ربّما تكون الكتابة عمّا يحدث، مجرّد مشاركة في الاستماع إلى اللغة الواحدة الّتي ينطق بها الحدث الاستثنائيّ بمعانيه، ونقل هذه اللغة إلى أكبر عدد ممكن من الجهات؛ ففي هذه اللحظة الفارقة والمهمّة، لم أعد بعيدة، حتّى لو كنت في الشتات. تطلّ الصورة واضحة، بلا بلاغة أو مؤثّرات، القصف موجود هنا قربنا، ويصير البيت متاخمًا لنا، يتغيّر الزمن وكأنّه يريد أن يسرد أحداثًا تقيم في داخلنا طويلًا، وتجيب عن أسئلة كنّا نطرحها على طريقتنا.
يسقط البيت على الأرض، فنتذكّر كم الطريق طويل إلى البيت، لكنّه الآن صار قريبًا، تأخذني صور النساء اللواتي يحملن الجرار ويَعُدْنَ إلى البيت قبل «النكبة»، إلى حقيقة أنّ البيت بالنسبة إلينا هو ذلك الحلم...
لكنّها طريقة واحدة الآن، هي الوقوف مجدّدًا، والدخول إلى هذا المشهد الجميل والمؤلم في الوقت نفسه، المشهد الحيّ الّذي اسمه فلسطين كلّها، من البحر إلى النهر، والشتات أيضًا. تأتي الصور من غزّة كأنّها أجزاء من حياة تتناثر أمامنا، نعلّق أمامها كلماتنا ونعلم أنّها هي مَنْ تتحدّث عن نفسها، نحن فقط نترجمها إلى لغة نفهمها ونعرفها، وحاول الاحتلال أن يمحوها، وهي لغة الحقيقة.
يسقط البيت على الأرض، فنتذكّر كم الطريق طويل إلى البيت، لكنّه الآن صار قريبًا، تأخذني صور النساء اللواتي يحملن الجرار ويَعُدْنَ إلى البيت قبل «النكبة»، إلى حقيقة أنّ البيت بالنسبة إلينا هو ذلك الحلم، الحلم الّذي كلّما سقط على الأرض، كلّما تابعنا السير نحوه. هكذا أحمل جرّتي وكأنّي أريد أن أفعل شيئًا، ولكنّي أعلم أنّها مسيرة حياة كاملة لطريق خاصّ نختاره ليأخذني إلى مكاني الحقيقيّ.
لذلك، أدخل في هذه الصور وأنا أشعر بأنّ بطولتها ليست كما يُقال أو يُكْتَب، إنّها الإبداع الّذي تخلقه القوّة الّتي تأتي من الهشاشة، والثبات القادم أحيانًا من الخوف؛ فتلك الابتسامة الّتي تطلّ من الشيخ جرّاح على الاحتلال وعلى العالم، لا تقول إلّا كلمة واحدة هي: لا. لكنّها تقولها بثقة وحتّى بلا صراخ. تغيب الشكوى ويحضر الأمل وكأنّه الكلمة الّتي تعيد ترتيب الألم فحسب، بل تخلق منه محاولة لترسيخ معناه داخل القلوب والبيوت؛ فالطفل والطفلة اللذان أنقذا السمكة، لم يفكّرا في الأمر على أنّه مغامرة، كانت تلقائيّة الحدث وعفويّة الصورة هي أنّ الكائنات تتعذّب معنا، الشجر والسمك والقطط وحتّى الحجر.
تصبح فلسطين هنا أكبر في حدودها، لتعني أشياء وكائنات ونباتات وحجرًا أيضًا. نتعلّم من الصورة ألّا نبقى مثل متفرّجين، إنّها تأخذنا نحو معنًى أكبر هو أن نلغي دورنا هذا لنتحدّث معها، لننبش عن معانيها. منذ لحظة مشاركة الصور على فيسبوك حتّى الحديث عنها مع أصدقاء أو الكتابة عنها، نفكّر في أمور أكبر، ربّما في جعلها أفلامًا قصيرة كما فعل البعض، هكذا تصبح أسئلتنا بسيطة كما الصورة، وتطالبنا بأن تكون لغتنا مثلها سهلة وممتنعة، تلقائيّة وقويّة، يطلّ عليها الموت، فتبتسم.
