الرؤية والبناء في "منطق كائنات" البرغوثي

مريد البرغوثي (1944 - 2021) | Getty

 

يُعَدّ مريد البرغوثي أحد أعلام الأدب الفلسطينيّ والعربيّ المعاصر، استطاع منذ بداياته أن يختطّ لنفسه أسلوبًا محدّدًا في الكتابة الشعريّة، يستند إلى النبرة الخافتة، وتوظيف تقنيّات فنّيّة في بناء فنّيّ متحوّل، وطرح الرؤى الفكريّة والذهنيّة والنفسيّة بأسلوب جماليّ هادئ؛ ما ساعده على أن يترك بصمته الخاصّة في الحركة الشعريّة. وهو أحد الشعراء الفلسطينيّين الّذين أسهموا في تقدّم المسيرة الشعريّة في الوطن العربيّ.

 إنّ مَنْ يقرأ مسيرة البرغوثي الشعريّة كاملة، وتضمّ ثلاثة عشر ديوانًا: «الطوفان وإعادة التكوين» (1972)، و«فلسطينيّ في الشمس» (1974)، و«نشيد للفقر المسلّح» (1977)، و«الأرض تنشر أسرارها» (1978)، و«قصائد الرصيف» (1980)، و«طال الشتات» (1987)، و«رنّة الإبرة» (1993)، و«منطق الكائنات» (1996)، و«ليلة مجنونة» (1996)، و«الناس في ليلهم» (1999)، و«زهر الرمّان» (2002)، و«منتصف الليل» (2005)، وصولًا إلى ديوانه الأخير، "استيقظ كي تحلم" (2018)، مَنْ يقرأْها يلمس – بكلّ وضوح - التحوّلات والتطوّرات الكثيرة الّتي طرأت على شعره، من حيث الأدوات الفنّيّة والأسلوبيّة وتطوّر بنية القصيدة؛ إذ تجلّى منهجه الشعريّ في بحثه الدؤوب عن أشكال وقوالب فنّيّة جديدة.

 

توقيعات واستنطاق

صدر ديوان «منطق الكائنات» عام 1996، وقد ضمّ أكثر من مئة قصيدة قصيرة جدًّا، وهي - في مجملها - قصائد «توقيعات». وأمّا المقصود بقصيدة «التوقيعة»؛ فهي القصيدة الّتي تقوم على إصابة المعنى بأقلّ عدد من الجمل الشعريّة، والاستناد إلى أسلوب التكثيف والاختزال، وترك الأثر عند المتلقّي، وإثارة مشاعر الدهشة والتشويق والتساؤل وغيرها.

وأمّا اصطلاحًا فيمكن تعريف قصيدة التوقيعة بأنّها نصّ شعريّ، أشبه ما يكون ببرق خاطف، يتّسم بعفويّة وبساطة معتمدة على تركيز عالٍ، وكثافة شديدة مردّها انطباع كامل واحد مستخلص من حالة شعوريّة أو تأمّليّة أو معرفيّة عميقة[1]، وثمّة مَنْ عرّفها بأنّها: "قصيدة قصيرة مكثّفة؛ تتضمّن حالة مفارقة شعريّة إدهاشيّة، ولها ختام مدهش مفتوح، أو قاطع حاسم، وقد تكون قصيدة طويلة إلى حدّ معيّن، وتكون قصيدة توقيعة إذ التزمت الكثافة والمفارقة والومضة والقفلة المتقنة المدهشة"[2].

صدر ديوان «منطق الكائنات» عام 1996، وقد ضمّ أكثر من مئة قصيدة قصيرة جدًّا، وهي - في مجملها - قصائد «توقيعات». وأمّا المقصود بقصيدة «التوقيعة»؛ فهي القصيدة الّتي تقوم على إصابة المعنى بأقلّ عدد من الجمل الشعريّة، والاستناد إلى أسلوب التكثيف والاختزال...

