07/07/2022 - 13:47

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

صورة أبديّة على حائط عالم ليس لنا

غسّان كنفاني (1936 - 1972)

 

في إحدى رسائله لعبد الرحمن منيف، في عام 1994، كتب مروان قصّاب باشي لصديقه عن اللوحة والكلمة فقال: "تحويل اللوحة إلى كلمات مصيبة، تحويل الكلمات إلى لوحة مصيبة أكبر"[1]، في محاولة للتعبير عن صعوبة الكتابة عند مروان، واللغة الخرساء الّتي تاه فيها حين حاول أن يعبّر. ليست هذه الصعوبة قاصرة على مروان الفنّان التشكيليّ، بل على الكتّاب في كثير من أحيان الكتابة والتشكيل اللغويّ الّذي يمارسونه على العالم.

أفكّر في هذه الفرضية الّتي يضعها مروان لنا، بالوجوه العجيبة الّتي يرسمها وبالذهول الّذي أصابني أمام أحدها، وأدرك فعلًا أنّ محاولة وضع اللوحة في كلمات أمر لا يضاهيه في المجاز شيء. لكنّني أحاول أن أسحب هذه النظرة عند مروان من سطح اللوحة إلى سطح الصورة الفوتوغرافيّة. فهل يمكننا القول إنّه من الممكن أن نقرأ الصورة الفوتوغرافيّة كما نقرأ النصّ؟ أو إنّ تحويل الصورة إلى كلمات هو المصيبة الكبرى؟

 

الواقعيّ في الماضي

تكمن المفارقة هنا في المجازيّ والواقعيّ، وما بينهما. إذ تلعب المسافة بين الواقع والمجاز دورًا رئيسًا في التفريق بين اللوحة والصورة، دون التقليل من الجوانب الجماليّة التخييليّة الّتي تستطيع هذه القوالب حملها بطرق مختلفة ومتدرّجة ضمن هذه المسافة. لكنّ ما نراه في الصورة الفوتوغرافيّة، ليس ذكرى أو خيالًا، وكذلك ليس إعادة تشكيل مادّيّ للواقع، بل إنّه كما يصفه رولان بارت في كتاب «الغرفة المضيئة» (2010)، هو الواقع في حالة الماضي، وهو الماضي والواقعيّ في نفس الوقت[2]. بهذا فإنّ الصورة، تفرض على قارئها فكرةً راسخةً حول حقيقتها، لا يمكن أن يطرحها الرسم، ولا أن تستحضرها الكتابة. لا أعني بذلك أنّ ما تطرحه الصورة هو عين الحقيقة، بل أعني أنّ للصورة حضورها الفوريّ في العالم، إذ علينا أن نقبل سلفًا حين ننظر إلى الصورة الفوتوغرافيّة، بتصديق ما تمثّله. هذا هو جوهر الصورة الفوتوغرافيّة كما يشير بارت في كتابه[3].

ما نراه في الصورة الفوتوغرافيّة، ليس ذكرى أو خيالًا، وكذلك ليس إعادة تشكيل مادّيّ للواقع، بل إنّه كما يصفه رولان بارت في كتاب «الغرفة المضيئة»، هو الواقع في حالة الماضي، وهو الماضي والواقعيّ في نفس الوقت...

قادتني صورة غسّان كنفاني (1936 - 1972) الّتي تتبادر إلى أذهان الجميع عند التفكير فيه، إلى التفكير في قوّة هذه الصورة الحاضرة الراسخة حضور اللحظة الآنيّة في العالم، تلك الصورة الشهيرة الّتي اقترنت باسمه واخترقت كلّ ذهن وخيال، تلك الصورة الّتي نفكّر بها معًا، جميعًا في اللحظة نفسها. الصورة الّتي امتزجت بين ما نستطيع تخيّله عن غسّان وبين ما كان يفعله في تلك اللحظة. إذ كيف يمكن لهذه الصورة الفوتوغرافيّة أن تختزل تجربة هذا الكاتب الّذي جرّب أن يكتب المسرح والرواية والقصّة، دون أن تقول كلمة واحدة.

في قصّة «البطل في الزنزانة»، من مجموعته القصصيّة «القميص المسروق»، يخبرنا غسّان عن أحد أسرار كتابته للقصّة، المتمثّلة في كتابة ما يحترم البطل والحادثة، دون أن يزيد عليها أو ينقص. وكأنّه يواجه ألسنة النقّاد وقتها من خلال السرد ذاته، حيث يدافع عن أهمّيّة عدم تغيير الحوادث أمام ما يسمّيه الآخرون بالبناء الفنّيّ:

 "لكي تكتب عن هذه الحادثة نفسها قصّة ناجحة يقول عنها النقّاد إنّها ’مكتملة البناء الفنّيّ‘ فكيف ستتصرّف يا ترى؟ وهل تجيز لنفسك أن تغيّر الحوادث الّتي وقعت، أو تضيف عليها حوادث جديدة كي تنسجم مع ما يسمّونه ’البنيان الفنّيّ للقصّة‘؟ وإذا أجزت لنفسك ذلك، فهل تعتقد أنّك تكون في مستوى القضيّة الّتي تعذّب البطل من أجلها؟".

