لا أذكر متى بدأت أشاهد فلسطين وأرسم صورتها... ربّما منذ قبل ولادتي. بالمناسبة، وُلِدْتُ في جبل لبنان في الثمانينات.
تبعد قريتي عن أوّل قرية فلسطينيّة في إصبع الجليل نحو 70 كيلومترًا.
وبالمناسبة أيضًا، لم أعرف حارات بيروت الّتي تبعد عن قريتي نحو 35 كيلومترًا إلّا في أواخر التسعينات، ولكنّي عرفت دمشق منذ الطفولة. تبعد دمشق عن قريتي 80 كيلومترًا. كنت أعتقد دائمًا أنّها أقرب من بيروت... ربّما بسبب تعطّل شبكة المواصلات بين جبل لبنان وبيروت، خلال الحرب الأهليّة الّتي بدأت قبل ولادتي. كانت دمشق عبر سهل البقاع أقرب، كانت المدينة الّتي نعرف ونقصد للتبضّع، كانت أيضًا المدينة الّتي هرعنا إليها بضع مرّات بسبب الحرب.
المهمّ... لم أكن أعرف أنّ إصبع الجليل أقرب من دمشق، أو أنّه تقريبًا على المسافة ذاتها من عالم طفولتي. ولم أكن أعرف أنّ بيروت هي – جغرافيًّا - الأقرب إلى قريتي.
المهمّ... لم أكن أعرف أنّ إصبع الجليل أقرب من دمشق، أو أنّه تقريبًا على المسافة ذاتها من عالم طفولتي. ولم أكن أعرف أنّ بيروت هي – جغرافيًّا - الأقرب إلى قريتي.
كنت أشاهد فلسطين منذ قبل أن أدرك أنّ معرفتي بها بدأت من خلال إذاعة الاحتلال؛ فالبداية كانت مع «حال الطقس»، حين كنت أسمع والديّ والجيران يتكلّمون عن حال الطقس، ويقولون إنّ إذاعة الاحتلال أدقّ في وصف تقلّبات الطقس، في الساعات والأيّام القادمة، من الإذاعات المحلّيّة في لبنان. عرفتُ أنّ فلسطين محتلّة، وأنّ مَنْ احتلّها متقدّم في قياس حال الطقس.
ثمّ عرفت أنّ احتلالها مخيف جدًّا من خلال الحديث عمّا جرى للناس في الانتفاضة الأولى، ثمّ عرفت أنّ احتلالها سياسيّ أيضًا، من خلال الحديث عن «اتّفاقيّة أوسلو» والانكسار الكبير الّذي أنتجته، ثمّ عرفت أنّ احتلالها ثقافيّ أيضًا، من خلال محاولات تهويدها ومسح هويّتها وعزلها عن امتدادها الجغرافيّ. تترافق هذه الأحاديث الّتي تُظهر تقدّم الاحتلال وقدرته على إثارة الرعب، وتحقيق الفوز السياسيّ والعنجهيّة الثقافيّة، بحديث رقيق مرّة عن جمال فلسطين وشبهها بجغرافيّة لبنان – حال الطقس إن حكت - ومرّة عن قوّة أهلها واستبسالهم على الرغم من ضعف قدراتهم... وبحديث مزعج دومًا عن انهزام سياسيّيها وسياسيّي المنطقة كلّها أمام جبروت الاحتلال.
كانت المعادلة الفطرة في مخيّلتي... فلسطين جميلة، وناسها أقوياء، وثقافتها غالبة، والاحتلال ظالم ووحشيّ، وما يسهّل عمله هو الاستسلام أمامه والقبول بشروطه.
تتالت السنوات، واستمرّ عدوان الاحتلال علينا جميعًا. غارات وحملات عسكريّة قطّعت الأوصال، ودمّرت كلّ ما يُبنى، وأقامت المجازر واحدة تلو الأخرى. كانت الفطرة دائمًا تثبت نجاحها، كلّما اعتدى علينا الاحتلال، واشتكينا إلى «مجلس الأمن الدوليّ» مثلًا. لم يرتدع الاحتلال، واستمرّ في إجرامه. كلّما أعددنا ردودًا وقاومنا ورفضنا شروطه تقدّمنا خطوة. فلم أعرف جنوب لبنان مثلًا قبل عام 2000 مع تحريره، وانسحاب قوّات الاحتلال منه بعد سنوات من المقاومة والنضال الشعبيّ، والرفض العامّ لوجوده وشروطه وعنجهيّته.
ثمّ شاهدتُ أطراف فلسطين مرّات عدّة من وراء شريط حدوديّ يسجننا معًا، وشاهدت أطرافها من وراء نافذة الطائرة المتوجّهة من عمّان إلى بيروت، وشاهدت ناسها المقيمين في لبنان، وشاهدت شوارع منها من خلال إتاحة خرائط غوغل لهذه الخاصّيّة، وشاهدت الكثير من صورها في حقبات مختلفة. وفي كلّ مشاهدة كانت الجغرافيا تعود لتذكّر بالمسافة والبُعد والبؤس، وفي كلّ مشاهدة تعود الفطرة لتثبت نفسها.
كيف فات الاحتلال أنّ الطقس في الساعات والأيّام القادمة سيكون امتدادًا للجغرافيا وغلبةً للهويّة؟
تهبّ فلسطين غير مرّة... يُعْلَن فشل الهبّة فتنجح، نجاحات غريبة يصعب وصفها، ولم يستطع الاحتلال الحدّ منها. مثلًا تقدّم فلسطين أثمانًا ضخمة، وتكون النتيجة أن يدرك ولد إضافيّ أنّه فلسطينيّ وعليه الاستمرار لاسترجاع حقّه. تضحّي فلسطين بجيل كامل كي يولَد جيل جديد يحمل خريطة بلاده ويرفع علمها. نجاح فطريّ غريب... يتفوّق على تقدّم الاحتلال في قياس حال الطقس، وعلى قدرته المهولة في بثّ الذعر، وعلى سهولة المنازلة السياسيّة لديه، وعلى اعتقاده أنّ هذا كلّه هو تفوّق ثقافيّ له.
كيف فات الاحتلال أنّ الطقس في الساعات والأيّام القادمة سيكون امتدادًا للجغرافيا وغلبةً للهويّة؟
من قريتي في جبل لبنان، بفطرة لازمتني، ولم تستطع أبحاث العالم كلّه إيجاد معادلة أوضح وأنجح منها... أشاهد فلسطين تهبّ. تقول عكس ما قيل، وتعمل عكس ما رُسم، وتجعل طقسها عصيًّا على القياس، بأدوات احتلال لمّا يفهم بعد كيف يدمّر ولد من أرضنا سقف السماء على رأسه... وينجح... وننجح.
كاتبة من لبنان. مختصّة في تأسيس المشاريع الثقافيّة وإدارتها. مؤسِّسة مبادرة لـ «مِعْزَفْ للموسيقى الأصيلة في المشرق».