ولعلّ من أهمّ الأسباب الّتي استدعت مريد البرغوثي إلى أن يجعل مجمل ديوانه «منطق الكائنات» توقيعات شعريّة، هو تحوّله الفنّيّ؛ أي بحثه الدؤوب عن أشكال متعدّدة من الكتابة الشعريّة، فقد كان يسعى – دائمًا - إلى التجديد الشعريّ، والبحث عن البناء الّذي يلبّي رؤيته الشعريّة، فاختيار البناء يأتي منسجمًا – بطبيعة الحال - مع الدفقات الشعوريّة، والحالة الخصوصيّة للتجربة. والبرغوثي يدرك تمامًا هذه القضيّة المهمّة، وهو يشير إلى هذا الأمر بقوله: "إنّ الإحاطة بإمكانات البناء تتيح للشاعر أن يتجاوز معضلة التشابه، وأن ينقذ صوته من الكورس. وهنا لا تعود تؤرّقه تلك الشروط ‘الخارجيّة‘ للقصيدة، كأن تكون ‘طويلة جدًّا‘ أو ‘قصيرة جدًّا‘. هنا يتّخذ التجريب شكل البحث عن اقتراحات متجدّدة باستمرار، ويسقط التشبّث بوجهٍ واحدٍ مملول (مهما كان شائعًا وناجحًا) للقصيدة الحديثة"[3].

 أمّا عنوان الديوان «منطق الكائنات»، فهو يشير بوضوح إلى محاولة الشاعر استثمار الطاقة الكامنة في الكائنات كافّة، من: إنسان وحيوان ونبات وجماد، ومحاولة إنطاقها؛ فقد اعتمدت توقيعات البرغوثي على أسلوب «الاستنطاق» – إن جاز التعبير - فهو يُنْطِق من الحيوانات الأفعى والنملة والنحلة والضفدع والعقرب والديك وغيرها، ويُنْطِق من الجمادات أعمدة الكهرباء، والعلكة، والمطبعة، والمخدّة، وكرسيّ الحلّاق، والمرآة، والجبل، وصندوق الانتخابات، والقطار، والأحذية، وغيرها، ويُنْطِق من النبات اللبلاب والروض العاطر. وهو خلال عمليّة «الاستنطاق» يوظّف كلّ هذه الكائنات للتعبير عن رؤيته الفكريّة والنفسيّة، ونقد الواقع وكثير من الممارسات الإنسانيّة الخاطئة.

 

المشترك الإنسانيّ

لقد اهتمّ البرغوثي في معظم أعماله الأخيرة، وفي ديوان «منطق الكائنات» تحديدًا، بما يُسمّى «المشترك الإنسانيّ»؛ أي تقديم حالات إنسانيّة رحبة لا تختصّ بفئة معيّنة أو شعب خاصّ، لكنّها مضامين ومشتركات إنسانيّة عامّة. وحتّى حينما يتناول القضايا الفرديّة أو الوطنيّة، فإنّه يتناولها داخل المنظومة الإنسانيّة. ومن القضايا الإنسانيّة الّتي تطرّق إليها البرغوثي قضيّة المساواة بين الناس جميعًا، وتحقيق العدالة الاجتماعيّة في حياتنا. تتجلّى هذه الرؤية في توقيعة «مساواة»:

قال اليابس للأخضر:

احلم بحرب أهليّة

حتّى نتساوى[4]

 

ولا يخفى مدلول الصورة؛ إذ إنّ "اليابس" رمز الشحّ والعطش والفقر، في مقابل "الأخضر" رمز الرفاهية والينوع والغنى، وما يستوجب ضرورة تحقيق المساواة والعدالة بينهما.

 وأمّا قضيّة التمييز والطبقيّة بين الناس، فهي من القضايا الإنسانيّة المهمّة الّتي ركّز عليها البرغوثي؛ فنراه ينتقد «الطبقة العليا» الّتي تظهر طبقة أنانيّة لا تهتمّ إلّا بمصالحها وشأنها. يقول في قصيدة «انتباه»:

قالت الخادمة الآسيويّة لسيّدها:

انظر يا سيّدي هذه صورة ابنتي

الّتي تركتها مع والدتي هناك...

نعم نعم، إنّه ولدٌ جميلٌ بالفعل

ناوليني جواربي الصفراء[5].