يحاول غسّان في هذه القصّة الّتي تتحدّث عن القصّة، أن يلتقط لحظة القصّة نفسها، ويثبّتها كما هي، دون زيادة أو نقصان؛ لذلك يصرّ على ترك بطلها في الزنزانة دون أن يغيّر مصيره أو يعبث به. هكذا كانت حقيقيّة أمّ سعد تمامًا في كتابته عنها، وكما كان ’أبو إياد‘ حقيقيًّا في فيلم مهدي فليفل «عالم ليس لنا» (2012) الّذي صنع فيلمه بالأسلوب ذاته الّذي يحدّثنا عنه كنفاني ويحاول تحقيقه. لقد أراد كنفاني من خلال هذه القصّة أن يخبرنا عن إيمانه بالتقاط الحادثة كما هي، كما تَلْتَقِطُ الصورة اللحظة كما هي:

 "إنّ أصعب ما في كتابة القصّة هو التخلّص من ذلك الافتعال (...) الافتعال اللزج الّذي يثقل طبيعة القصّة ويعرقل انسياب حوادثها".

قد تذكّرنا الفوتوغرافيا بالماضي، قد تدفعنا إلى لحظة من حنين، لكنّها تختلف عن التاريخ الّذي يدفعنا نحو فخّ إمكانيّة استرجاع ما مُحِي، بالزمن والمسافة. أمّا الصورة الفوتوغرافيّة، فتثبت لنا دائمًا أنّ ما نراه الآن قد وُجِدَ بالفعل[4]؛ أنّ هذه اللحظة الملتقَطة بين جدران زنزانة هذه الصورة، هي لحظة واقعيّة، هي لحظة وُجِدَت فيها كلّ عناصر الصورة في واقع ماضٍ، أي أنّها حدثت. وهذا ما يدفعنا إلى الدهشة ربّما، إلى الشعور الّذي يسحبنا من اللحظة ذاتها نحو الصورة فقط.  

 

صورة أبديّة على حائط العالم

ليست مهمّة الصورة الفوتوغرافيّة، كما يشير بارت، أن تقول ما لم يعد كائنًا وموجودًا، لكنّها حتمًا تشير إلى ما قد كان موجودًا. لا تهتمّ الصورة بغياب ما ومَنْ فيها، بل تهتمّ بأن تقول لنا إنّ ما ومَنْ فيها، قد كان موجودًا فعلًا[5]. حيث لا يمكننا حين نقرأ أيّ صورة فوتوغرافيّة ماثلة، أن نعرف ما إذا كان ما فيها ومَنْ فيها ما زال موجودًا، لكنّنا نعرف أنّه قد وُجد. هكذا، تظلّ هذه الصورة الأثيرة، والعابرة لحدود لحظتها، ولكلّ قوانين اللون، والضوء والتصوير، تظلّ صورة غسّان كنفاني، حاضرةً في مخيالنا الأدبيّ والإنسانيّ، كأنّها أقوى نصوصه - الّتي آمن كنفاني فيها بنفس فكرة الصورة الّتي تستطيع أن تثبت ما قد كان فعلًا لا ما لم يعد كائنًا - بل هي نصّه الخالد دومًا، وهي الصورة الّتي لا يمكن للعبوة الناسفة أن تمحوها. إنّها ما قد حدث فعلًا، وهي القصّة الّتي لا تمزّقها الترجمة ولا تطعن بجماليّاتها اللغات الأخرى. هي الصورة الّتي استطاع غسّان بها أن يأخذ مساحته الشخصيّة على حائط هذا العالم الّذي لم يكن له يومًا، ولم يكن لنا، لكنّه كان لصورنا الفوتوغرافيّة، وصور من سبقونا. بهذا تكون الصورة ذاتها - صورة غسّان كنفاني - محاولة ناجحة في استرداد القميص المسروق، إنّها إقرار غسّان نفسه بأنّ هذه القصّة ستنتهي كما "ستغرب الشمس اليوم على طرف الخليج، مثل كلّ يوم"، وبأنّ  "الوضع الهزيل القائم سيتهاوى لا شكّ، وسيخرج رياض من السجن مع زملائه الأحرار، وسينغمس مرّة أخرى في مشاغل القضيّة الّتي آمن بها، وتعذّب من أجلها" – من قصّة «البطل في زنزانة».

