمساءلة، والّذي يقدّم للقارئ أكثر من مجرّد موادّ إخباريّة وصفيّة جافّة؟ هل لأنّ مؤسّسات المجتمع المدنيّ تجترّ نفسها ولا تعمل بمقتضى احتياجاتنا، بل بما تفرضه، عادة، رغبات المموّل؟ هل لأنّ عددًا لا بأس به من تلك المؤسّسات مكبّلة بأزمات إداريّة وماليّة صنعناها نحن بأيدينا؟ هل لأنّنا ذوّتنا واقع التّشتيت، فلا يعرف الواحد منّا ما يحصل في موقع آخر من الوطن فُرِضَت عليه معادلة استعماريّة/ سياسيّة مختلفة، فصرنا نُسَمّى ابن القدس أو الضّفّة أو غزّة أو الـ 48 أو الشّتات؟ تُرى ماذا نعرف عمّا ينتجه الفلسطينيّون ثقافيًّا في متاحف ومعارض ودور سينما وجامعات ومعاهد العالم؟ سوى صدفة؟

فهيّا نراه...

هل كلّ هذه السّلبيّة لأنّ المشتغل في حقل الثّقافة 'مش لاقي يوكل'؟ وهو بذلك لا يختلف عن أحد من سواد النّاس العاملين في مختلف المجالات، بالمناسبة. أم لأنّ التّشبيك الحقيقيّ، القائم على إنتاج مشاريع ثقافيّة وطنيّة شاملة، ليس من ضمن قاموس عملنا؟ أم لأنّ ضيق الحسابات، الحزبيّة والمناطقيّة والمذهبيّة، تصنع الجماعات والشّلل والقبائل الثّقافيّة؟ هل لأنّ أصحاب القرار لدينا لا يتعاملون مع الثّقافة إلّا أداةً لتكريس واقع سياسيّ مربح لهم؟ أم لأنّ الغثّ كثير، فيبدو السّمين في ظلّه قليلًا، لا سيّما في ظلّ غياب حركة نقديّة قادرة على المساءلة؟ هل لأنّنا لا نملك مشروعًا اجتماعيًّا متجانسًا، بل مشاريع متضاربة؟ هل لأنّ المبدع والمثقّف يقبل في كثير من الأحيان أن ينتمي للبلاط، لا أن يكون في موقع تحدّي السّلطة والتّثوير؟ هل لأنّ استهداف المبدع والمثقّف والمربّي، بالحظر والمنع والحجب، أسهل ألف مرّة من مواجهة تاجر السّلاح والمخدّرات وسمسار الأرض والعميل؟

هل لأنّنا لا نملك مشروعًا سياسيًّا وطنيًّا جامعًا، يسقط المعازل الّتي بيننا، يسحق فكرة الزّنازين الّتي نعيشها، فنبصر بالثّقافة أنفسنا؟ هل؟

نحن نستطيع أن نرى جمالنا لو أردنا، بصفاءٍ ووضوح، وأن نتغلّب به على كلّ تلك الأسئلة. فهيّا نراه!

التعليقات