 

 تشير هذه التوقيعة إلى قضايا عدّة، من أهمّها قضيّة الطبقيّة بين الناس، من خلال المقابلة اللفظيّة "الخادمة، والسيّد". وقضيّة عدم الاهتمام واللامبالاة لكلام الأقلّ/ الضعيف/ الفقير/ العامل من خلال المقابلة بين جملتَي: "صورة ابنتي الّتي تركتها مع والدتي"، و"نعم نعم، إنّه ولدٌ جميلٌ بالفعل". وأخيرًا إبراز قضيّة التهميش للآخر بإنهاء موضوع الكلام معه، وظهر ذلك من خلال جملة "ناوليني جواربي الصفراء".

 

 

ونجد في ديوان «منطق الكائنات» نقدًا للسلوكيّات الاجتماعيّة بشكلها الإنسانيّ، بغضّ النظر عن الجنسيّات أو البيئات؛ فهي موجودة في كلّ مكان وزمان. ولعلّ بعض عناوين التوقيعات توحي بنوع من النقد لبعض الصفات السلبيّة في البشر، نذكر على سبيل المثال عناوين مثل: «الأفعى»، و«العقرب»، و«أمراض»، و«رسالة الوحش». ولعلّ اختيار هذه الأسماء خاصّة يستدعي معها الصورة الدلاليّة والنمطيّة المترسّخة في أذهاننا مسبقًا. يقول في توقيعة «الأفعى»:

قالت الأفعى:                           

رغم أنّ البشر يلعنونني                       

أظلّ أفضل من بعضهم                   

وعندما ألدغ أحدًا

فإنّني، على الأقلّ          

لا أدّعي صداقته[6]      

          

تتجلّى رؤية البرغوثي في نقده لسلوكيّات بعض الأشخاص الّذين يُظْهِرونَ خلاف ما يُبْطِنون، يُظْهِرون الصداقة والمحبّة للآخرين، لكنّهم يمكرون بهم في الوقت نفسه. وهو في توقيعة أخرى يشير إلى سلوكيّات سلبيّة أخرى، مثل تعالي الإنسان وتكبّره، الّذي لا ينمّ إلّا عن شخصيّة فارغة ومريضة، يقول:

قالت أسطح المنازل:

تمامًا كبعض البشر

المداخن عالية، وقذرة[7]

 

 ونستطيع أن نلاحظ بسهولة التركيز على مفردة «البشر» وتكرارها في غير توقيعة، حيث استطاعت أن تعطي الناس بعدًا إنسانيًّا عامًّا، لا يخصّ مجتمعًا أو فئة.

 

السياسيّ

وأمّا الموضوع السياسيّ، فهو من المضامين الحاضرة بقوّة في شعر البرغوثي؛ فهو على حدّ قول الناقد إبراهيم خليل: "متورّط في الموضوع السياسيّ حتّى النخاع، غارق فيه حتّى الأذنين"[8]؛ ولذلك نراه يشير إلى القضيّة الفلسطينيّة، وما تتعرّض له من المكائد ومحاولة النيل منها ومن حقوقها، خاصّة في ما يتعلّق بـ «حقّ العودة»، وهو يقدّم هذه الرؤية بصورة مختزلة مكثّفة مليئة بالدلالات والإيحاءات. في توقيعة «المكيدة»، حيث عنوان التوقيعة نفسه أكبر إشارة على ذلك، يقول:

قال المتلهّفون على الدخول

عبثًا احتفظنا بمفاتيحنا طوال العمر...

فقد غيّروا الأقفال[9]

 

ويشير في توقيعة «القضيّة» إلى القضيّة الفلسطينيّة وما آلت إليه، وخاصّة بعد «اتّفاقيّة أوسلو»، وتعدّد المواقف منها من المؤيّدين أو المعارضين، وما نتج عن الاتّفاقيّة من خيبة فارقت آمال الجميع، وكانت القضيّة هي أكبر الخاسرين:

قالت القضيّة الوطنيّة:

أنا كخطّ النهاية في سباق الركض...