يأتي الفنّ في هذه اللحظة، أيضًا مجرّد محاكاة لقوّة تلك الصورة الّتي تتحدّث عن سرديّتنا كأصحاب حقّ وعن احتلال يريد محونا من الوجود، وبهذا يكون فيلم «إحنا المكان» لعمر رمّال، مثل محاولة لإيجاز هذه المعاني، أو وضعها في كلمات صغيرة وصورة تريد أن تعكس قوّة الحقّ، واللحظة الّتي يُطْرَد فيها أصحاب البيت، هي لحظة يكونون فيها منشغلين بالحديث عن حبّهم للمطبخ وللحديقة والدار؛ لحظة مربكة وتعكس ما حدث في كلّ هذه السنوات دون أن يشرح ذلك، بل يشير إليه في إيماءة قويّة وعفويّة.
ومن هنا ربّما نتعلّم أنّنا سنركّز على هذه اللحظات الّتي تقول كلّ شيء عن حقيقة الاحتلال بكلمات بسيطة وعاديّة، وبصورة قويّة مثل الصورة الحقيقيّة. وهنا أذكر ما قاله الفرنسيّ روجيز دوبريه في كتابه «حياة الصورة وموتها»، حيث يشير إلى أنّه سيكون إيلاء الأهمّيّة للفضاءات الباطنيّة اللامرئيّة، وذلك عبر الشعر والقراءة والكتابة؛ لأنّ في رأيه أنّنا سنضطرّ عاجلًا أو آجلًا إلى الحدّ من الامتيازات الّتي تحظى بها الصورة. ورغم أنّي أوافقه ولا أوافقه في نفس الوقت؛ لأنّ ما يحدث يتطلّب وعيًا خاصًّا، أرى أنّنا من المهمّ أن نولي أهمّيّة للصورة، وفي نفس الوقت في ما يشابهها من فنون، لتصل كما هي، كي تنشط مخيّلة العالم، كما يقول جان جاك روسو: "بمقدار ما نرى أقلّ، بمقدار ما تنشط مخيّلتنا أكثر".
ومن هنا ربّما نتعلّم أنّنا سنركّز على هذه اللحظات الّتي تقول كلّ شيء عن حقيقة الاحتلال بكلمات بسيطة وعاديّة، وبصورة قويّة مثل الصورة الحقيقيّة.
اسمح لي يا روسو أن أبحث عن الصور الّتي تحكي عنّا وأشاركها مع هذا العالم، أليست الحكايا الّتي سمعناها في الشتات ذاكرة من صور، تعلّمنا أن نحفظها في الذاكرة؟ أليست شجرة السدرة الّتي حدّثتني عنها جدّتي، والّتي تكبر، وما زالت، في وسط قريتنا في الغابسيّة، في الجليل الأعلى، شاهد كبير على الاقتلاع الهمجيّ الّذي حدث. ما زالت تلك الشجرة في مخيّلتي كلّما فكّرت في الغابسيّة، وستبقى، وكأنّها كانت معي يومًا، وكأنّي عشت هناك. أتخيّلها وأنا أريد أن أقول إنّني أذكرها جيّدًا، كانوا يعلّقون فوقها الثياب، حتّى تتحقّق لهم الأمنيات.
ربّما بقيت تلك الأمنيات تلوح فوق الشجرة، أراها الآن تتفتّح مثل أزهار، حين نقترب منها. حملنا هذه الحكايات، مثل مجموعة صور، لم يكن ثمّة كاميرا، لكن كاميرا الزمن كانت حاضرة، وها نحن نجمع أكبر عدد ممكن من الصور، ونؤرشفها في الذاكرة، حتّى تحين العودة، ولتبقى شاهدة على الحقّ.
فلسطينيّة مقيمة في لبنان، صدر لها ثلاثة مجموعات شعريّة، تكتب في الصحافة الثقافيّة. فاز ديوانها «العشب بين طريقين»، بجائزة عبد المحسن القطّان 2019.