تظلّ هذه الصورة الأثيرة، والعابرة لحدود لحظتها، ولكلّ قوانين اللون، والضوء والتصوير، تظلّ صورة غسّان كنفاني، حاضرةً في مخيالنا الأدبيّ والإنسانيّ، كأنّها أقوى نصوصه...

أمّا الناظر إلى الصورة، فقد بقيت له، كما كانت رسالة مسعود لصديقه في مجموعة غسّان القصصيّة «عالم ليس لنا» (1959 - 1963) رسالة من عالم آخر. من لحظة أخرى. تفوق في حضورها قوّة النصوص المتروكة، والرسائل المكتوبة. وكذلك بقيت الصورة للآخر الّذي يريد أن يقتلها دائمًا، وأن يقتل مَنْ يأخذها ومَنْ سيراها لاحقًا.

أخيرًا، تظلّ هذه الصورة، بالنسبة لي، لغزًا لا أعرف كيف أعبّر عنه باللغة الخرساء الّتي تحدّث عنها قصّاب باشي، ولا أعرف سبب عبورها دون غيرها، وثبوتها جنبًا إلى جنب، مع قصص المصوّر الماهر غسّان كنفاني. إلّا أنّني لا أشكّ أنّها ذاتها الّتي نفكّر بها الآن جميعًا.

 

* تُنْشَر هذه المقالة ضمن ملفّ خاصّ يتزامن مع مرور خمسين عامًا على اغتيال الشهيد غسّان كنفاني على يد الاستعمار الإسرائيليّ، تُنْشَر موادّه على مدار شهر تّموز (يوليو) 2022.

 


إحالات

[1] عبد الرحمن منيف ومروان قصّاب باشي، تقديم: فوّاز طرابلسي، في أدب الصداقة، (بيروت: المؤسّسة العربيّة للدراسات والنشر، 2012) ص 21.

[2] رولان بارت، الغرفة المضيئة: تأمّلات في الفوتوغرافيا، ترجمة: هالة نمر، (القاهرة: المركز القوميّ للترجمة، 2010) ص 76.

[3] المرجع نفسه، ص 79.

[4] المرجع نفسه، ص 76.

[5] المرجع نفسه، ص 79.

 


 

موفّق الحجّار

 

 

 

شاعر وكاتب سوريّ، حاصل على ماجستير في الأدب المقارن من «معهد الدوحة للدراسات العليا».

 

 

 

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

خمسون عامًا على اغتيال كنفاني | ملفّ

23/08/2022
مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

مقاومة الانتظار الفلسطينيّ... «الباب» نموذجًا

11/07/2022
غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

غسّان كنفاني... الفنّان التشكيليّ

01/08/2022
قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

قراءة دون رمزيّة في غرائبيّة «القبّعة والنبيّ»

25/07/2022
قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

قنديل كنفاني الصغير... النور بين كانط وأفلاطون ونيتشه

25/07/2022
أن تكون مثقّفًا مزعجًا

أن تكون مثقّفًا مزعجًا

05/07/2022
شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

شعر الأرض المحتلّة... حوار مع غسّان كنفاني | أرشيف

19/07/2022
مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

مأزق الزمن عند كنفاني... إلغاء المستقبل الفلسطينيّ

08/08/2022
"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

"رجال في الشمس" لغسّان كنفاني | ترجمة

19/07/2022
عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

عن الأقلام أكتب... وليس عن الكتب | أرشيف

24/07/2022
أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

أفكار التغيير واللغة العمياء... مَنْ يقتل كنفاني مرّة أخرى؟

01/08/2022
بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

بين شنق سيّد قُطب واغتيال كنفاني

03/08/2022
أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

أدب غسّان كنفاني... حديث في الوعي الثوريّ

18/07/2022
بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

بين الإعجاب وسهام النقد... كنفاني متخفّيًّا وراء ’فارس فارس‘

07/08/2022
«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

«أمّ سعد»... الشجرة الإنسان | ترجمة

14/07/2022
المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

المنهج التركيبيّ وولادة الشخصيّة الأدبيّة الفلسطينيّة

22/08/2022
شمس فلسطين الّتي لا تغيب

شمس فلسطين الّتي لا تغيب

04/07/2022
«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

«عائد إلى حيفا»... زيارة مناطق الصدمة

13/07/2022
غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

غسّان كنفاني في فرنسا... حضور شحيح

16/07/2022

التعليقات