الفائزون والخاسرون

- في لحظةٍ من اللحظات -

يدوسونني بالأقدام[10]

 

ومن المضامين المهمّة الّتي تطرّق إليها البرغوثي قضيّة التمسّك بالهويّة، والمحافظة عليها حتّى الرمق الأخير، والإصرار على بقاء الذاكرة الوطنيّة والتاريخيّة، لضمان صيانة الحقوق، خاصّةً في المنفى، ويقدّم ذلك في صورة فنّيّة في توقيعة «بلادي بلادي»:

قال الّذي التفّتْ عليه شباك الموت في المنفى:

السمكة،

حتّى وهي في شبك الصيّادين

تظلّ تحمل رائحة البحر[11]

 

 ولعلّ موضوع «المنفى» من المواضيع الأساسيّة في شعر البرغوثي؛ فقد عانى منه كثيرًا، فهو المنفيّ الّذي لم يعرف الاستقرار في مكان، يقول في توقيعة «العتّال»:

قال المنفيّ:

أشواقي لكم

وجواهرُ ذاكرتي

أحملها كعتّالٍ

وأمشي

في طرقات العالم[12]

 

وفي الديوان نقد للواقع السياسيّ القائم في غالبه على الفساد والغشّ، كما في توقيعة «نزاهة»[13] الّتي تنتقد مصداقيّة الانتخابات ونزاهتها، الّتي تسيّرها الممارسات السياسيّة كيفما تشاء وتريد. أو في نقده لنوع من السياسيّين الّذين لا يثبتون على مبادئهم، بل هم يميلون بها حسب أهوائهم، كما في توقيعة «الباب الدوّار»[14]، ويشير في توقيعة أخرى إلى قضيّة في غاية الأهمّيّة في مجال السياسة، تتجلّى بالمقولة المعروفة «فرّق تسد»، ولعلّ عنوان التوقيعة «تكتيك» يشير إلى هذا التكتيك، أو إلى المخطّط نفسه[15]، وفي توقيعة «عالم ثالث» يقدّم البرغوثي رؤية خاصّة سلبيّة تجاه الأحزاب السياسيّة؛ إذ لا يرى لها أيّ دور باستثناء أنّها تحجّم وتقلّل دور مَنْ ينضمّ إليها، يقول:

قال القلم للمبراة:

أنت كبعض الأحزاب

يدخلها المرءُ

فتقصر قامته

ويضمر رأسه[16]

 

ولعلّ هذه الرؤية في التوقيعة تبيّن بوضوح قناعات الشاعر بعدم الانتماء إلى حزب أو اتّجاه خاصّ، وخاصّة في ما يتعلّق بالقضيّة الفلسطينيّة وتنوّع فصائلها وتكتّلاتها. وعلى الرغم من أنّ البرغوثي كان يعمل في «منظّمة التحرير الفلسطينيّة»، إلّا أنّه آثر أن يبقى حرًّا طليقًا لا ينطق بلسان حزب معيّن، وإنّما ينطق برؤيته الخاصّة[17].

 

المرأة

ومن المضامين والرؤى الّتي يتطرّق إليها البرغوثي موضوع المرأة؛ إذ نجده يتحدّث عنها بطريقة مختلفة عن المألوف، أي لا يتناولها بإطار التغزّل بها، بل على العكس تمامًا، يفاجئنا بحضور المرأة بطروحات جديدة تركّز على شخص المرأة وروحها وطبيعتها الإنسانيّة، ولا يقف عند حدود جمالها الخارجيّ، وهو يشير إلى ذلك بقوله: "لا أنشغل بفكرة المرأة المحبوبة، بل بامرأةٍ من نساء الأرض لها ملامحها، وليس ضروريًّا أن تكون أجمل امرأة على الأرض"[18]. يقول في توقيعة «المزهريّة»:

قالت المرأة الجميلة:

لا أريد أن أكون كالمزهريّة...

صفاتها لا تجذب الانتباه

إلّا إذا كانت فارغة[19]

 

وفي توقيعة «الروض العاطر»[20] نجد البرغوثي يقدّم لنا تفاصيل ومشاهد متعدّدة، لتشكّل في نهاية التوقيعة وصايا جميلة لفنّ التعامل مع المرأة. يؤسّس البرغوثي لوجهة شعريّة مختلفة في التعاطي مع موضوع المرأة؛ إذ يرى أنّ الشعر يتناول المرأة نمطًا ومثالًا في العادة، ويزعم أنّ شعر حرّيّة المرأة لا يختلف عن شعر التشبيب في شيء. وإنّ أهمّ شاعر متخصّص في الكتابة عن المرأة، في العالم العربيّ اليوم، وعن «حرّيّة المرأة» يقدّم لنا - في حقيقة الأمر - شعرًا ذكوريًّا عنصريًّا Sexist يتناول "تصوّر الرجل عن المرأة، ولا يقدّم لنا المرأة شعرًا. إنّه شعر غزل على أفضل الأحوال، لكنّه قطعًا ليس شعر حبّ، ولا شعر حرّيّة"[21].

وفي الديوان نقد للواقع السياسيّ القائم في غالبه على الفساد والغشّ، كما في توقيعة «نزاهة» الّتي تنتقد مصداقيّة الانتخابات ونزاهتها، الّتي تسيّرها الممارسات السياسيّة كيفما تشاء وتريد. أو في نقده لنوع من السياسيّين الّذين لا يثبتون على مبادئهم

وفي ضوء هذه الرؤية، نجد البرغوثي في كثير من التوقيعات يرفض استغلال جسد المرأة، ويركّز على علاقة الحبّ الحقيقيّ والصادق بين الرجل والمرأة، ونجده برؤيته الواضحة يرفض العلاقة العابرة، أو العلاقة الانتهازيّة من الرجل للوصول إلى جسد المرأة، كما في توقيعة «النّمَش»[22]. إذ إنّه يثمّن مبدأ «الالتزام» في العلاقة، ويرفض العلاقة العابرة، ويؤمن بعلاقة قائمة على الصدق والحبّ والوفاء والالتزام؛ لذلك يحاول أن ينقل بدقّة فنّيّة، وإيحاءات عميقة، معاني سيكولوجيّة تصف حقيقة علاقة الحبّ العابرة أو الخادعة للمرأة، كما في توقيعة «الكأس»[23].

 

سمات أسلوبيّة

تُعَدّ عمليّتا التكثيف والإيجاز من السمات الأساسيّة في توقيعات البرغوثي في ديوانه «منطق الكائنات»، إذ إنّ التكثيف – في حدّ ذاته - يختزن بداخله كثيرًا من المعاني والرموز والإشارات الّتي تصل إلى القارئ دون شرح أو تفصيل، والبرغوثي يشير إلى أهمّيّة هذه السمة بقوله: "وكثيرًا ما يكون تأثير النصّ ناجمًا عمّا اختزله، واستبعد قوله مباشرة، لا عمّا قاله فقط"[24]. والدهشة الّتي تثير فينا التعجّب أو التساؤل من أهمّ سمات التوقيعة في شعر البرغوثي، فالشاعر "يلتقط المدهش من المألوف، ويتحوّل ‘العاديّ على يديه وفي داخل النصّ إلى أمر مباغت‘"[25]. وأمّا السخرية فهي سمة أساسيّة في توقيعات البرغوثي، إذ تمتزج فيها فكاهة الموقف مع قسوة الواقع، وتتجلّى السخرية – على سبيل المثال - في توقيعته «الخازوق»، إذ يقول:

قال الخازوق وهو يطالع جرائد الصباح:

أكاد أموت من الضحك...

مقالات كثيرة تتغنّى بجمالي[26]

 

والمفارقة من أهمّ سمات قصيدة التوقيعة عند البرغوثي، وتُعَدّ المفارقة سمة واضحة في شعره كلّه، ولا تقتصر في ديوان «منطق الكائنات». في توقيعة «لا مفرّ» تتجلّى المفارقة بصورة واضحة ومدهشة، حين يقول:

قال الهارب وقد ضاق عليه الخناق:

يا إلهي، أين أختبئ

والمدينة ملآنةٌ بأصدقائي؟[27]

 

تتّضح المفارقة في هذه التوقيعة حينما رفض الهارب الاختباء عند أصدقائه، عندما ضاقت عليه الدنيا، على الرغم من كثرتهم، فما عاد الصديق وقت الضيق! بل أصبح الصديق خائنًا وعدوًّا.

 

البناء في الديوان

يظهر الأساس البنائيّ الّذي تقوم عليه التوقيعات في ديوان «منطق الكائنات»، باستخدام أسلوب القول في بداية كلّ توقيعة، فكلّ توقيعة في الديوان - دون استثناء - تبدأ بالفعل «قال» أو «قالت». ثمّ تتشكّل بعدها أنماط مختلفة من البنيات، ونستطيع أن نرصد ثلاثة أشكال للبنية في قصائد التوقيعة في ديوان «منطق الكائنات»:

أوّلًا: بنية التأزّم والانفراج

تقوم بنية معظم التوقيعات في ديوان «منطق الكائنات» على ظاهرة «التأزّم والانفراج»، أو بمسمًّى آخر «التحفّز والتفريغ». وهذه الظاهرة تعني "أنّ البيت الشعريّ الواحد، أو المقطعة الشعريّة، غالبًا ما يتألف أو يتشكّل من تركيبين لغويّين، في التركيب الأوّل يستثير الشاعر توقّع القارئ أو تحفّزه، وفي الثاني يُشْبِع هذا الشعور بالتحفّز"[28]، وقد سادت هذه البنية مجمل توقيعات الديوان، حيث جاءت مؤلّفة من وحدتين، الوحدة الأولى (تأزّم/ تحفّز/ علّة)، والوحدة الثانية (انفراج/ تفريغ/ معلول)، كما في المثال الآتي[29]:

قالت الأفعى |                                 (القول)

 

رغم أنّ البشر يلعنونني                       

أظلّ أفضل من بعضهم  |                (المقول/ الرأي)  / (تأزّم/ تحفّز/علّة)

 

وعندما ألدغ أحدًا

فإنّني، على الأقلّ                     

لا أدّعي صداقته    |                    (بيان التعليل والسبب)/ (انفراج/ تفريغ/ معلول)

              

ومعظم قصائد الديوان لها نفس البنية المعماريّة، من مثل "الباب الدوّار، السجن، السرج، دوجما...".

 

ثانيًا: بنية ترتكز على التفاصيل

تهتمّ هذه البنية بذكر التفاصيل للوصول إلى الهدف أو النتيجة النهائيّة، وهي تمثّل مظهرًا مهمًّا في التوقيعة الشعريّة، حيث يستغرق الشاعر في تتبّع التفاصيل للوصول إلى حدّ الإشباع في توقيعته، ويتجلّى ذلك من خلال تقديم مجموعة من المشاهد المختلفة، حتّى يصل عبرها إلى الصورة النهائيّة. يقول في توقيعة «قالت الكاميرا»:

العشاء

بنعومة ورفق،

مرَّ بأصابعه على خدِّها،

وقدّم لها القرنفلة.

الشمعةُ تبعثُ ضوءًا طازجًا.

عازف البيانو

يعزف سوناتا لشوبان.

الهواء له رعشةٌ يخالطها سكون

قَبَّلَتْه على وجنته

احتضنت يديه بيديْها.

أحضر النادلُ العشاء.

رفعت الشوكةَ باتّجاه شفتيه

قالت بإلحاحٍ وديع:

عليك أن تذوق هذه اللقمة أوّلًا

...  ...  ...

كانا في الثمانين[30]

 

والبرغوثي يكتب مجموعة من توقيعات الديوان ضمن هذه البنية، وتحت عنوان واحد متكرّر في كلٍّ منها "قالت الكاميرا". ولعلّ عنوان التوقيعات «الكاميرا»، يشير إلى تقنيّات أسلوبيّة تلتقط المشاهد والتفاصيل والصور، كما تلتقط الكاميرا الحقيقيّة مشاهدها.

 

ثالثًا: بنية قائمة على المقابلة

تتجلّى هذه البنية من خلال عرض حالتين متقابلتين بعلاقة من التضادّ أو التوازي، وهي تتكوّن – عادة - من شقّين أو صورتين، الصورة الأولى تتعارض مع الصورة الثانية، كما في توقيعته الّتي يقول فيها:

قالت ربّة البيت:

الغسّالة الأتوماتيكيّة الفخمة

لا تدخلها إلّا الملابس المتّسخة

وحبل الغسيل المشبوح بين مسمارين

لا يحمل إلّا ما هو نظيف[31]

 

فهذه التوقيعة تقوم بنيتها على صياغة صورتين متقابلتين متناقضتين، وتكرار التركيب اللغويّ فيها لتوضيح القصد وإظهار المعنى، وكما يُقال "النقيض بالنقيض يظهر"؛ إذ جاءت صورة الغسّالة الأتوماتيكيّة الفخمة، وما فيها من ملابس متّسخة، لتقابلها صورة على التناقض معها، صورة الحبل وما يحمله من ملابس نظيفة.

 

اللغة في الديوان

تمتاز اللغة في ديوان «منطق الكائنات» باعتمادها على معجم خاصّ ينهل – بالدرجة الأولى - من الحياة اليوميّة، فهو يلتفت إلى كلّ ما هو عاديّ، وهامشيّ، ومهمل، وبسيط، في حياتنا اليوميّة؛ لذلك يلجأ في معظم توقيعاته إلى توظيف مفردات وألفاظ وتراكيب، مستمدّة من مشاهد الحياة العاديّة واليوميّة المعيشة، نذكر على سبيل المثال: الحزام وحبل الغسيل والمخدّة، ويمكنه أن يقول الوسادة بدل المخدّة، لكنّ البرغوثي ينتقي هذه المفردات دون غيرها لضرورتها ومناسبتها للعبارة الشعريّة، الّتي عادة تكون مكتنزة بالدلالات العميقة، والإيحاءات الخاصّة الّتي يريد البرغوثي إثارتها عند المتلقّي. ونجد كذلك أنّ معظم عناوين القصائد في الديوان مستلّ من الواقع والحياة اليوميّة، مثل «العلكة»، و«الخازوق»، و«العقرب»، و«النرد»، و«كرسيّ الحلّاق»، و«الأخرس»، و«الكعب العالي»، و«المخدّة»، و«الفخّ»، و«المزهريّة»، و«العتّال»، و«النمش»...

فاللغة الّتي يؤلّف منها البرغوثي رؤاه الشعريّة لغة تتميّز في بساطتها، لكنّها – في الوقت نفسه - لا تبتعد عن الجمال وقوّة التأثير. وهي ليست لغة الخطابات الثوريّة والسياسيّة، وإنّما لغة هادئة، ذات نبرة خافتة، تنهل من معين الحياة والمشاهد اليوميّة العاديّة

أمّا الميزة الثانية للغة عند البرغوثي في ديوانه «منطق الكائنات»، فهي «البساطة اللغويّة»؛ فاللغة الّتي يؤلّف منها البرغوثي رؤاه الشعريّة لغة تتميّز في بساطتها، لكنّها – في الوقت نفسه - لا تبتعد عن الجمال وقوّة التأثير. وهي ليست لغة الخطابات الثوريّة والسياسيّة، وإنّما لغة هادئة، ذات نبرة خافتة، تنهل من معين الحياة والمشاهد اليوميّة العاديّة.

والميزة الثالثة للغة عند البرغوثي في ديوانه هذا – تحديدًا - تتجلّى بـ «الاقتصاد اللغويّ»، القائم على التكثيف والاختزال؛ لذلك فإنّ كلّ توقيعة تعتمد على اصطياد المفردة الدالّة الّتي تدعم بنيتها، وتسقط من جعبتها المفردة الّتي يمكن أن تكون حشوًا، فكلّ مفردة لها دورها الّذي تقوم به، ويعتمد الشاعر الحاذق على المبالغة في هذا الدور، عن طريق اختيار المفردات وتوزيعها توزيعًا مناسبًا[32].

وأخيرًا، وإضافة إلى ما سبق، تمتاز اللغة في ديوان «منطق الكائنات» بثرائها بالطاقات التعبيريّة، والإيحاءات الكثيرة، وجاءت في مجملها مُحْكَمَة البناء اللغويّ، معبّرة عن رسالة الشاعر الّتي يريد إيصالها إلى المتلقّي، وقد تجلّى ذلك في كلّ توقيعة من توقيعاته.

 


إحالات:

[1] حسين كيازي، وسيّد قادري، «الومضة الشعريّة وسماتها»، مجلّة اللغة العربيّة وآدابها، العدد 9، جامعة الكوفة، العراق، 2010.

[2] حفناوي بعلي، «شعريّة التوقيعة»، مجلّة الموقف الأدبيّ، العدد 373، اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 2005. 

[3] مريد البرغوثي، «حتّى يقف الكلام على قدميه: نظرة في الشعر والشاعر»، مجلّة أدب ونقد، مصر، مجلّد 3، عدد 27، 1986.

[4] مريد البرغوثي، الأعمال الشعريّة الكاملة، ج 1، «منطق الكائنات»، قصيدة «مساواة»، ص 506.

[5] المرجع نفسه، قصيدة «انتباه»، ص 538.

[6] المرجع نفسه، قصيدة «الأفعى»، ص 499.

[7] المرجع نفسه، قصيدة «المداخن»، ص497.

[8] إبراهيم خليل، من معالم الشعر الحديث في فلسطين والأردنّ، دار مجدلاوي، ط 1، الأردنّ، 2006، ص 201.

[9] مريد البرغوثي، المرجع نفسه، قصيدة «المكيدة»، ص 496.

[10] المرجع نفسه، قصيدة «القضيّة»، ص 530.

[11] المرجع نفسه، قصيدة «بلادي بلادي»، ص 535.

[12] المرجع نفسه، قصيدة «العتّال»، ص 577.

[13] المرجع نفسه، قصيدة «نزاهة»، ص 510.

[14] المرجع نفسه، قصيدة «الباب الدوّار»، ص 501.

[15] المرجع نفسه، قصيدة «تكتيك»، ص 525.

[16] المرجع نفسه، قصيدة «عالم ثالث»، ص 495.

[17] مريد البرغوثي، رأيت رام الله، دار الشروق، ط 4، مصر، 2017، ص 67-68.

[18] مريد البرغوثي، «حرّيّة الإبداع»، مجلّة فصول، مصر، مجلّد 11، العدد 3، 1992.

[19] المرجع نفسه، قصيدة «المزهريّة»، ص 564.

[20] المرجع نفسه، قصيدة «الروض العاطر»، ص 567.

[21] مريد البرغوثي، «حرّيّة الإبداع»...

[22] مريد البرغوثي، المرجع نفسه، قصيدة «النّمش»، ص 582.

[23] المرجع نفسه، قصيدة «الكأس»، ص 573.

[24] مريد البرغوثي، «حتّى يقف الكلام على قدميه...».

[25] مريد البرغوثي، «حرّيّة الإبداع»...

[26] مريد البرغوثي، المرجع نفسه، قصيدة «الخازوق»، ص 511.

[27] المرجع نفسه، قصيدة «لا مفرّ»، ص 536.

[28] علي الشرع، بنية القصيدة القصيرة في شعر أدونيس، منشورات اتّحاد الكتّاب العرب، دمشق، 1987، ص 58.

[29] مريد البرغوثي،، قصيدة «الأفعى»، ص 499.

[30] المرجع نفسه، قصيدة «قالت الكاميرا»، ص 594.

[31] المرجع نفسه، قصيدة «الحَبْل»، ص 498.

[32] أحمد الصفير المراغي، بناء قصيدة الإبيجراما في الشعر العربيّ الحديث، دار العلم والإيمان للنشر والتوزيع، ط 2، مصر، 2013، ص 63.

 

* هذه المقالة مأخوذة عن بحث مقبول للنشر في مجلّة «مجمع اللغة العربيّة الأردنيّ» في تاريخ 02/12/2019.

 


 

صفاء المهداوي

 

 

أكاديميّة وباحثة من الأردن، حاصلة على درجة الدكتوراه في النقد الأدبيّ الحديث والشعر العربيّ المعاصر من «الجامعة الأردنيّة». تعمل اليوم محاضرةً في «كلّيّة لومينوس الجامعيّة التقنيّة».